أقلام ثقافية
حميد بن خيبش: جون وايدمان.. اُكتب لتنقذ حياة!
أن تجعل من الأدب قوة مضادة، وتمنح للحروف سلطة الكشف عن الحقيقة؛ ذاك هو التحدي الذي رفعه جون إدغار وايدمان في روايته" أن تكتب لتنقذ حياة"*، حيث تتواشج السيرة الذاتية مع الخيال والحقيقة التاريخية، لإعادة تأسيس عالم لا يكون فيه للون البشرة أية أهمية.
في سنة 1955 تصدّرَ عناوين الصحف الأمريكية خبرُ إعدام صبي أسود في الرابعة عشرة من عمره. كان إيميت تيل يستقل قطار شيكاغو لزيارة عائلته في ولاية مسيسيبي. زعموا أنه أطلق صفيرا في حضور سيدة بيضاء، فتم اختطافه واغتياله ليعيد قطار آخر جثته بعد بضعة أسابيع.
أثناء محاكمة القتلة بتهمة الاختطاف والضرب المؤدي إلى القتل، تتلقى الصحافة معلومات سرية من الملف العسكري لوالد الضحية. كان لويس تيل مجندا في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، وتوبع في إيطاليا بتهمة الاغتصاب والقتل، حيث صدر في حقه حكم بالإعدام.
الابن سر أبيه إذن! وبعد ساعة من المداولات تمت تبرئة القتلة.
على امتداد نصف قرن لم تفارق صورة إيميت مخيلة الكاتب، ليقرر إعادة تجميع خيوط القضية، عبر استجواب الأرشيف، وفحص المقالات والمحاضر، وزيارة موقع الحادث. بدت الحقيقة واختفاؤها أغرب من الخيال، وأعمق من أي سرد فني. وفي بحثه عن حزن السود، وأنماط الرعب المتوارثة عبر أجيال، كان وايدمان يعيد تشكيل الروائي كبوصلة أخلاقية، تنكأ جروح العنصرية، واللامبالاة التي تُظهرها أمريكا وجهازها القضائي تجاه آلام السود.
شق وايدمان طريقه عبر الكتابة، حافزا للفروق الدقيقة، ومشككا في حالة التجانس لذاكرة جماعية تتعمد الإخفاء القسري لذوي البشرة السوداء، وإحداث انقطاعات داخل الهوية تستدعي لحظة صادمة ليستفيق المشهد الأدبي الأمريكي من إدمانه على "البياض".
ولد جون إدغار وايدمان في واشنطن سنة 1941، ثم انتقلت عائلته إلى "هوم وود"، الحي الأسود في بيتسبرغ ببنسلفانيا، وهو الفضاء الذي ألهمه لاحقا كتابة ثلاثيته الشهيرة "هوم وود".
كان جون طالبا موهوبا، لذا حصل على منحة دراسية للالتحاق بجامعة بنسلفانيا، ليتخرج بشهادة في اللغة الإنجليزية عام 1963، ويفوز بمنحة رودس التي مكّنته من متابعة الدراسة الجامعية بجامعة أوكسفورد. وفي سنة 1966 عاد جون إلى الولايات المتحدة لينتظم في سلك التدريس بجامعة بنسلفانيا، ويؤسس قسم الدراسات الأفروأمريكية.
يُعدّ وايدمان أول كاتب يفوز بجائزة القلم/فوكنر الدولية مرتين، وهي جائزة أدبية مرموقة يتم فيها التحكيم من قِبل الأقران (أي كُتاب آخرين)، الأولى عام1984 عن روايته" أرسلت إليك بالأمس"، والثانية عام 1990 عن روايته "حريق فيلاديلفيا". وتتميز كتاباته بالحرص على استكشاف تعقيدات العرق والعنصرية، كما تعرض تأملات في الظلم التاريخي، والخيوط التي يتوجب الإمساك بها لفهم جذور العدوانية إزاء الآخرين.
إن وظيفة الأدب كما يُصرّ عليها وايدمان هي الاشتباك المستمر بين ما هو شخصي وحميم، وبين القضايا السياسية والأخلاقية، لذا تبدو نصوصه كحفرة تخترق طبقات التربة، ولا تقدم أية تنازلات للقارئ. صرّح على هامش مهرجان فرجينيا للكتاب في دورته الخامسة والعشرين، قائلا:
"الأدب لا يحل المشاكل، بل هو فرصة للتفكير في المشاكل، ولإبداع أفكار جديدة في عقولنا، ولمحاولة ابتكار عالم مختلف في عقول الآخرين."
اتسمت أعمال وايدمان بتنوع مذهل بين السرديات الخيالية والنقد الاجتماعي اللاذع. يبدأ تحقيقه الأدبي في ملف لويس تيل بالحديث عن ذكرياته مع جده لأمه، جون فرينش، واللحظات التي قضاها وهو يمتطي كتفي جده العريضين، ويستمع للحكايات والأشعار في صمت وهما يسيران في شوارع هوم وود. وفي هذه القصة يصف وايدمان جده وهو ينادي كليمنت الأسود قصير القامة، وكيف ارتسمت على وجهه ملامح حزن وألم لا تُنسى. يربط وايدمان هذا الحنين المُبطّن بما سيقع بعد تسع سنوات، حين يرى صور تيل في المجلة، وكيف أثرت الصور في كل ذرة من جسده.
تشكل الذاكرة الشخصية في روايته" أن تكتب لتنقذ حياة" نقطة انطلاق حول كيفية استخدام الذاكرة لمعالجة الندوب التي تُشكل رجولة السود، تلك الرجولة التي تستمد قسوتها من النظام الأبوي في البلد لتُبتلى بكراهية النساء. يثير وايدمان ندوب العنصرية المروعة، وجراحها المتقيّحة حين يكشف وحشية العلاقة الزوجية بين تيل ومامي، ليُظهر بعدا آخر للمأساة، ذاك المتعلق بالعنف الأبوي المتوارث عبر الأجيال.
تمثل شخصيات وايدمان رموزا لحالة السود المضطهدين والمنسيين، والفاسدين بشدة كذلك. وهو لا يحاكم شخصياته بقدر ما يكتفي بمنحها صوتا فحسب، لذا يستحوذ الإيقاع المتقطع على الحوار الداخلي المشبع بلغة الشارع المبتذلة والفقيرة، أما اللغة فيحرص وايدمان على بُعدها الموسيقي، وغنائيتها النابضة بالحياة، والمشبعة بالثقافة الشعبية الأفروأمريكية:
"لا أحد يملك اللغة. اللغة قابلة للابتكار التام من قِبل كل منكم. اللغة ظاهرة جماعية. هذا ما آمل أن أثبته لأناس مثلي. أنتم تملكون العالم. هو ملك لكم. اللغة آلة موسيقية. اللغة ترقص!"
تبدو الرواية أشبه بواجب رمزي تجاه من يعتبره المؤلف شهيدا للحقوق المدنية؛ غير أنه لا يكتفي بتسليط ضوء كاشف على وقائع الجريمة فحسب، وإنما يعيد النظر في شؤون العائلة، بدءا بالجدة" تيل" ووصولا إلى الأب لويس الذي حوكم بتهمة الاغتصاب والقتل، ودُفن في قبر لا يحمل سوى رقم، لأنه مات "بلا شرف". يذهب وايدمان إلى القبر ليلقي التحية، وليفتح ثقبا أسود، حيث تُلقى الجثث بشكل لا ينفصم عن سرديات الظلم والقهر.
يضع وايدمان قارئه، بشكل مأساوي ومتذمر، أمام عدالة لم تولد، ويستحثه لبذل الجهد والتركيز لمواجهة التناقضات العميقة لخطاب الهوية، خاصة في مجتمع أمريكي تتعمق داخله الانقسامات العرقية. هو نوع من التاريخ المضاد الذي ينبري وايدمان لتوثيقه، متسلحا بتقنيات ومهارة فنية عالية. لذا لا ينبغي قراءة نصوصه من منظور سياسي بحت، وإنما كتأمل عميق يستجدي الخيال لإعادة دمج الذات الملونة في سردية كبرى، تحررها من التعريف البسيط والمختزل للكاتب الأسود.
كيف يرحل لويس تيل إلى أوروبا أثناء الحرب، ليدافع عن بلد يحرمه أدنى حقوقه؟ ولماذا تُعد البشرة السوداء إدانة مسبقة، قبل البحث والتحري؟ لا يصدر وايدمان أحكاما، بل يثير الفوضى داخل بنية الأدب نفسها، ويجعل من المقاومة جوهر وظيفته. إنه خيار قد يحد من إشعاع الكاتب وحضوره المواكب لأسباب لا علاقة بها بالكتابة.
لقد همشتني كتابة الروايات، يقول وايدمان، بقدر ما هُمشت بسبب انتمائي المفترض إلى عرقي. لذا رغم كونه أحد أعظم كتاب أمريكا المعاصرين، إلا أن الوصول إلى عموم القراء في بلده استغرق حوالي عشرين عاما، وكان على دار النشر الفرنسية (غاليمار) أن تتنظر ربع قرن قبل إصدار ترجمة فرنسية لأعماله.
***
حميد بن خيبش
........................
* جون.إ. وايدمان: أن تكتب لتنقذ حياة، ملف لويس تيل. ترجمة مصطفى ناصر. دار المدى2019






