أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: عن حماقات الفلاسفة وجنونياتهم

هل يعيش الفيلسوف المفكر أفكاره التي يدعو إليها فيما يبثه من أفكار واراء في كتاباته، كتبه ومحاضراته، أم أنه يعيش نوعًا من الحماقات الإنسانية غير عابئ بالفرق ما بين أفكاره وممارساته الحياتية؟. الدراسات المتعمّقة لما كتبه أصدقاء ومقرّبون من عدد وفير من فلاسفة العصر الحديث تحديدا، تقول إن هؤلاء الفلاسفة عاشوا الأفكار والمُثل العليا في كتاباتهم وفي افكارهم، لكنهم لم يحيوها في الحياة اليومية، التي عاشوها لحظةً إثر لحظة، ساعة تلو ساعة ويوما بعد يوم.
انطلاقا من هكذا رؤية، ظهر منذ فترة تُقّدر بالعشرات من السنين، عدد من الكتب التي كتبها مثقفون من ذوي القدرات المُميّزة عن هذه الناقضات التي اتصفت بها حيوات العديدين من الفلاسفة، بين ما دعوا اليه وبين ما عاشوه وعايشوه من احداث وممارسات يومية. وقد سبق وكتبنا مقالة عن ثلاثة من هذه الكتب تحت عنوان فضائح العصر في ثلاثة كتب، وها نحن نكتب عن كتاب رابع، هو كتاب (جنون الفلاسفة) تأليف الكاتبين نايجل رودجرز وميل ثومبتون.
صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2005 وترجمه إلى العربية متيم الضايع وصدر عن دار الحوار السورية عام 2015. هذا العام أعيدت طباعته بصورة مقلّصة في بلادنا وبإمكان الاخوة المهتمين الحصول على نسخة منه من هذه المكتبة او تلك. يتعرض فيه مؤلفاه الى ثمانية من فلاسفة العصر الحديث، معرفين هذه الفلسفة انها منذ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت حتى أيامنا الراهنة، وواضعين لكلّ من هؤلاء الفلاسفة عنوانا يدُل على ما قام به ونفّذه من حماقات في حياته، تتعارض ما دعا إليه من أفكار، مما يُقرّبه ويدنيه من الجنون، وينزع عنه صفة القداسة التي يبرع الكثيرون مِن القُرّاء العصريين، في اصباغها على هؤلاء الفلاسفة وغيرهم.
الفلاسفة الثمانية الذين يتعرّض لهم المؤلفان في كتابهما الطريف هذا، هم: جان جاك روسو وعنوان ما كتباه عنه الفيلسوف كضحية، آرثر شوبنهاور- المُخلّص البغيض، فردريك نيتشة السوبرمان السمج، بيرتراند راسل- رياضيات السلوك الإنساني، لودفيج فيتنجشتاين- الغضب والزهد، مارتن هايدجر- الساحر، المفترس، الفلاح، النازي، جان بول سارتر- الطغيان الفكري وسوء النية، وميشال فوكو- الجنون، الجنس والعقوبة.
هذه العناوين تحكي الكثير فيما يتعلّق بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين، خاصة بحماقاتهم وتناقضاتهم بين القول الفكري والمعيشة اليومية، فواضح انهما يأخذان على هايدجر مثلا تماهيه مع الحكم النازي في بلاده، وواضح انهما يأخذان على فيتنجشتاين تكبّره وتنمره المُسيء على طلابه والمحيطين به، وأكثر من هذا انهما يأخذان على سارتر سوء نيته تجاه صديقة عمره ورفيقته حتى يومه الأخير، الكاتبة المفكّرة الوجودية سيمون دي بوفوار، صاحبة الكتاب الشهير عن " الجنس الاخر"، وخياناته لها بمحاولات، لا يهم ما إذا حالفها النجاح أو باءت بالفشل في إقامة علاقات جنسية مع تلميذاتها وصديقاتها، أما برتراند راسل الذي كتب عن الحب والزواج والحياة السعيدة بواقع الفي كلمة يوميا، فقد طلّق ثلاثًا من زوجاته، واقام علاقات مع نساء الآخرين، بمعنى انه كان زير نساء، لا يوفّر زوجة قريب أو بعيد. وأما الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير ميشال فوكو صاحب كتاب تاريخ الجنون، فقد عاش حياةَ انسان مثلي تقوده غريزته الملتهبة من حضن مثلي إلى آخر.. حتى الاحتراق!!
ما يكشفه هذا الكتاب عن التناقضات المشينة بين القول والفكر لدى مَن يتحدّث عنهم الكتاب ويتناولهم بالدراسة، لا يتوقّف عند مثالبهم، وإنما هو يقدّم لهم، عبر دراسات شبه كاملة عن حيواتهم وعطاءاتهم الفكرية غير المنكورة، بل المؤكدة في تاريخ الفلسفة الحديثة، اما الهدف من الإشارات الى التناقضات، المشار اليها بين الاقوال والافعال، فإنها تهدف إلى عدد من الأمور، منها وربما أهمها عدم تقديس الأشخاص، وجعلهم رموزا وطواطم لا تخطئ، فلكلّ منّا نحن بني البشر، اخطاؤه التي أشار اليها السيد المسيح بمقولته الخالدة، من كان منكم بلا حطيئة فليرمها بحجر، وبقية القصة معروفة. ومما يريد ان يشير إليه مؤلفا الكتاب، كما يذكران في ثتاياه وصفحاته، هو التفريق بين حماقة من تحدّثا عنهما في كتابيهما، وبين تصرفاتهما السيئة، يقولان:" المهم اننا قاومنا اغواء كبيرا للتفريق بعناية ما بين حماقة التصرف السيء والسخافات الاجتماعية العادية، تفريق كهذا يكون ذا صلة فقط في التقييم الأخلاقي للتصرف، في حين ان اهتمامنا هو مُجرّد تقديم حماقات الحكماء، كي لا تقدس ذكراهم بشكل مُحرج". واضيف كي لا يتم التعامل معهم على اعتبار انهم إلهة لا تخطئ، وليسوا بشرًا.
***
ناجي ظاهر
.......................
*عن مؤلّفي الكتاب: نايجل رودجرز- كاتب ومؤرخ بريطاني وضع أحد عشر كتابًا في السيرة الذاتية، منها كتاب عن تشرشل وآخر عن هتلر، وهو صاحب كتاب عن " الغندور: طاووس أم لغز". ميل ثومبتون- مؤلف أكثر من عشرين كتابًا في الفلسفة والأديان، منها كتاب عن فن العيش وإخر عن القراءة السهلة للفيلسوف. ته