أقلام ثقافية
حميد بن خيبش: تَراجِمة الملوك

يقول الجاحظ في وصفه للكتاب: " والكتاب هو الذي إن نظرتَ فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك، ونجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك".
**
مع قيام الدولة العباسية، شهدت الكتابة العربية نقلة جديدة، فتنوعت أساليبها، وتعددت خصائصها ومجالاتها. وصار التمييز واضحا بين كتابة الديوان التي تنهض بشؤون الدولة، وكتابة التأليف أو الكتابة الفنية التي تمثل أزهى مظاهر هذا العصر، وعنوان ترقيه وبلاغته وجماله، والتي حمل رايتها كُتاب أمثال: ابن المقفع، والجاحظ، والفضل بن سهل وغيرهم.
أدى اتساع رقعة الدولة الإسلامية إلى اختلاط العرب بشعوب البلدان الأخرى، وتبادل التأثير في نمط العيش والتفكير، وإنتاج المعرفة. وكانت الكتابة من ضمن ما شملته رياح التغيير، فظهر التجديد في ألفاظها ومعانيها، وتميزت بسهولة العبارة، وحسن اختيار الألفاظ، ووضوح المعاني.
وأدى امتزاج اللسان العربي بلغات الشعوب الأخرى إلى ظهور الألفاظ الدخيلة في نسق الكتابة. فغلبت المفردات الفارسية على الأشياء المادية، كأسماء الملابس والأطعمة وأدوات المنزل. وغلبت اليونانية على مفردات الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة.
مرت الكتابة خلال العصر العباسي بثلاث مراحل، لكل منها سمات خاصة انعكست على أسلوب الكُتاب وطرائق تعبيرهم:
شكلت المرحلة الأولى امتدادا لأسلوب الكتابة الذي أبدعه عبد الحميد الكاتب أواخر العصر الأموي والذي عُرف ب"فن الترسل"، فكان الكاتب العباسي حريصا على أداء المعنى الجميل في القالب الجميل، مع تنويع للعبارة وإدخال المُحسنات اللفظية دون مبالغة أو تكلف.
يعد ابن المقفع إماما للكتابة في هذه الفترة، من حيث التجديد الذي أدخله على النثر العربي عموما. ومن أهم سمات أسلوبه: المزج بين الأسلوب القصصي والمنطقي، فكانت جُمله وعباراته مزدحمة بالمعاني الفلسفية، والقياسات والحِكَم دون غموض أو تعقيد، كقوله في مُؤَلفه الشهير (كليلة ودمنة): "وجدتُ من لا إخوانَ له لا ذكرَ له، ومن لا مالَ له لا عقلَ له ولا دنيا ولا آخرة، لأن من نزل به الفقر لا يجدُ بدا من ترك الحياء. ومن ذهب حياؤه ذهب سروره. ومن ذهب سروره مقتَ نفسَه. ومن مقتَ نفسه كثر حزنُه".
ومنها حرصه على الوضوح وسهولة اللفظ، فكانت عباراته من قبيل السهل الممتنع. كقوله في (الأدب الصغير):" وعلى العاقل أن يُحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي، وفي الأخلاق وفي الآداب. فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يُكثر عرضه على نفسه، ويُكلّفها إصلاحه".
ومنها كذلك ابتعاده عن الألفاظ العامية والمبتذلة، فكان يتمتع بذوق حسن وطبع سليم في اختيار كلماته. قال الراغب الأصفهاني " كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب. فلما سئل عن ذلك قال: إن الكلام يزدحم في صدري، فأقف لتخيُّرِه".
امتلك ابن المقفع ناصية البلاغة، وظل أسلوبه مرجعا للكُتّاب في عصره لفصاحته التي لم يؤثر فيها أصله الفارسي، حتى قال عنه أبو العيناء:" كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانَه لؤلؤ منثور، وروض ممطور".
أما المرحلة الثانية من الكتابة في العصر العباسي، فكانت امتدادا لمدرسة ابن المقفع مع تطور طفيف اقتضاه اهتمام الكُتاب بتصنيف الكتب. غير أن منتصف القرن الثاني الهجري سيشهد ميلاد عبقري الكتابة وشيخ الأدباء أبي عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ.
اشتهر الجاحظ بموسوعيته وتبحره في اللغة، وبراعته في تصوير مجتمعه، ونقد أخلاقه وعاداته. وتميز أسلوبه بالرشاقة ووضوح المعنى وترديده في تراكيب مختلفة، وميل إلى نحت عبارات قصيرة لا تخلو من الإيقاع، مثل قوله في مقدمة كتابه (الحيوان):" جنّبك الله الشُّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب إليك التثبت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعرَ قلبَك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين".
