أقلام فكرية

غالب المسعودي: التكلفة اللغوية للتماهي الفلسفي

تشكيل الوعي بين المتخيل والمحظور

يمثل التماهي الفلسفي بين الوعي الفردي والذاكرة الجمعية إشكالية تأسيسية في سوسيولوجيا المعرفة، لا سيما عند النظر إليه بوصفه عملية إلزامية وليست اختيارية. إنّ هذا التماهي ليس مجرد انخراط اجتماعي سطحي، بل هو تحول بنيوي يفرض على الوعي الفردي أن يتخذ طابعاً منظورياً يحدده الإطار الجمعي. تبدأ التكلفة اللغوية هنا بتحويل الذات الواعية من كيان مستقل إلى جزء متماهٍ ضمن كائن رمزي أكبر.

تفكيك مفهوم التماهي الفلسفي

يُعرَّف التماهي ضمن هذا السياق بوصفه الاندماج العميق الذي يوجّه الوعي نحو منظور الجماعة. كما يُنظر إلى الوعي كمسألة راهنية، لأنَّ الماضي لا يظهر في الحاضر بصورته المتكاملة والحرفية، بل يُعاد بناؤه ويُهَيَّأ ليتلاءم مع متطلبات اللحظة الراهنة للجماعة. ويتبين من هذا أن التماهي هو عملية تكييف دائمة ومستمرة، تضمن بقاء الذات ضمن النسق الاجتماعي.

إنّ الإطار الاجتماعي، بحسب المفهوم الكلاسيكي الذي أسسه موريس هالبواكس، يُعد شرطاً وجودياً لا محيد عنه لأي إمكانية للتذكر. هذا يعني أن التذكّر الفردي لا يمكن أن ينشأ أو يتم إلا ضمن إطار ثقافي معين يوفّر نسقاً جمعياً يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر والتفسير. يترتب على هذا الشرط الوجودي تكلفة فورية:

يفقد الوعي الفردي استقلاليته في التعبير عن الذكرى؛ إذ يجب أن تُصاغ لغوياً ضمن الأطر المرجعية للجماعة لكي يُعترف بها وتُفسّر. هذا التقييد على صياغة التجربة الداخلية يشكل التكلفة اللغوية الأولية للتماهي.

نظرية الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس

يُعد هالبواكس المؤسس الأول لعلم اجتماع الذاكرة، متأثراً بأساتذته إميل دوركهايم وهنري برغسون. لقد تبلورت نظريته في كتاب "الأطر الاجتماعية للذاكرة" (1925)، حيث شدد على أن الذكريات الشخصية مرتبطة بالمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، فهي تملك مكانتها ضمن المنظومة الاجتماعية كنتاج لتفاعل الفرد مع محيطه.

آليات البناء السردي والتكلفة الإبستمولوجية

يُعتبر المتخيل، أو المخيال الجمعي، المجال الذي تتحقق فيه الوظيفة البنائية للذاكرة، حيث يتم تشكيل الماضي لغوياً لخدمة أغراض الهوية الحالية. إن دور المتخيل يتجاوز التخيل البسيط ليصبح وسيلة معرفية تستجلب الابتكارات الجديدة والمعطيات المتنوعة إلى الفعل البشري.

النظرية ما بعد البنيوية

في إطار التماهي الفلسفي، تفرض الذاكرة الجمعية أساساً أو مركزاً ثابتاً للمعنى، مما يتعارض مع الطبيعة المتغيرة للغة التي يراها دريدا. إن التكلفة اللغوية التفكيكية تكمن في أن التماهي يقمع "تلاعب" الدلالات، ويجعل المعنى ثابتاً قسراً. في مواجهة هذا القمع، قد يصبح الصمت هو المساحة الوحيدة التي يتحرر فيها الوعي، لأن اللغة المنطوقة، في سياق التماهي، قد تكون في موقع "السجّان للمعنى" الذي يضل طريق الفكرة الحقيقية. لذلك، يصبح فهم التكلفة اللغوية متوقفاً على تحليل البنى الصامتة والمحذوفة بنفس قدر تحليل الخطاب المعلن.

المحظور الثقافي واللاوعي الجمعي

إن المحظور يجد جذوره في اللاوعي الجمعي والثقافي. يؤكد التحليل النفسي الثقافي أن اللاوعي الثقافي متحكِّم في اللاوعي الفردي. المحظور هو التجسيد السياسي والاجتماعي لهذا الكبت، الذي تفرضه الأنا العليا الثقافية.

