أقلام فكرية

عصمت نصّار: فلسفة الكذب

اعتقد وجود عشرات التساؤلات تلوح في مخيلة أذهان قرائنا وجميعها يدور حول غرابة عتبة الخطاب (عنوان المقال) دلالته ومعناه وحيثياته وبنيته والقضايا ذات الصلة التي يثيرها في سماء ثقافتنا الملبدة بالغيوم والدخان والضباب المتوهم من فرط غياب صفاء المصارحة المعرفية، ووضوح المعاني، وصدق الصور، والأصوات والمشاعر التي تنقلها الحواس للأذهان لتقوم بدورها النقدي لغربلة الوافد من المدركات والأوهام للوصول إلى المعقولات والقناعات المنطقية حيث درجات الحقائق ودركات الأوهام الخادعة والمعارف الزائفة فتفصل بين اليقين والإفك؛ الأمر الذي لا سبيل إليه سوى ما نطلق عليه فلسفة الكذب.

أجل نتسائل هل يمكننا الجمع بين محبة الحكمة وكراهة الكذب في سياق واحد؟ وما ذلك الذي يربط بين أيقونة الفضائل العقلية وأحط الرذائل النفسية وأقبح النقائص الأخلاقية أو واحدة من المفاسد التربوية؟ وماذا نجني من تلك الرابطة في ذلك النسق العقلي؟ وهل تحدث الحكماء عن الكذب بوصفه جنوحاً أو سلوكاً أو وسوسة شيطانية وإحدى النقائض الكامنة في النفس البشرية (الفجور والتقوى، الشر والكذب، الحب والكراهية، التسامح والتجبر)؟ وماذا قدم الحكماء من أراء أخلاقية وآليات معرفية ونهوجًا منطقية لمكافحة ذلك الكذب في ميدانيّ القيم والمعرفة؟ وما تلك الطرائق والآليات لمكافحة تلك الوساوس وفضح ألاعيب صناع الأوهام والأكاذيب.

لذا سوف أحاول في السطور التالية الإجابة عن هاتيك التساؤلات حتى يزال اللبس وتنكشف مواطن الغموض.

***

فيبدو أن معظم المثقفين غير متخصصين في المعارف الفلسفية قد خفي عليهم أن للفلسفة مباحث رئيسة (الوجود، المعرفة، القيم) ومباحث أخرى فرعية تنطلق من العلوم والموضوعات التي تطرح على مائدة النظر العقلي وهي متباينة ومتعددة ومتجددة ومتطورة وفق الثقافة السائدة وحركة التاريخ وجميعها يحتكم إلى منهجيات تتواءم مع طبيعة بنية الأفكار المطروحة من جهة وتستعين بآليات توافق ثقافة العصر الذي تطرح فيه تلك الأمور الفلسفية وهي من ناحية أخرى تنقسم تلك المعارف الفلسفية إلى جانبين (نظري وتطبيقي) الأول يختص بالمعارف التجريدية التي تحتكم إلى المعقولات والمنطق أو للتجربة العلمية الحسية

 أما الجانب الثاني فمجاله التطبيق والممارسة ويكتسب قيمه من التجربة العملية الأداتية والوظيفية وتحتكم إلى كفاءتها وقدرتها على القيام بوظيفتها بالوجه المناسب للواقع أيضًا أي أن المعيار هو التطبيق العملي . وقد اختلف الباحثون في بنية الفلسفة حول معنى العقل وميادينه ومجالاته ومن ثم تباينت تصنيفاتهم للعلوم النظرية والتجريدية والتجريبية والوجدانية والروحية وعلى سبيل المثال أدرجت فلسفة اللغة ضمن العلوم اللسانية التطبيقية وانقسم علم الأخلاق إلى قيم عامة وأخلاقيات تطبيقية وآداب مهنية وميزت بعض التصنيفات فلسفة الدين عن فلسفة اللاهوت وجعلت ضربين للمنطق نسقي عقلاني وعلمي تجريبي كما نزعت بعض الفلسفات المعاصرة إلى نقد هذه التصنيفات ونقض تلك المناهج والأسس والضوابط الحاكمة للتفكير في هذا أو ذاك وتمردت على بنية المحتوى المعرفي للتفكير فشرعت في الحديث عن (المابعديات) مثل ما بعد المنطق، ما بعد العلم ، ما بعد الدين. كما استشرفت نهايات لمبحث الوجود مثل نهاية التاريخ ونهاية الحضارة ونهاية الإنسان. واستحدثت فلسفات نوعية مثل فلسفة النقد، وفلسفة القراءة، والفلسفة النسوية، وفلسفة المستقبل، وفلسفة الروح.

