أقلام فكرية
زهير الخويلدي: التمييز المفهومي والسياقي بين السؤال الفلسفي والإبداع الفني

مقاربة تداولية
"الفلسفة هي أكثر من مجرد تخصص أكاديمي؛ فهي طريقة لرؤية العالم والتفاعل معه".
نسعى من خلال هذا العنوان إلى تعميق فهمنا للتمييز المفهومي والسياقي بين السؤال الفلسفي والإبداع الفني من خلال مقاربة تداولية، مع التركيز على كيفية تشكل المعاني والوظائف في سياقات تواصلية مختلفة. يمثل السؤال الفلسفي أداة أساسية للتفكير النقدي، بينما يُشكل الإبداع الفني تعبيرًا جماليًا وعاطفيًا. على الرغم من التقاطعات بينهما في استكشاف القضايا الإنسانية، إلا أن الفروقات في الأهداف، المنهجيات، والسياقات تظل جوهرية. في هذا التوسع، سيتم تقديم أمثلة إضافية وتحليل أعمق لأعمال فنية وأسئلة فلسفية محددة، مع التركيز على وظائفها التداولية وتأثيرها في سياقاتها. فلماذا اعتبر البعض "الفلسفة تقدم إجابات غير مفهومة لأسئلة غير قابلة للحل"؟ هل يمكن للفن تعويضها؟ وماهي الفروقات من جهة المفهوم والسياق بين السؤال والابداع في الفلسفة والفن من وجهة نظر تداولية؟ وألا توجد تقاطعات عديدة بينهما؟ وماهي تبعات هذه التقاطعات على الصعيد الأكسيولوجي والتأويلي؟
المقاربة التداولية
"قبل أن تبدأ في الفعل، عليك أن تفكر وتتروى وتتداول في الأمر مع غيرك..."
المقاربة التداولية، المستندة إلى أعمال جون أوستن وجون سيرل، تركز على الأفعال الكلامية وكيفية تحقيق اللغة والتعبير لوظائف محددة في سياقات اجتماعية وثقافية. يُمكن تحليل السؤال الفلسفي كفعل استفساري يهدف إلى استكشاف الحقيقة أو تحليل المفاهيم، بينما يُعد الإبداع الفني فعلًا تعبيريًا يسعى إلى إثارة العواطف أو تقديم رؤى جمالية. يتم تحديد المعنى في كلا المجالين بناءً على النوايا، توقعات الجمهور، والسياقات المؤسساتية.
التمييز المفهومي
"السؤال ليس: هل يستطيع الناس التفكير؟ أو هل يستطيعون التكلم؟ بل: هل يستطيعون المعاناة؟"
السؤال الفلسفي
"يكون السؤال فلسفيًا عندما يطرح مشكلة تتعلق بعلاقتنا بأنفسنا، أو بالآخرين، أو بالدولة، أو بالطبيعة، أو بالقيم."
السؤال الفلسفي هو أداة تحليلية تُستخدم لاستكشاف قضايا جوهرية مثل الوجود، المعرفة، والأخلاق. يتميز بما يلي:
الطبيعة الاستفسارية: يهدف إلى فحص المفاهيم أو تحدي الافتراضات. على سبيل المثال، سؤال ديكارت "كيف يمكنني أن أتأكد من وجودي؟" يفتح نقاشًا حول اليقين والذات.
المنهج المنطقي: يعتمد على الحجج العقلية والتحليل النقدي.
الهدف المعرفي: يسعى إلى إنتاج فهم أعمق، حتى لو لم يُقدم إجابات نهائية.
الإبداع الفني:
"لو كان العالم واضحًا، لما كان الفن موجودًا."
الإبداع الفني هو تعبير إبداعي يتجسد في أشكال مثل الشعر، الرسم، أو الموسيقى، ويتميز بما يلي: الطبيعة التعبيرية: يعبر عن رؤى شخصية أو ثقافية. على سبيل المثال، لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو تعبر عن فظائع الحرب الأهلية الإسبانية.