إن الصمت، في مواجهة المحظور، قد يتخذ شكلين: إما أن يكون اختياراً واعياً وشكلاً من أشكال التحرر السارتري من تأثير الآخرين والضغوط الاجتماعية، أو أن يكون علامة على العجز اللغوي، حيث تكون التجربة عميقة ومعقدة بحيث لا تستطيع اللغة البشرية احتواء كل أبعادها. في كلتا الحالتين، هي تكلفة لغوية تُدفع، إما إرادياً لغرض المقاومة، أو قسرياً بسبب القيود المفروضة على إنتاج المعنى.

يظهر من التداخل بين المتخيل والمحظور أنهما وجهان لآلية واحدة للضبط الثقافي. فالمتخيل (السرد البنّاء) يحدد ضمنياً ما هو محظور قوله. التكلفة اللغوية تقع في المساحة الضيقة بين الإفراط في القول غير الهادف (التعميم الفائض) والإنهاء القسري للقول (الصمت). إن حظر دلالات معينة يمنع تكوين أنماط محددة من الوعي النقدي، مما يجعل المحظور قيداً مفروضاً على الوعي نفسه.

التأصيل الفلسفي للتكلفة اللغوية

يمكن تأصيل التكلفة اللغوية في الإبستمولوجيا الحديثة عبر استعارة مشكلة القيمة المعرفية كما ناقشها دنكان بريتشارد. التكلفة الإبستمولوجية هنا هي الفرق في القيمة بين المعرفة التي تتوافق مع الأطر الجمعية (الاعتقاد الحقيقي المبرر جمعياً) والمعرفة الفردية أو عملية الفهم العميقة التي قد تظل حبيسة الجوانية.

إن التماهي يفرض أن تكون المعرفة ذات قيمة أعلى فقط إذا كانت ذات "تبرير جمعي"، مما يقلل من القيمة المعرفية للتجربة الفردية غير المُمَأسَسة أو غير المُنَظَّمة لغوياً. هذا يمثل التكلفة المعيارية (Normative Cost)، حيث تُستخدم اللغة لتثبيت مفهوم "السوي" في مقابل "الشاذ"، مما يقنن الوعي الجمعي ويرفض الانزياح اللغوي، وبالتالي يقتل الإبداع اللغوي الفردي.

نموذج الكلفة القصوى

تظهر التكلفة اللغوية في أقصى صورها عندما تُستخدم اللغة كأداة للهيمنة والقمع الثقافي، بهدف محو الذاكرة الجمعية لمجتمع آخر. هذا يعكس أن التماهي يمكن أن يكون قسرياً وتاريخياً.

في سياقات الاحتلال، يصل التخطيط اللغوي إلى حد "إنشاء ذاكرة مزيفة" من خلال حذف الذاكرة الأصيلة. آليات التكلفة القسرية تشمل التغيير المنهجي للهوية، المكان (البنية والصورة والتفاعلات)، مما يجعل اللغة الأصلية غير قادرة على التعبير عن الواقع الجديد المُحتَل. هذه التكلفة تفرض ازدواجية لغوية قسرية حيث يضطر الوعي إلى استخدام اللغة المهيمنة اجتماعياً أو لغة مزدوجة، مما يؤدي إلى تهميش اللغة الأصيلة وانحدار استخدامها في التفكير النقدي والعلمي.

النتائج النقدية والمآلات المستقبلية

يؤكد التحليل النقدي أن التماهي الفلسفي بين الوعي والذاكرة الجمعية ليس تحولاً سلساً، بل هو عملية معقدة يتم فيها دفع "تكلفة لغوية" متعددة الأبعاد. هذه التكلفة تفرض قيوداً وجودية إبستمولوجية على الذات الواعية، وتتراوح بين التقييد الدلالي وصولاً إلى محو الهوية القسري.

الوعي النقدي بين متطلبات الذاكرة والصدق الفردي

تكمن الإشكالية المركزية في تحدي استعادة الوكالة اللغوية للفرد في نظام تكون فيه اللغة مشبعة بأنظمة السلطة والمحظور. إن الذاكرة الجمعية، التي يراها ريكور دافعاً للعدالة، تطالب الفرد بالتماهي مع متطلبات التضحية، مما يجعل التكلفة ضرورية لضمان الأخلاق الجمعية. ولكن إذا أدت هذه العملية إلى طمس التعبير الفردي الصادق، فإنها تخلق "توازناً مستحيلاً" بين متطلبات البقاء الجمعي ومتطلبات الصدق الوجودي للذات.

