أقلام فكرية

أكرم جلال: الحقيقة وأثرُها في بناءِ الوَعي الذّاتي

يُنقل عن سقراط مقولته الشهيرة عند محاكمته قوله: "الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش".

إنَّ التأمل في الذات والسعي لتعميق الوعي الفكري هي أدوات لعملية بناء الذات الإنسانية، ولا شكّ أن البحث عن الحقيقة يمثّل شرطًا أساسيًا في هذه المسيرة التي من أجلها خلق الإنسان. ووعي الذّات يراد منه الوقوف عند الأفكار والمشاعر والسلوكيات وفهم كيفية تأثيرها في ذات الفرد نفسه، أو على الآخرين (Tangney et al. ، 2007)1. فيكون معنى طَلَبُ الحقيقة مرتبط بالوعي الذاتي، فالحقيقة تمكّن الإنسان من فهم وإدراك مستوى القوة والضعف عنده، ومستوى تقبل الأخطاء، وأخذ العِبَر والدروس منها، وبالتالي التَّمكن، وَمِن خلالِ وَعيه الذّاتي المتقدّم، أن يكون بصيرًا بتشخيصه لكل ما حوله، وبالقرارات الصحيحة التي يتخذها، وبنوع ومستوى العلاقات الشخصية التي تربطه بالآخرين (جولمان، 1995)2.

ولا شكَّ أنّ الطريق نحو وَعي الحقيقة يكمن في تأصيل حالة التوافق بين المفاهيم الفكرية والواقع، بينما تشير الحقيقة الزائفة، والمعروفة أيضًا باسم الباطل، إلى المعلومات التي لا تتوافق مع الواقع، لذلك فإن معرفة الحقيقة وامتلاكها والحذر من الوقوع في الحقائق المزيّفة هو أمر بالغ الأهمية في عملية التكامل الإنساني وبناء الوعي الفردي على أسس القِيَم والمبادئ والمُثُل الإنسانية. ويؤكد علماء النفس، فيما يتعلّق بنظرية "التنافر المعرفي"، أن الأفراد يعانون من عدم الراحة النفسية عندما يكون لديهم مُعتقدات مُتشابكة، أو مواقف أو قِيَم مُتناقضة مع بعضها البعض؛ وأما الأفراد الذين يمتلكون أجزاءً من الحقيقة ويعملون على أساسها فهم أقل عرضة للوقوع في مستنقع التنافر المعرفي، وذلك لأنَّ معتقداتهم وأفكارهم وقيمهم وسلوكياتهم ستكون مستندة ومتوافقة مع الأسس والمباني التي تقوم عليها الحقيقة، وهي بالتالي أقرب للواقع.

تُعد معرفة الحقيقة وامتلاكها جانبًا مهمًا من جوانب بناء الذات لأنها تشكل أساس النمو والتطور الشخصي. ولأنَّ الحقيقة تشير إلى ما هو واقعي، بعيدًا عن الظنون والتخيّلات أو الاعتقادات الباطلة، فإنَّ معرفة الحقيقة وامتلاكها يعني الاعتراف أولًا بامتلاك واقعيّة أفكار ومشاعر وسلوكيات وخبرات الإنسان بنفسه، فضلاً عن العالم الخارجي من حوله. وهذا الأمر يتطلّب مستوى عالي من التأمل والجهد في البحث عن الحقيقة وقدرة ومصداقيّة وشجاعةً في المواجهة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالقِيَم والمعتقدات ومدى ارتباطها وتأثيرها على الذّاتِ الإنسانية.

ولا يمكن المبالغة في ارتباط معرفة وامتلاك الحقيقة مع مستوى بناء الذات، فبدون الحقيقة قد يسقط الإنسان في فخّ اتخاذ القرارات المصيرية الخاطئة والتي تستند إلى افتراضات خاطئة، وتحيزات وأوهام زائفة، وبالنتيجة عرقلة مسيرة التكامل الفردي والمجتمعي.

والحقيقةُ غالبًا ما تكون مرتبطة بمفهوم الأصالة الإنسانيّة، والأصالة وجهٌ من أوجه الصدق مع النّفس، والصدق لا يكتمل إلا بِحَملِ القِيَم والمبادئ والمُثُل، وترجمة المفاهيم والمعتقدات إلى سلوكيات حميدة، وفيها يتطابق الباطن مع الظاهر؛ فالمستوى الذي يكون فيه الفرد صادقًا مع نفسه فإنّه يكون صادقًا مع الآخرين، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]، وقال كذلك: ﴿ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]. وَ مِنْ كَلاَمٍ وَرَدَ عَن عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد وَصَّى بِهِ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ لَمَّا جَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ إِلَى اَلشَّامِ: " اِتَّقِ اَللَّهَ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَ صَبَاحٍ وَ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ اَلدُّنْيَا اَلْغَرُورَ وَ لاَ تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ وَ اِعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُحِبُّ مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ سَمَتْ بِكَ اَلْأَهْوَاءُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ اَلضَّرَرِ فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً وَ لِنَزْوَتِكَ عِنْدَ اَلْحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً."3

ورُوِيَ فِي بَعْضِ اَلْأَخْبَارِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَجُلٌ اِسْمُهُ مُجَاشِعٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ كَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ اَلْحَقِّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَعْرِفَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى مُوَافَقَةِ اَلْحَقِّ قَالَ مُخَالَفَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى رِضَاءِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سَخَطُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى وَصْلِ اَلْحَقِّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هِجْرَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى طَاعَةِ اَلْحَقِّ قَالَ عِصْيَانُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى ذِكْرِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ نِسْيَانُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى قُرْبِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلتَّبَاعُدُ مِنَ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى أُنْسِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلْوَحْشَةُ مِنَ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلاِسْتِعَانَةُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلنَّفْسِ4 .

لقد أكّد علم النفس على دور الحقيقة في بناء الذات والوعي البشري، وفي هذا السياق أكد عالم النفس ‘كارل روجرز‘ ، وهو أحد مؤسسي علم النفس الإنساني، بأن الوعي الذاتي شرط ضروري لنمو الشخصية وتطورها (روجرز ، 1951)5. وهذه الإشارة تُبيّن أهمية وأثر إدراك الحقيقة في النّفس الإنسانيّة، وهي بالتالي، خطوة ضرورية في عملية بناء الذات. ويجادل عالم النفس الأمريكي ‘أبراهام هارولد ماسلو‘، وهو صاحب اقتباس ماسلو في تحقيق الذات (التسلسل الهرمي للاحتياجات)، بأن تحقيق الذات وهو أعلى مستوى من الاحتياجات البشرية، والذي يتطلب فهماً عميقاً للذات وللعالم الخارجي (ماسلو، 1943)6. وكذلك ما ورد في كتاب "التغلب على معدل الذكاء: العلم الناشئ للذكاء القابل للتعلم" لعالم النفس المعرفي ‘ديفيد بيركنز‘ قوله: "يتطلب تعلم التفكير جيدًا تطوير عادات التفكير والوعي الذاتي والتصحيح الذاتي" (بيركنز، 1995 ، ص 16)7، فمن خلال معرفة وامتلاك بعض مراتب الحقيقة يستطيع الأفراد تعميق وعي الذّات، وبالتالي التمكّن من تطوير وتحسين القدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة.

إنَّ المجتمعات التي تحمل قِيَمًا ومبادئ معوجّة ترى أفرادها يواجهون صعوبة في إدراك الحقيقة، وهذه الظاهرة يطلق عليها علماء الأعصاب اسم "التحيز التأكيدي"، والتي تحد من قدرة الإنسان على إدراك الحقيقة عن نفسه والعالم الذي يحيط به. ومع ذلك، تؤكد ورقة علمية، قام بها مجموعة من الباحثين، على الأثر والدور الفاعل في ممارسة التأمل واليقظة في التقليل أو الحدّ من ‘الانحياز التأكيدي‘ وتعميق الوعي الذاتي (لانجر وآخرون ، 2000)، وَمن جملة ما خَلُصت إليه هذه الورقة البحثية أن إدراك الحقيقة عن أنفسنا وعن العالم الخارجي يتطلب عملية تهيئة واستعداد وصدق في مواجهة التحيزات النفسيّة والغاء جميع أنواع التصورات المسبقة والتي لا تمتّ إلى الحقيقة بشيء8.

إنَّ لمعرفةِ الحقيقة والتّمسك بها إرتباط وثيق بزيادة ما يُعرف بـــ"الذّكاء العاطفي"، والذي ظهر لأول مرة في عام 1964، إلا أنَّ كتابات الصحفي ‘دانيال غولمان‘ في العام 1995 جَعَلت من هذا المصطلح أكثر شهرة9.

والذّكاء العاطفي يشير إلى قدرة الإنسان في التعرّف على مشاعره الشخصية والسيطرة عليها وامتلاكها وتنظيمها بشكل فاعل، وبالتالي التمكن من بناء علاقات أكثر عاطفية، وإرضائية، وذات أهداف عقلية، مع الآخرين. وفي هذا السياق تؤكد الفيلسوفة ‘مارثا نوسباوم‘ بأن إدراك الحقيقة يتضمن "إحساسًا واسعًا بالتعاطف ، والقدرة على فهم الآخر والتماهي معه" (نوسباوم ، 2010 ، ص 51). ومن هنا يتبين دَور امتلاك الحقيقة وأثره في تطوير الشعور بالرحمة والتفاهم لدى الأفراد، الأمر الذي ينعكس أيجابًا في تعميق العلاقات بين الأفراد وبناء مجتمع أكثر انسجامًا وتماسكًا.

 وهذا الأمر لا يُدرك إلا من خلال تنمية اليقظة الذهنية، والمراقبة الدقيقة للأفكار والسلوكيات والمشاعر، وعدم التعجّل في إصدار القرارت والأحكام، أو الانغماس الأعمى في الظنيّات، وهذا يعتبر أحد أهم المناهج التي تمكّن الإنسان من التعرف على الحقيقة وامتلاكها10.

رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنَّه قال: " جَاهِدْ شَهْوَتَكَ وَ غَالِبْ غَضَبَكَ وَ خَالِفْ سُوءَ عَادَتِكَ تُزَكِّ نَفْسَكَ وَ تُكَمِّلْ عَقْلَكَ وَ تَسْتَكْمِلْ ثَوَابَ رَبِّكَ ."11

***

د. أكرم جلال

........................

المصادر

1. Tangney, J. P., Baumeister, R. F., & Boone, A. L. (2007). High self-control predicts good adjustment, less pathology, better grades, and interpersonal success. Journal of Personality, 72(2), 271–324.

2. Goleman, D. (1995). Emotional intelligence: Why it can matter more than IQ. Bantam.

3. نهج البلاغة، ج1، ص447. وبحار الأنوار، ج33، ص461.

4. عوالي اللئالي، ج1، ص246. وبحار الأنوار، ج67، ص72. ومستدرك الوسائل، ج11، ص138.

5. Rogers, C. R. (1951). Client-Centered Therapy: Its Current Practice, Implications and Theory.

6. Maslow, A. H. (1943). A Theory of Human Motivation.

7. Perkins, D. (1995). Outsmarting IQ: The Emerging Science of Learnable Intelligence. The Free Press.

8. Langer, E. J., Blank, A., & Chanowitz, B. (2000). The mindlessness of ostensibly thoughtful action: The role of "placebic" information in interpersonal interaction. Journal of Personality and Social Psychology, 79(5), 753–766.

9. Beldoch, Michael؛ Davitz، Joel Robert (1976). The communication of emotional meaning. Westport, Conn.: Greenwood Press. P 39.

10. Nussbaum, M. (2010). Not for Profit: Why Democracy Needs the Humanities. Princeton University Press.

11. غرر الحکم، ج1، ص338. وعیون الحکم، ج1، ص222.

في المثقف اليوم