أقلام فكرية

رائد عبيس: تراجع الفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي

تنوعت علاقة الفلسفة بالعلم التجريبي في عصر الحداثة بين القوة والفتور، تبعاً لمتغيرات كبيرة حدثت على مستوى المنهج العلمي، والتزعات المادية الطاغية على التفكير الحداثي، الذي استقل فيما بعد بتوجهات واضحة وصريحة تحت مسميات مدرسية ومنهجية. كانت قد بدأت مرحلة القوة في علاقة الفلسفة بالعلم التجريبي من خلال المنهج التجريبي الذي بداءه فرنسيس بيكون وأسس له أسا فلسفي دقيق تحت عنوان المنطق الجديد، قاصداً المنهج التجريبي والمنطق التجريبي الجديد الذي فرض خصائص معرفية مختلفة عن تلك التي أسس لها أرسطوطاليس. فالترابط القوي في علاقة الفلسفة بالعلم يعتمد على الأسس المنهجية. أما مرحلة الفتور فكان بسبب طغيان النزعة التجريبية على حساب البعد العقلي من الفلسفة، وعدم قدرة الفلسفة على توفير إجابة على الافتراضات العلمية التي كانت تنظر بها للواقع والمادة والطبيعية. محدثة نقلة نوعية في التعامل مع الطبيعة غير تلك السائدة في البعد الأنطلوجي التقليدي في تاريخ الفلسفة المقتصر على التفسير العقلي والتأملي لحقائق الكون. فضلاً عن أعتماده الآله بدل العقل. واطراد النتائج بدل من التأمل.

إذن الفلسفة في علاقتها بالعلم تأخذ بعد فرضي، وآخر عملي. حتى تفرع عن هذه العلاقة ما يعرف ب (فلسفة العلم) الذي يدرس نتائج العلم وأثرها على التفلسف ومشاكله.

ما الذي يجعلنا نفترض هذه الفرضية في عنوان هذا المحور؟ وهو (تراجع الفلسفة في عصر الذكاء الصناعي) هل فعلاً تراجعت الفلسفة في عصر هذا الفرع الجزئي من العلم التجريبي والتطبيقي، وعصر التكنولوجيا الواسع الأنتشار؟ هل فعلا الذكاء الصناعي يمثل المرحلة الأكبر تأثيراً في تراجع الفلسفة عن مهامها لما يمتلكه الذكاء الصناعي من قدرات كبيرة؟

لو رجعنا تأريخياً لوجدنا أن مصطلح الذكاء الأصطناعي،مصطلح ليس بالجديد في عالم التكنولوجيا ولا في تداوله في الأوساط العلمية والأكاديمية وحركة البحث والتأليف. فهو مصطلح تداول منذ 1956وأخذ أبعاد متعددة على مستوى النشاط البشري. ولعله يرجع أيضاً إلى إكتشاف آلة الحاسوب الذي يقوم بعمليات حسابية نيابة عن البشر.

الفكرة الأساسية في الذكاء الاصطناعي لا توحي بتعارض معرفي مع أصل التفكير الفلسفي القائم على حل المشكلات، فهو باختصار جهاز آلي يقوم باستقبال الذكاء البشري وتقبل املاءاته ليقوم بمعالجات متكررة بنفس النتائج بشكل آلي من دون القدرة على تغيير طريقة المعالجة كما يحدث ارتجالياً مع البشر أحيانا.

أصل معرفة الذكاء الاصطناعي ناتجة من حزمة متنوعة ومختلفة ومفترضة وتطبيقات ذكية توحي من عقل ذكي جداً يفترض ما لم يفترضه العقل العادي، ويعتمد على دقة الآلة في تنفيذه، وتحريره من التنفيذ البشري الذي يتعرض في كل مرة لظروف نفسية واجتماعية مختلفة واضطرابات بالمزاح.

بمعنى أن المعرفة بطريقتها الآلية تحولت من معرفة مرنة إلى معرفة جامدة، ومن معرفة تستدعى بالتذكر إلى معرفة تستدعى بالإيعاز، ومن معرفة مرتجلة باللغة إلى معرفة مترجمة رقمياً. ومن معرفة ذاتية إلى معرفة جماعية، ومن معرفة بالاستعمال المحدود ضيقة النطاق إلى معرفة واسعة النطاق بالاستعمال الشائع، ومن معرفة أحادية التحديث إلى معرفة تتيح للجميع المشاركة في تحديثها. كل هذا يساعد على فهم بعد جديد للمعرفة الآلية تحت عنوان الذكاء الاصطناعي الذي يهب للعقول الحلول الجاهزة، ويحصر حل تلك المشكلات على الدوائر المعرفية والاشخاص . 