للتخفيف من هذه التكلفة، ينبغي على الوعي النقدي أن يدرك أن الفكر يمكن أن يذهب إلى ما وراء حدود العلم والسلطة، عبر استلهام النماذج الجمالية (الإستيطاقية) التي تقاوم هيمنة المعرفة المؤسسية.

البحث عن مساحات لغوية مغايرة

تتطلب مقاومة التكلفة اللغوية نقداً جذرياً للغة السوق والثقافة الاستهلاكية، لا سيما في مجتمع الألفية الثالثة الذي يحول كل شيء إلى "ثقافة تسلية مدفوعة الثمن". هذا النقد يجب أن يحيي الجدلية اللغوية التي تُعري استخدام الأشكال الهلامية والتقنيات المبهرة التي تهدف إلى نمطية التجارب الحياتية.

يجب استعادة الخيال التاريخي القادر على التفريق اللغوي بين التاريخ بمفهومه الهرمنيوطيقي (الذي يُظهر الماضي ويُعيده) وبين "مجرد نسخ المعطى". اللغة النقدية هي الأداة التي تستطيع التمييز بين المعطى (ما هو كائن) والمبني (ما هو مُشكَّل بواسطة السرد الجمعي).

التحرر من التبعية النقدية

في الثقافة العربية، لوحظ أن نقد الذاكرة الجمعية بدأ في كثير من الأحيان من الخارج (تحت تأثير التنوير الغربي)، مما أدى إلى تكلفة نقدية تتمثل في عدم قدرة اللغة النقدية المستعارة على اختراق الأطر الجمعية الراسخة (كالمحافظة الدينية وأحادية النظرة)، وبالتالي بقي الوعي الجمعي كموروث دون تغيير جذري.

للخروج من هذه الدائرة، يُقترح استكشاف المناهج الفلسفية التي تقدم إطاراً يتجاوز ثنائية الوعي/الذاكرة في سياقها الغربي. هذا الإطار الفلسفي، الذي يتمأسس على مسلمة "تعدية الوجود الإنساني"، قد يوفر للغة وسيلة لتجاوز حدود المحظور المعرفي والاجتماعي المفروض، مستعيناً بـالاعتراف كفعل أخلاقي يتصل بالسلوك الإحساني. هذا التحول المنهجي ضروري لاستعادة وكالة لغوية نقدية ذات فاعلية حقيقية في الواقع الاجتماعي.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

academia-arabia.com حقـل "دراسـات الذاكـرة" في العلـوم الإنسـانية والاجتماعية: حضـور - Academia Arabia

ahewar.org زهير سوكاح - مفهوم الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس - الحوار المتمدن

rjnsq.ir Collective Memory and Identification Process; Some Policy Reflections

iasj.rdd.edu.iq الذاكرة الجمعية وبناء الهوية في المجتمع العراقي ما بعد عام 2003 م

old.sharjah.ac.ae ﺗﻔﺎﻋل اﻟﻧﻘد اﻟﺛﻘﺎﻓﻲ ﻣﻊ اﻟﻣﻧﺎھﺞ اﻟﻧﻘدﯾﺔ واﻟﻣﻌﺎرف اﻟﻣﺗﻌددة: ﻗراءة ﻷھم اﻟﻣﻔﺎھﯾم اﻟرﺋﯾﺳﺔ

humaninstitute.co Memory, History, Forgetting - Human institutealmothaqaf.com قائد عباس حمودي: الصمت وجهة نظر فلسفية - صحيفة المثقف.

annabaa.org الأدوار الاجتماعية للمخيال في الفلسفة السردية - شبكة النبأ المعلوماتية

ebsco.com Collective Memory | Research Starters - EBSCO

syrian-researchers.com ما بعد البنيوية، Poststructuralism

medium.com Memory, History, Forgetting — Paul Ricoeur | by Rosalind Kingsley - Medium

en.wikipedia.org The Social Construction of Reality - Wikipedia

simplypsychology.org Social Construction of Reality - Simply Psychology

في المثقف اليوم