أما الموضوع الذي نحن بصدده (فلسفة الكذب) فهو ينتمي إلى الفلسفة الأخلاقية التطبيقية في جانبه القيمي وينضوي تحت فلسفة المنطق والعلوم المعاصرة في جانبه المعرفي. شأنه في ذلك شأن فلسفة اللعب وفلسفة الحب وفلسفة البيئة وفلسفة الجنس وفلسفة الحرب وفلسفة الفن وفلسفة الضحك فجميعها تطبيقية تتشكل بنياتها تبعًا لطابعها العملي وموضوعاتها الأداتية.

***

وعليه أن فلسفة الكذب معنية بأمرين أولهما نظري يتمثل في تحليل بنية الكذب وعلة وجوده وتحديد شكله وأثره في المجتمع وأغراضه ومراميه وكيفية صناعته.  أما الجانب التطبيقي فيتعين في آليات كشفه والتحكم في آثاره وإيجاد أيسر السبل لمقاومته وأقوى النهوج للتصدي إليه وإحباط مؤامراته عن طريق معالجة منافذ ظهوره ومقومات انتشاره.

لذا نجد معظم فلاسفة التربية والأخلاق قدماء ومحدثين يرغّبون النشأ في فضيلة الصدق ويرهبونهم ويحذرونهم من تبيعات الكذب وذهبوا في الوقت نفسه لتتبع مراحل نمو هذا الداء فاجتهدوا في نزع الخوف من الأذهان والخجل والجبن من المشاعر وأعلوا من شأن فضيلة الشجاعة والحياء والمصارحة في برامجهم التربوية واتخذوا من عملية إحلال الفضائل عوضًا عن مكامن الرذائل والنقائص التي تسللت للعادات باعتبار هذا النهج أولى خطوات معالجة الكذب وقد كشفوا أيضًا أن الثقافة السائدة في المجتمع تعد من العلل الرئيسة لظهور الإفك والغدر والخيانة والنكوث بالوعود ونقد العهود وجميعها شكل من أشكال الكذب وعلل ذلك ترد في المقام الأول إلى ضعف الوازع القيمي المستمد في أغلب تلك الثقافات من الفكر الديني وغيبة القدوة والمصلحين أضف إلى ذلك تفشي الفساد وانتشار المحرضين عليه وغيبة العدالة والإنصاف في الأمور الاجتماعية والسياسية وجحد الناس للقوانين والضوابط واستخفافهم بها حتى أضحى الرأي العام يأن من العوز والفقر والشعور بالإحباط والعجر عن بلوغ المقاصد والمطامح والآمال فانقسمت المجتمعات إلى طبقات واتجاهات وملل ومذاهب وطوائف وأحزاب الأمر الذي ولد الخلط بين العديد من المفاهيم مثل (التسامح والطيبة والجبن والحياء والعفة والتحرر والإباحية والعري). وراق لفريق آخر من المتفلسفة البحث عن علة الكذب في الطبائع البشرية؛ فالشخص المصاب بالأنانية أو بالنرجسية أو المغالي في حكمه على قدراته والمتطلع إلى ما لا يتفق مع مؤهلاته فجميع تلك الشخصيات تلجأ للكذب رفضًا لواقعها وتمردًا على ظروفها وهناك بعض الشخصيات التي تؤثر التملق والمداهنة والنفاق على بذل الجهد والكد والاجتهاد لتصل إلى ما تطمح إليه وذلك بالمداراة والغش والبوح بنقيض الحقيقة. وهناك فريق ثالث من العلماء والفلاسفة والمفكرين قد عني جد عنايته بتحليل كتابات الأغيار الطاعنة في الثقافة العربية الإسلامية بداية من جحد عراقة تراثها القديم وطبيعة دور هذه الأمة العريقة في الحضارة الإنسانية والمشككة في قداسة عقيدتها الإسلامية والمسيحية وعقلانية مصنفات المفكرين في الحضارة الإسلامية سواء في ميادين العلم، الفلسفة، الفن؛ أو في المباحث الفقهية والكلامية والصوفية.