والكتابة عند الجاحظ استطراد ينتقل به من موضوع إلى آخر بهدف الترويح على القارئ وتشويقه، فكانت كتاباته تتشعب معانيها بين الفلسفة، والتاريخ، والقرآن، والحديث، مع خلط بين الجد والمزاح، وقدرة عجيبة على استحضار الأخبار والقصص التي تتناسب مع الفكرة.
ويمتاز الجاحظ عن كُتاب غيره بأسلوبه الجدلي، وميله الشديد للمناظرة والاحتجاج، وقدرة فريدة على الجمع بين الأضداد في أغلب مصنفاته. ففي كتابه "البخلاء" يدافع تارة عن السخي الكريم ويحتج له، ثم يدافع تارة أخرى عن البخيل ويحتج له، كل ذلك بعبارات تسيل رقة وعذوبة، دون تكلف أو تصنع.
تشهد الآثار الفكرية والأدبية التي خلّفها الجاحظ على تأثيره الهائل في أسلوب عصره، وإبداع طرائق غير مسبوقة في الكتابة، حتى صار الناس كما يقول ابن العميد، عيالا عليه في البلاغة والفصاحة، والتلمذةُ عليه شرفا لا يعدله شرف، ومجدا يُدنيهم من بلاط الملوك.
وخلال المرحلة الثالثة بلغ أسلوب الكتابة أقصى حدود التفنن والتصنع، وصار الكُتاب لا يقلون براعة في مجاراة خيال الشعراء في الوصف، والمجاز، والبديع. كما شُغفوا بالاقتباس من القرآن، والحديث، والأمثال ونوادر التاريخ، فلا تجد سطرا لكاتب إلا ويليه بيت شعر أو نادرة.
وممن ذاعت شهرتهم في تلك الفترة أحمد بن الحسين الملقب ببديع الزمان الهمذاني. الأديب والكاتب الذي اشتهر بنباهته، وقوة حافظته، حتى قال الثعالبي أنه كان يسمع القصيدة، وهي أزيد من خمسين بيتا، للمرة الأولى فيعيد ترديدها دون أن يَخرِم منها حرفا واحدا، ويترجم المعاني الغريبة من الفارسية التي يجيدها إلى العربية، فيجمع بين الإبداع والإسراع.
تميز أسلوب الكتابة لدى بديع الزمان بالفصاحة، والتركيب السهل والواضح. يصوغ المعنى في عبارات أنيقة، حافلة بالمُحسنات من استعارة، وكناية، وتورية، وغيرها. ورغم أنه ألف الأشعار والرسائل في أغراض متنوعة، إلا أن أصالته ككاتب تبلورت بشكل واضح في المقامات التي يعد مبدعها الأول.
والمقامة كتابة مزجت بين الحكي ونقد الأوضاع السائدة. تمتاز بجمال اللغة، وترجيح المجاز على الحقيقة. يلتزم كاتبها بالسجع، والإكثار من المفردات الغريبة، واقتباس الأشعار، والأمثال، والآيات، والأحاديث. وتجلى فيها حرص بديع الزمان على ابتكار صور جديدة للتعبير، تتسم بالدعابة والمجون أحيانا، لكنها أفسحت المجال أمام الكاتب ليلتصق بهموم المجتمع، ويحرر الكاتب من قيود البلاط.
أما وضع الكُتاب في هذا العصر فقد كانوا بحق تراجمةَ الملوك، وذلك بفضل الرعاية التي أبداها الخلفاء والأمراء للنهضة الثقافية والعلمية، وتشجيعهم الانفتاح على الفكر الإنساني عن طريق الترجمة.
كان ابن المقفع كاتبا لدى بني العباس
وارتفعت منزلة الجاحظ حتى صار جليسا للملوك، وكان الناس يسألون عن كتبه المفقودة وهم في صعيد عرفات.
وكان ابن العميد وزير ركن الدولة، والصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة.
وبلغ من تقديرهم للكتب والمصنفات أنهم دفعوا مقابل وزنها ذهبا، وسارت الرسل من بلاد إلى أخرى طلبا لنسخة من كتاب.
***
حميد بن خيبش
....................
- محمد عبد المنعم خفاجي: الآداب العربية في العصر العباسي الأول
- محمود مصطفى: الأدب العربي وتاريخه في العصر العباسي ج2
- بيومي السباعي: تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي