أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: فواصل فلسفية

1. كثيرا ما ادين كوجيتو ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" انه تغافل عن الموضوع، وعمد الى تجسيد الذات انطولوجيا على حساب تغييب الموضوع. ولما اراد منتقدوه تصحيح ما بدا لهم خطأ لدى ديكارت، قالوا بالوعي القصدي، بمعنى الوعي لا يكون الا حاملا لهدفه المرسوم سلفا. وعمدوا بذلك ضرورة ووجوب فصل الوعي عن فعالية التفكير وهو خطأ اشد فداحة من ادانة الكوجيتو الديكارتي في تغييبه الموضوع المفكر به. ونحن نجد ان الوعي وفعالية التفكير فعالية متداخلة لا يمكن الفصل بينهما، فالعقل لا يعقل تفكيريا واعيا شيئا لا معنى له. معنى ذلك ان فعالية التفكير تنعدم في تغييب الموضوع. لكن فعالية التفكير التي لا تنفصل عن موضوعها هي بحد ذاتها تحتوي موضوعها سواء افصحت بذلك ام لم تفصح كما فعل ديكارت. عليه ان الكوجيتو الديكارتي كاملا غير منقوص لا يمكن الطعن به.

من الطريف ان يقول رائد الفلسفة الوجودية الدانماركي سورين كيركجورد بغضب انا لا افكر اذن انا موجود. ونسبها الباحث الفلسفي جان فال الى روسو فهل هي زلة قلم ام تجنّي على كيركجورد في سرقة افكاره.

2. من خلال مقولة انجلز الدوغمائية اعتباره قوانين الطبيعة تعمل بآلية جدلية ديالكتيكية، بعيدا عن رغائب الانسان. نفس الخطأ وقع به هيجل قوله طبيعة العقل التفكيرية جدلية بالفطرة. التي ساناقشها لاحقا. ما معنى مقولة انجلز ان قوانين الطبيعة جدلية ديالكتيكية ثابتة كمعطى وجودي؟

- معناه مساواة قوانين الطبيعة مثل الجاذبية وسرعة الصوت وسرعة الضوء ودوران الارض الخ الخ، هي ذاتها قوانين الديالكتيك التي تحكم المادة والتاريخ التي هي، قانون وحدة وصراع الاضداد، وتحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي، وثالثا قانون نفي النفي. وهذا خطأ جسيم. لا يمكننا القول مطلقا ان قوانين الطبيعة يحكمها الجدل الديالكتيكي.

-  قوانين الجدل الديالكتيكي متحركة التي يراد لها ان تعمل بنفس آلية عمل قوانين الطبيعة الثابتة، وهذا خطأ / فقوانين الطبيعة هي قوانين (فيزيائية) بخلاف قوانين الجدل الديالكتيكي فهي تعمل وفق شروط موضوعية معينة وهي ليست قوانين فيزيائية. بل هي تحكم المادة والتاريخ ولا تحكم الطبيعة ولا حتى في بعض تجليّاتها.

3.  اما مقولة هيجل الخرافية والهراء الفلسفي قوله (طبيعة العقل جدلية بالفطرة) وهذه الاكثر ابتذالية مثالية من مقولة انجلز التي مررنا بها، وزاد هيجل على هذي التعمية الخرقاء قوله ايضا (الديالكتيك الحاصل بالمادة ووقائع التاريخ هو انعكاس لتلك الطبيعة الجدلية للعقل). لتفنيد هذا الطرح المثالي الساذج سوف لا نعتمد النص الماركسي فقط بل وجهة نظرنا الاجتهادية:

-  قول هيجل طبيعة العقل جدلية بايولوجيا بالفطرة هي هراء فلسفي لا صحة له. ومن السذاجة القول ان العقل يخلع طبيعته الجدلية على الواقع والمادة والتاريخ.

- قوانين الطبيعة الثابتة تعمل في كل الظروف وهي ثابتة لا تتغير. بخلاف قوانين الديالكتيك فهي تعمل ضمن شروط موضوعية معينة فهي (متحركة) ان جاز لنا التعبير. فهي ليست قوانين فيزيائية.

-  قوانين الجدل الديالكتيكي الثلاث هي مثل قوانين الطبيعة تشتغل بعيدا عن رغائب الانسان، وليس كما توّهم هيجل انها تعمل (بوحي) من جدلية العقل الفطرية. معلوم بديهيا ان لا قوانين الطبيعة الثابتة ولا قوانين الجدل الماركسي هي من صنع ارادة الانسان. وكذا فهي لم ينجبها العقل ولا بمستطاعه تخليقها.

- الشيء الاخر ان العقل بتركيبته البايولوجية ليس بمقدوره خلق قوانين الجدل الديالكتيكي بل هو يعمد الى اكتشافها ومعرفة كيف تعمل؟ عليه يكون العقل تابعا للديالكتيك في اكتشافه وليس خالقا له في اختراعه. الجدل الديالكتيكي قوانين تعمل في المادة والتاريخ ضمن اشتراطات موضوعية لا دخل للعقل بها اكثر من محاولته اكتشافها فقط. اما خرافة هيجل ان طبيعة العقل الجدلية قمينة بخلق الديالكتيك فهذه سقطة لا ترحم هيجل ولا ترحم حتى انجلز.

- مقولة هيجل العقل طبيعته جدلية بالفطرة انما جاءت للتستر على تارجحه بين حقيقة هل الجدل الديالكتيكي حقا يحكم المادة والتاريخ ام لا؟ بمعنى اخر هيجل حين ابتدع الديالكتيك احتار هل هو قانون يمكن البرهنة عليه واقعيا؟ ام هو شطحة تفكير؟

4. الانحياز للعقل دوما يجعل من كل شيء مادة تتصف بخاصية الامتداد مثلها مثل الفكرة لدى هيجل. ليصبح كل ما يحس به العقل كموضوع هو مادة وهذا خطأ اذ يمكن للعقل ادراك وتخليق بعض مدركاته من موضوعات هي تجريد لا مادي من صنع الخيال المنتج. بهذا المجال فقد دعا لامتري الى ضرورة ارجاع المادة الى روح، ليتصدى له الفيلسوف الالماني عالم الرياضيات لايبنتيز قائلا: علينا ارجاع المادة الى روح. ويذهب بعض الفلاسفة الفرنسيين الى ان الامتداد صفة المادة وصفة الفكرة ايضا كما يرغب هيجل ذلك. بمعنى الافكار الواضحة بديهيات لا تحتاج برهانها. فالجوهر لدى اسبينوزا هو فكرة اللامتناهي الممتد، في حين يذهب مالبرانش في مقاربة مع طرح اسبينوزا فيقول الفكرة هي الامتداد في الوجود الكلي التام الله.

5. خطأ العقل بالتفكير يسبق خطأ تعبير الفكر واللغة في التعبير. عن مدركات الاشياء. وخيانة اللغة للمعنى يسبقها خيانة العقل في التفكي التعبيري عن المعنى. ويذهب غالبية الفلاسفة على ان تضليل العقل للمعنى يتم بتضليل اللغة والفكر تعبيرهما عن المعنى. الجدير بالقول ان فلسفة اللغة ونظرية التحول وفائض المعنى انما قامت على هذا التناقض ايهما اسبق بالانحراف هل في خيانة اللغة تعبيرها القاصر عن المعنى ام خيانة العقل وقصوره التفكيري في الاحاطة التامة للمعنى. بالنسبة لنا اننا يجب ان نعرف كيف يفكر العقل قبل تفتيشنا عن خيانة اللغة لتاريخ الفلسفة. من المهم التذكير به ان الحواس تخدع العقل بيولوجيا في نقلها الانطباعات الاولية عن المحسوسات والمدركات.

6. يبدو ان اسبينوزا كان له تاثيرا بالفلسفة الوجودية اكثر من تاثير العديد من الفلاسفة، فالوجودية حين قالت "الوجود يسبق الماهية" كان قولها ذاك على مضض لم يسلم من التشكيك به. الوجودية جعلت من الماهية وجودا مستقلا عن كينونة الموجود بما في ذلك انفصال الذات عن ماهيتها اعتسافا.

اسبينوزا الفيلسوف الوحيد الذي ناقضت افكاره الفلسفية الافكار الوجودية من قبل ان تكون فلسفة الوجودية حضوريا طاغيا عالميا لعقدين من الزمن الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين واكثر من ثلاثة قرون على وفاة اسبينوزا. افضع مقولة لاسبينوزا قوله اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود. ويقصد الموجود الانسان. وحتى ادراكنا الطبيعة حين تكون موضوعا للادراك العقلي.

الجوهر الكلي لدى اسبينوزا هو الماهية او الجوهر الذي لا يمكننا ادراكه لكنه موزع في الموجودات التي نتعامل معها ولنا علاقة بها. من الواجب ذكره ان الجوهر الكلي (الله) ليس هو جواهر الاشياء او ماهياتها. بل هي جوهر بالاشياء وهذا ما يجعل بخلاف اسبينوزا ان جوهر الاشياء ليس من حتمية تجعله موصولا ممتدا في الجوهر الكلي الالهي كما يرغب اسبينوزا. والا وقعنا في تشييء الله كي نثبت وحدة الوجود.

طبعا الوجودية تجاوزت هذا الفهم الاسبينوزي الذي يرى ان الجوهر الكلي الالهي الموزع على موجودات الوجود بضمنه الطبيعة في مكوناتها الحيّة والنباتية والجمادات. هنا اسبينوزا يبشر بمذهب وحدة الوجود الذي عرف به ان كل هذا الجوهر الكلي قمين ان يجعلنا ندرك اسبقية الماهية على الموجود. وهذا اثار حفيظة وغضب كل من الماركسية والوجودية معا بما لا يغتفر لاسبينوزا. الذي يؤمن بمذهب وحدة الوجود كل شيء في الله والله في كل شيء.

في منحى مغاير لم تعط الوجودية الموجود الانسان قيمته الانطولوجية كما اراد هيدجر تكريسه في كتابه (الكينونة والزمان)، وذهب سارتر بمنحى وجودي مغاير عن هيدجر معتبرا الحرية المطلقة هي الجوهر الحقيقي للانسان، وتحاشى سارتر الانزلاق نحو مبدأ وحدة الوجود سواء لدى الصوفية او لدى اسبينوزا وحتى وحدة الوجود في الديانات الوثنية غير التوحيدية مثل الزرادشتية والبوذية والهندوسية والراستفارية عند هيلاسيلاسي في عقيدة الامبراطور هو الاله. الشنتوية اليابانية تؤمن بالامبراطور الاله ايضا.أهمية الافكار الفلسفية الوجودية هي انها لم تعط لا للجوهر (الماهية) استقلالية ولا يجوز لها. بل رهنت حتى كينونة الموجود انه حرية مطلقة ليس لها ابعادا انطولوجية. كل شيء بالوجود حسب التفلسف الوجودي يناقض كل شيء. الوجودية تجعل من حتمية الموجود بذاته خال من الذات المهيمنة بسطوة ادركها المعرفي للمحيط وادراكها الذاتي لماهيتها. ونصل بذلك الى نتيجة نهائية ان الانسان عالم منغلق على نفسه كما يجده سارتر.

في مداخلة بسيطة نجد من العبث الحديث عن موجود انساني لا يمتلك ماهيته الذاتية التي هي ليست هبة ناجزة يورثها الانسان بالفطرة انما هي تصنيع ذاتي لهوية الفرد. الادبيات الوجودية اخرجت الذات واخرجت الماهية عن موجودية الانسان في كينونة موحدة متعددة الجوانب والابعاد.

من الحقائق التي علينا الاقرار بها والتسليم لها ان الفلسفة الخالصة هي تجريد منطقي عقلاني لا يلتزم حياة الانسان بالتغيير، الفلسفة تكون ملتزمة بالحياة اذا تحولت الفلسفة الى ايديولوجيا سياسية – اقتصادية كما فعل ذلك ماركس وكذلك ما فعلته الفلسفة البراجماتية او الذرائعية النفعية الامريكية.

تاريخ الفلسفة يشير الى توازي الفلسفة مع كل من العلم والدين والحياة. الوجودية فكر منفلت من الاحاطة بها كمتناقضات تبدو غريبة على منطق الفلسفة غير المتشنجة في مباحثها. وفي مقارنة بينها وبين الفلسفة البنيوية نجدها على خلاف مع البنيوية تتمركز طروحاتها حول الانسان كعالم مغلق.

هجوم الوجودية على العقل جعلها تتكيء على وقائع التاريخ " الحربين الكونيتين" على خلاف مع البنيوية التي جاءت على انقاض الوجودية في اكتساحها وتجاوزها لكل تمجيد للعقل والانسان والتاريخ والعلم والسرديات الكبرى السردية الماركسية وسردية الاديان.

7.  يذكر الفيلسوف دي بيران ان فلاسفة القرن السابع عشر يتقدمهم ديكارت انهم وقعوا بخطأ عدم التفريق بين الارادة والرغبة، وتوضيح هذه الثنائية ان الارادة وعي قصدي في علاقته بالمعرفة. اما الرغبة فهي نزعة نفسية بايولوجية غرضها الاشباع البيولوجي وليس المعرفة.

ومن الثنائيات التي عاملها فلاسفة القرن السابع عشر بقليل من اهتمام التمييز هي ثنائية الروح والنفس، العقل البيولوجي والعقل التفكيري المجرد " اللوغوس" او الخطاب، وكذلك ثنائية الوجود كمفهوم مطلق والموجود على انه كيان ارضي نتعايش معه. ومن الثنائيات بالوجودية ايضا الفرق بين ما هو خالد وماهو فان. عن سورين كيركجورد انه يستحيل على الذات ان تعي وجودها من غير خاصية التفكير، فالتفكير هو صنو الموجود في وحدة اندماجية تسمى الكينونة.

8. بمقدار تصنيعك لماهيتك الفردية الوجودية تتحقق موجوديتك الانطولوجية، وعلى خلاف اسبينوزا فان الماهية او الجوهر لا تسبق الوجود بما هو موجود. وحسب تعبير سورين كيركجورد (اننا لا نوجد كي نتفلسف، بل نحن نتفلسف كي نوجد، ولا تساوي الفلسفة شيئا ان لم تكن تعبيرا ووسيلة حياة في وقت معا) الملاحظ بجلاء ان كيركجورد يطرح مسالة الالتزام الفلسفي التي عالجها سارتر في كتابه الشهير الوجود والعدم. كذلك نجد كيركجورد طرح مسالة واقعية الفلسفة العملانية ان صح التعبير. الفلسفة ليست تجريدا منطقيا يتمحور حول ثيمة كيف نتكلم بل في ثيمة لماذا نتكلم؟ وجودية كيركجورد هي السعي نحو تحقيق الذات من منطلق ان الذات هي الفلسفة. ولا تجد الذات حقيقتها الا في حالة الانماج الاحتوائي ضمن مجتمع يحقق للفلسفة التعبير عن الحياة. انه لمن الغريب فعلا ان نجد الوجودية تطرح مثل هذه المفاهيم وتاثيرها اللاحق بالفلسفة عامة. في الوقت الذي اغرقت الوجودية لدى سارتر، هيدجر،  جبرييل مارسيل، مارلوبونتي، ياسبرز واخرين غيرهم في مناقشة مصير الانسان في مفاهيم مثل العدم، القلق، العبث، اللامعنى، ولا معنى الوجود، الانسان نزوة طارئة والاخرون هم الجحيم وغير ذلك من تهويمات نفسية تعالج عالم الانسان المنغلق على عوالم جوّانية، كل هذا الميراث الفلسفي سبق وعارضه كيركجورد من منطلقين الاول انكاره العقل على حساب ايمانه الديني وانكاره لمباحث الميتافيزيقا حين نادى باهمية القفزة القلبية بالمطلق الايماني وليس بالعقل البرهاني.

رغم اختلاف تفلسف نيتشة الذي يمكن اعتباره خارج ادبيات الفلسفة الوجودية حتى في خطوطها العريضة الا اننا نجد نيتشة يقتفي اثار كيركجورد في تاكيده مركزية الانسان بما هو تفكير بشخصية فرد هو عالم متفرد حضوره مركزيا بالحياة.

9. الفلاسفة واللغة، يقول نيتشة رغم مقولته موت الاله (اللغة من ابداع الله).

وقول غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني).

ويقول هيدجر (الانسان كائن لغوي وليس كائنا عاقلا).

ويقول  سيلارز (الوجود لغة).

ويقول جون سيرل (الله لغة).

اذا اخذنا مقولة نيتشة (اللغة من ابداع الله) فلا معنى تبريري يسوّغ لنا تمرير العبارة سوى ارجاعها لعبارة شيلر (ان كل شيء ندركه نجده باللغة)، وهو ما نجده في المجتمع مجسدا بالانسان. كخاصية نوعية تعرف المعنى الدلالي لله القادر على الخلق.  هذا المعنى اوضحه فيورباخ الى ان الانسان اله ما يصنعه بنفسه ولنفسه الها من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يمثل قدراته على كل شيء يعجز عنه الانسان، ولا يدركه عقليا وجوديا لذا اعتبره خالقا غير مخلوق الا من قبل الانسان نفسه في علاقته مع الطبيعة وليس في علاقته بالميتافيزيقا.

اما اذا اردنا توضيح عبارة غادمير اللغة هي احد الالغاز العظيمة بالتاريخ. فهو اي غادمير يجد اللغة هي تطور الانسان انثروبولوجيا تاريخيا. وليس العكس بمعنى تطور تاريخ انثوبولوجيا الانسان هي التي قادت عبر العصور الطويلة تطورات وتنوعات اللغة حسب الاقوام والامم. معنى هذا اللغة لا تتقدم صنع التاريخ، بل التاريخ الانثوبولوجي يصنع لغته الخاصة بقوم من الاقوام ويسحبها على الدوام خلفه. اما عن ملازمة انثروبولوجيا التاريخ للغة، فهي ملازمة وجودية لا انفكاك احد الطرفين منها عل مدى عصور سحيقة من تطور التاريخ الانساني.

 مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا، فالعبارة خاطئة تماما من جنبة التراتيبية البيولوجية . فالانسان كائن عقلي قبل ان يكون كائنا لغويا.

 ليس بمعيارية تاريخية، بل بمعيارية انثروبولوجية – بيولوجية. فالعقل سابق على اللغة ليس من حيث انه عضو بيولوجي تحتويه الجمجمة ويطلق عليه احيانا (الدماغ). وانما من جنبة العقل عضو بيولوجي خاصيته التفكير. واكتساب المعرفة وفهم الوجود واختراع اللغة.

نرى في عبارة سيلارز المكتنزة العميقة فلسفيا (الوجود لغة) فهي عبارة تلخيصية سليمة لا تجاريها عبارة اخرى في صحتها. من حيث ان كل ادراك لموضوع او شيء لا يتم الا بتصور لغوي. حتى صمت التفكير هو لغة ساكتة. عبارة سيلارز الوجود لغة لم يكن يرغب التعبير في مثالية غير قابلة للتحقق. كما فعل باصرار عنيد فلاسفة القرن التاسع عشر كل من بيركلي، وديفيد هيوم، وجون لوك. حين اعتبروا ما يدركه العقل تجريبيا موجود بالملازمة الضرورية عقليا.

التفكير الذي اشار له ديكارت قبلهم يقرن العقل جوهر خاصيته التفكير، وكان ديكارت يعلم جيدا ان العقل البيولوجي العضوي (الدماغ) وإن تداخلت خاصيته التفكيرية التجريدية مع خواصه البيولوجية في  معالجة مدركاته بالنسبة للعالم الخارجي والداخلي للانسان.

 وحين يقول ديكارت العقل جوهر ازلي خالد خلود النفس فهو كان يريد التمييز بين عقلين من حيث الخصائص التجريدية والخصائص البيولوجية الاشباعية.

واخيرا ناتي لعبارة  فيلسوف امريكي آخر غير سيلارز يمكن ان يكون جون سيرل قوله (الله لغة). وهي تختلف عن عبارة نيتشة (اللغة من ابداعات الله) الذي جعل من الله جوهرا متشيئا ينتج لنا اللغة او اللغات.

 10. تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة (الصوتية) عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. وإذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيّا او خياليا سابقا عليه .تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة ادراكه العقلي،، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها. فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

***

 علي محمد اليوسف - الموصل

في المثقف اليوم