الطابع الجمالي: يهدف إلى إثارة تجربة حسية أو عاطفية.
الهدف التجريبي: يركز على تحفيز التأمل أو التأويل بدلاً من تقديم حقائق.
الفروقات المفهومية
"الأسئلة، أكثر من الإجابات، هي ما يُظهر سعة العقل. الأسئلة لا تُزعجنا أبدًا، لكن أحيانًا تكون الإجابات كذلك."
الهدف: السؤال الفلسفي يهدف إلى المعرفة، بينما الإبداع الفني يسعى إلى التجربة.
المنهج: السؤال الفلسفي منطقي وتحليلي، بينما الإبداع الفني خيالي وحسي.
النتيجة: السؤال الفلسفي ينتج مفاهيم أو نظريات، بينما الإبداع الفني ينتج أعمالًا مفتوحة للتأويل.
التمييز السياقي: تحليل تداولي مع أمثلة
"السؤال الفلسفي هو تساؤلٌ حول علاقتنا بالعالم، والآخرين، وأنفسنا. وهو يتطرق إلى جوانب أساسية، كالمعرفة (الصواب والخطأ) ، الأخلاق (الخير والشر) أو الجمال (الجمال والبشاعة)"
سياق السؤال الفلسفي
" الحكيم لا يعطي الإجابات الصحيحة، بل يسأل الأسئلة الحارقة "
مثال 1: سؤال نيتشه "هل نعيش زمن الانسان الأخير؟"
السياق: طُرح هذا السؤال في كتاب "هكذا تكلم زرادشت" (1883-1885) في سياق نقدي للقيم الدينية والأخلاقية في أوروبا القرن التاسع عشر. يعكس السؤال أزمة المعنى في عصر التنوير.
الجمهور المستهدف: القراء الفلاسفة والمثقفون المهتمون بقضايا الأخلاق والدين.
الوظيفة التداولية: فعل كلامي استفساري يتحدى الافتراضات الدينية التقليدية، داعيًا إلى إعادة تقييم القيم. يتوقع نيتشه من جمهوره التفكير النقدي والمشاركة في نقاش فلسفي.
القواعد التداولية: يخضع السؤال لتوقعات المنطق والحجة، حيث يُطالب الجمهور بتقديم ردود مدعومة بالتحليل.
مثال 2: سؤال مارتن هيدجر "ما هو الوجود؟"
السياق: طُرح في كتاب "الوجود والزمان" (1927) في سياق أنطولوجي يهدف إلى فهم طبيعة الوجود البشري.
الجمهور المستهدف: الفلاسفة والطلاب المهتمون بالوجودية والأنطولوجيا.
الوظيفة التداولية: يهدف إلى تحفيز التفكير في طبيعة الوجود نفسه، مع التركيز على التجربة الإنسانية. يُعتبر فعلًا كلاميًا استفساريًا يفتح المجال لتأملات عميقة.
القواعد التداولية: يتطلب من الجمهور الانخراط في تحليل مفاهيمي دقيق، مع الالتزام بالتماسك الفلسفي.
سياق الإبداع الفني
"يهدف الفن إلى طبع المشاعر فينا بدلاً من التعبير عنها."
مثال 1: لوحة "غيرنيكا" لبابلو بيكاسو (1937)
السياق: رُسمت اللوحة كرد فعل على قصف مدينة غيرنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية، في سياق سياسي وثقافي مشحون. عُرضت في معرض باريس الدولي عام 1937.
الجمهور المستهدف: الجمهور العام، بما في ذلك السياسيون، عشاق الفن، والناشطون المناهضون للحرب.
الوظيفة التداولية: فعل كلامي تعبيري يهدف إلى إثارة مشاعر الرعب والتعاطف، مع انتقاد العنف والفاشية. تستخدم اللوحة رموزًا مثل الحصان المعذب والأم الثكلى لنقل رسالة إنسانية.
القواعد التداولية: لا تخضع اللوحة لقواعد منطقية صارمة، بل تتيح للجمهور تأويلات متعددة بناءً على تجاربهم الشخصية والثقافية.
مثال 2: رواية "الغريب" لألبير كامو (1942)
السياق: كتبت في سياق الحرب العالمية الثانية، تعكس الرواية الفلسفة العبثية التي تستكشف عدم وجود معنى جوهري للحياة.
الجمهور المستهدف: القراء الأدبيون والمهتمون بالفلسفة الوجودية.
الوظيفة التداولية: فعل تعبيري يقدم تجربة سردية تثير التأمل في العبثية والحرية. شخصية ميرسو، التي تتصرف بلامبالاة تجاه المعايير الاجتماعية، تدعو الجمهور إلى التفكير في القيم التقليدية.
القواعد التداولية: تتيح الرواية حرية التأويل، حيث يمكن للقراء استخلاص معانٍ مختلفة بناءً على سياقاتهم الشخصية.
مقارنة السياقات
"لإنشاء عمل فني فريد وأصلي، عليك أن تكون عبقريًا. "
الإطار التواصلي: السؤال الفلسفي يعمل في إطار نقدي يتطلب الوضوح والمنطق، بينما الإبداع الفني يعمل في إطار تعبيري يحتضن الغموض والتعددية.
توقعات الجمهور: يتوقع جمهور السؤال الفلسفي حججًا منطقية، بينما يتوقع جمهور الإبداع الفني تجربة عاطفية أو تأملية.
السياق المؤسسي: السؤال الفلسفي يرتبط بالأكاديميات والنقاشات الفكرية، بينما الإبداع الفني يرتبط بالمعارض، المسارح، أو الأدب.
التقاطع بين السؤال الفلسفي والإبداع الفني
"الفلسفة مفيدة للبشرية بقدر فائدة الفن. لولا الفلسفة لعشنا حياةً عبثية. التفكير في الغد هو ممارسةٌ للفلسفة والفن."
تقاطع في الأعمال الفنية ذات البعد الفلسفي
بعض الأعمال الفنية تتجاوز التعبير الجمالي لتطرح أسئلة فلسفية صريحة، مما يجعلها جسراً بين المجالين:
مثال: مسرحية "في انتظار جودو" لصموئيل بيكيت (1953)
السؤال الفلسفي الضمني: "ما معنى الانتظار في حياة بلا معنى؟" تعكس المسرحية فلسفة العبث، حيث ينتظر الشخصيات (فلاديمير وإستراجون) شخصية "جودو" التي لا تأتي أبدًا.
السياق التداولي: المسرحية فعل تعبيري يقدم تجربة جمالية، لكنه يحمل سؤالًا فلسفيًا يدعو الجمهور إلى التفكير في الوجود والزمن. على عكس السؤال الفلسفي الصريح، يتم طرح السؤال بشكل ضمني من خلال الحوارات والرموز.
التأثير: يحفز الجمهور على التأمل دون تقديم إجابات، مما يجمع بين الوظيفة التعبيرية للفن والوظيفة الاستفسارية للفلسفة.
مثال: لوحة "الصرخة" لإدفارد مونش (1893)
السؤال الفلسفي الضمني: "ما طبيعة القلق الوجودي؟" تعبر اللوحة عن حالة نفسية من القلق والاغتراب في العالم الحديث.
السياق التداولي: كفعل تعبيري، تستخدم اللوحة الألوان والتشكيلات لنقل تجربة عاطفية، لكنها تثير أسئلة فلسفية حول الوجود والمعاناة.
التأثير: تدعو الجمهور إلى التأمل في حالتهم الوجودية، مما يجعلها أقرب إلى الفلسفة في وظيفتها الاستفسارية.
تقاطع في الأسئلة الفلسفية ذات البعد الفني
"الفن هو ثمرة إبداع الناس الأحرار."
بعض الأسئلة الفلسفية تُطرح بأسلوب يحاكي الإبداع الفني، مما يعزز جاذبيتها الجمالية:
مثال: أسئلة زرادشت عند نيتشه
في كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، يستخدم نيتشه لغة شعرية ورمزية لطرح أسئلة فلسفية مثل "كيف يمكن للإنسان أن يتجاوز نفسه؟". هذا الأسلوب يجمع بين التحليل الفلسفي والتعبير الفني.
السياق التداولي: الأسئلة تُطرح بأسلوب أدبي يجذب القراء عاطفيًا، مما يجعلها أقرب إلى الإبداع الفني في قدرتها على إثارة التجربة الجمالية.
التأثير: تجمع بين الوظيفة الاستفسارية (تحفيز التفكير النقدي) والوظيفة التعبيرية (إثارة العواطف).
تحليل تداولي
المقاصد التداولية: في السؤال الفلسفي، يكون مقصد المُرسل (الفيلسوف) هي تحفيز النقاش المعرفي، كما في سؤال هيدغر "ما هو الوجود؟" الذي يهدف إلى إعادة تعريف الأنطولوجيا. في المقابل، تكون نية الفنان في الإبداع الفني إثارة تجربة ذاتية، كما في "غيرنيكا" التي تهدف إلى نقل معاناة الحرب.
توقعات الجمهور: يتوقع جمهور السؤال الفلسفي إجابات أو نقاشات منطقية، بينما يتوقع جمهور الفن تجربة مفتوحة التأويل. على سبيل المثال، يمكن لـ"الغريب" أن تُفسر كانعكاس للعبثية أو كقصة عن الحرية الفردية.
السياقات المؤسسية: السؤال الفلسفي يرتبط بالجامعات والمؤتمرات الأكاديمية، بينما يرتبط الفن بالمتاحف، المسارح، أو النشر الأدبي. هذه السياقات تشكل كيفية استقبال الفعل التواصلي.
خاتمة
"أجمل شيء في الإبداع الفني هو بالتحديد هذا الجزء الفلسفي، وأجرأ شيء في السؤال الفلسفي قدرته الجمالية على اثارة الدهشة"
من خلال المقاربة التداولية، يتضح أن السؤال الفلسفي والإبداع الفني يختلفان في طبيعتهما ووظائفهما التواصلية، لكنهما يتقاطعان في استكشاف القضايا الإنسانية العميقة. السؤال الفلسفي، كما في أمثلة نيتشه وهيدغر، يعمل كفعل استفساري يهدف إلى الوضوح المعرفي، بينما الإبداع الفني، كما في "غيرنيكا" و"الغريب"، يعمل كفعل تعبيري يثير التجربة الجمالية والعاطفية. الأمثلة المقدمة، مثل "في انتظار جودو" و"الصرخة"، تُظهر كيف يمكن للفن أن يحمل أسئلة فلسفية ضمنية، بينما تُبرز أسئلة نيتشه الشعرية كيف يمكن للفلسفة أن تتبنى أسلوبًا فنيًا. هذا التحليل التداولي يعزز فهمنا للعلاقة المعقدة بين الفلسفة والفن كأشكال تواصلية تتشكل حسب السياقات والمقاصد. لكن أليس الابداع الفني فرصة لإثارة الأسئلة الفلسفية الشائكة؟ وألا تمثل الأسئلة الفلسفية ابداعات فنية تقبل العديد من التأويلات اللامتناهية؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي
..........................
المصادر والمراجع:
Austin, J. L. (1962). How to Do Things with Words. Oxford University Press.
Searle, J. R. (1969). Speech Acts: An Essay in the Philosophy of Language. Cambridge University Press.
Nietzsche, F. (1883-1885). Thus Spoke Zarathustra. Penguin Classics.
Heidegger, M. (1927). Being and Time. Blackwell Publishing.
Camus, A. (1942). The Stranger. Vintage Books.
Beckett, S. (1953). Waiting for Godot. Grove Press.
Eco, U. (1989). The Open Work. Harvard University Press.