في عصر الذكاء الاصطناعي، تلعب الفلسفة دورًا محوريًا كوسيط وبوصلة أخلاقية توجه ملاحتنا عبر مشهد يعج بالتعقيدات والتحديات غير المسبوقة. ويتمثل الشاغل الأكثر إلحاحاً في إنشاء أطر أخلاقية ومبادئ توجيهية تشمل تطوير الذكاء الاصطناعي ونشره بشكل مسؤول، مما يضمن أننا نتعامل بجدية مع قضايا خصوصية البيانات، والاستقلالية الشخصية، والتحيز، والعدالة، والشمولية. تسعى هذه الأطر إلى الحفاظ على الانسجام حيث يعمل الذكاء الاصطناعي على تعزيز المجتمع البشري، وليس تقويضه.

في الوقت نفسه، تتصارع الفلسفة مع الاستفسارات المعرفية العميقة التي تظهر عند تقاطع الذكاء الاصطناعي والإدراك البشري. يتعمق الفلاسفة في طبيعة الذكاء والوعي، ويستكشفون القدرات الواعية المحتملة للذكاء الاصطناعي ويبحثون في كيف يمكن لتمثيل المعرفة في أنظمة الذكاء الاصطناعي أن يعيد تعريف التعلم والتفكير في العصر الرقمي. لقد أصبحت هذه الاستفسارات ضرورية في التمييز بين قدرات الذكاء الاصطناعي والبشري والقيود المفروضة عليه، وتشكيل علاقة تكافلية تعزز نقاط القوة في كليهما.

وبينما نتعمق أكثر في هذه الحدود الجديدة، يمتد الخطاب الفلسفي إلى العوالم الوجودية والماورائية الفلسفية، متأملًا تداعيات إنشاء آلات قد تتجاوز القدرات البشرية في يوم من الأيام. ويذهب الخطاب الفلسفي إلى ما هو أبعد من مجرد التفكير في ديناميكيات التفاعل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي ليدقق في التغييرات في تصورنا للواقع والحقيقة في مواجهة التلاعبات التي يدعمها الذكاء الاصطناعي مثل التزييف العميق. ويعمل هذا التدقيق على حماية صحة المعلومات وموثوقيتها، وتعزيز مجتمع يظل مرتكزًا على الحقيقة وسط الانتشار الرقمي.

يمتد الحوار إلى عالم فلسفة العقل، ويتعمق في طبيعة الوعي المعقدة وإمكانات وحدود الوعي الآلي. الفلاسفة هم في طليعة تشريح التعقيدات التي تحكم العقل والوعي، ويقدمون رؤى يمكن أن تسد الفجوة بين الإدراك الاصطناعي والطبيعي. من خلال هذه العدسات متعددة الأوجه، تعمل الفلسفة كمنارة وحارس، تضيء طريق التقدم بينما تحرس بيقظة ضد المخاطر المحتملة التي تكمن في الأفق الذي يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي. وهكذا، في عصر الذكاء الاصطناعي، تزدهر الفلسفة كمجال للحكمة، وتقدم رؤى وإرشادات حكيمة لتوجيه مسار الذكاء الاصطناعي نحو مستقبل ينسجم مع القيم والتطلعات الإنسانية.

إن تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية يستلزم التفكير في مسارها المستقبلي. أدى عزل الفلسفة داخل الأقسام الأكاديمية إلى عزلة عن الخطاب العام ومحدودية تعرض الطلاب خارج الدورات التمهيدية.

لعكس هذا الاتجاه، يحتاج الفلاسفة إلى إعادة الانخراط في ما يجعل تخصصهم فريدًا - طرح أسئلة عميقة، واستكشاف الادعاءات الجريئة، ومعالجة التجارب الإنسانية المعقدة. ومن خلال تبني الإبداع، واتساع نطاق موضوعات البحث، والاتصالات متعددة التخصصات، والتواصل الذي يسهل الوصول إليه، يمكن للفلسفة أن تستعيد أهميتها داخل المؤسسات الأكاديمية والمجتمع ككل. إن تراجع الفلسفة في الأوساط الأكاديمية ليس أمرًا حتميًا، بل هو نتيجة للاختيارات التي تم اتخاذها داخل المجال نفسه. إذا كان الفلاسفة على استعداد للتحرر من التخصص المفرط وإعادة التواصل مع جماهير أوسع من خلال أفكار مقنعة يتم توصيلها بطرق يسهل الوصول إليها، فإن لديهم القدرة على تنشيط مكانة الفلسفة في كل من الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل. عندها فقط يمكن للفلسفة أن تستعيد مكانتها باعتبارها نظامًا لا غنى عنه يساهم بشكل هادف في فهمنا لأنفسنا وللعالم الذي نعيش فيه.

***

دكتور رائد عبيس

في المثقف اليوم