ولعل أشهر هذه المحاولات النقدية التي عمدت إلى فضح أكاذيب غلاة المستشرقين هي ترجمة دائرة المعارف الإسلامية إلى العربية والتعقيب على موادها المعرفية وذلك في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين ناهيك عن المحاولات النقدية الفردية لصد هذه الهجمة الغادرة التي اضطلع بها أوائل رواد النهضة العربية الإسلامية في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ وذلك للكشف عن زيف ادعاءات كُتابها وفضح دوافعهم العدائية وعصبتيهم الشيفونية وذلك للحط من شأن ثقافتنا التليدة.

كما عكف طريق رابع على تحليل الشائعات والادعاءات والاخبار والاعلانات وغير ذلك من آليات التواصل الجماهيري وذلك لكشف المغالطات المنطقية في تلك الدعاوى والأهداف الحقيقية من وراء ذيوع الخبر وانتشاره كما استخدمها المحققون لاستجلاء الحقائق من فرط الخداع الذي اتخذته الحروب المعاصرة سلاحًا لها إذ طمست الحقائق وروجت لوجود الأوهام وحجبت النتائج العلمية الحديثة عن الشعوب المتطلعة للتقدم والتطور وبررت ذلك بأن الخداع والمراوغة من آليات الحروب وفاتهم أن هذا الصراع جزئي وليس دائم أو كلي فالأصل في التعايش الإنساني هو السلم والتعاون وليس الإضلال والتضليل والخداع والخيانة والتآمر والكيد.

 ومثل كل تلك الأمور تنضوي بالقطع تحت قناع الكذب.

أما الجانب التنويري والتوجيهي فيمثل الشق الإيجابي من وظائف الفلسفة حيال هذه الآفة التي كفرت بالصدق وشوهت الحق وشوشت على المعارف وشككت في الثوابت فغلت العقول وأضلتها؛ الأمر الذي دفع الفلاسفة قديمًا وحديثًا إلى إحياء هذا الجانب النقدي للفلسفة علمًا بأن أقدم الدراسات التي حملت عنوان (فلسفة الكذب) في مصر والعالم العربي ترجع إلى العقد الرابع من القرن العشرين وبالتحديد على يد محمد مهدي علام (1992-1900) عام 1932 بعنوان (فلسفة الكذب) أما أحدثها فهي للدكتورة سهام محمد عام 2024 م بعنوان (صناعة الكذب)؛ الأمر الذي يكشف عن أصالة هذا المبحث في الدراسات العربية ومن ثم فأنني أناشد شبيبة الباحثين الاضطلاع بهذه المهمة أي عقد دراسات تطبيقية عن فلسفة الكذب وذلك لنتمكن من صد الهجمة الشرسة التي وجهت أسلحتها لاقتلاع وجودنا بداية من التشكيك في أصالة ثوابتنا وصدق رموزنا وقادتنا وأهل الرأي فينا ومرورًا بالعمل على الحط من عزائمنا في شتى الميادين وانتهاءً بإفساد حياتنا الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والتعليمية والسياسية وتضليل القائمين عليها. وليعلم المعنيون بالدراسات الفلسفية أن الخطب جلل ويحتاج إلى جهود بحثية وتطبيقية لدفع الضرر عن أمتنا.

وللحديث بقية عن جوانب فلسفة الكذب التطبيقية.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم