أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: الفنان في ذكراه الثالثة.. زياد ابو السعود سلاما

كان دائم التحليق لا يتوقف في اجوائه الراقصة الا ليستأنف تحليقاته اللافتة، وكان ينتقل من زمان إلى مكان وكأنما هو يُشهد احدهما على وجود الآخر، وذلك في رحلة شك قصدت اليقين منذ خطواتها المبكرة الاولى في سديم غير مرئي وعالم اوضح ما يكون فيه مضببٌ خفيّ. بقي يتابع هوايته هذه في تحليقه الزمانيّ.. المكانيّ حتى اللحظات الاخيرة عندما شعر بوخز في وجوده.. في البداية لم يعر وخزه هذا اهتمامًا يذكر.. وبقي محافظا على عدم اكتراثه ذاك حتى لاحظ ما هو فيه احد مرافقيه في رحلته التحليقية اليومية، فهمس في اذنه طالبًا منه ان يتوجه إلى طبيبه.. فالأمر على ما يبدو ليس عاديًا كما خيل إليه.. عندها غامت الدنيا في عينيه وتفاقم وخزه.. ولم يكن امامه سوى ان يتوجه إلى طبيبه لتبدأ رحلته نحو النهاية. اربعة اشهر من المعاناة اليومية، اختتمها بالكتابة عبر الفيسبوك إلى احد اصدقائه الشعراء قائلًا: انني اعاني كل لحظة. اطلب من الله ان يضع حدًا لآلامي هذه.. لارتاح قليلًا.. لا اعرف ما اذا كان صديقه قد استجاب له وطلب له ما اراده.. غير ان ما حدث هو ان قلبه الخفاق توقف عن نبضه الدافئ.. وجاءت إليه النهاية ذات لحظة مؤلمة واضعةً حدًا لما عاناه من مواجع.

تعرد علاقتي بالفنان زياد ابو السعود الظاهر (1946- السبت 16/ 7/ 2021)، إلى سنوات بعيدة موغلة في البعد، الامر الذي يُصعّب عليّ تذكر بداياتها الاولى.. منذ كان شارع شهاب الدين في بلدتنا الحبيبة المشتركة، كانت هذه العلاقة. لا اعلم ربما ابتدأت بهزة راس من احدنا هو المهندس الفنان، عاشق التاريخ والوارث الامين لأجداده.. الشيخ ظاهر العمر واحفاده، ومستحضرًا اياه من اعماق التخييل والواقع، ليرسمه كما استمع من الآباء والاجداد وكما قرأ عنه في هذا الكتاب ذي الاوراق الصفراء المهترئة او ذاك، لقد لحقت فتنة الماضي وروعة الارث به فراح يضع الرسمة تلو الاخرى لجده العظيم وباعث الروح القومية ابان الاستعمار التركي لبلادنا، الشيخ ظاهر العمر، وزعيم عائلته، فسعى طوال ايام حياته المديدة نوعا ما ( عاش زياد 75 عاما)، لتثبيت الذاكرة عبر ادوات الرسم من قماش " كنفس".. ريش والوان، وقد لفت صنيعُه هذا انظار كل من همه الامر.. ابتداء من الكاتب ابراهيم نصرالله صاحب "قناديل ملك الجليل"، انتهاء بالعديد من الباحثين والدارسين المعنيين، مرورًا بأهال من بلدته والبلاد عامة، فسرت في شوارع الحاضر همسة تنبئ الجميع بما سعى اليه وقام به، الامر الذي ملاه بالنشوة ودفعه للمواصلة حد الزهو.. فهل هناك في العالم اروع من ان ترى رد فعل ما قُمتَ وتقوم به اولًا بأول؟

رسوماته هذه شجّعته على المضي في طريق البحث والاكتشاف وحضّته على التعمق في تاريخ اهالي بلدته مَنْ هُم من اين جاؤوا وما هي اسرارهم وانتماءاتهم، وما إلى هذه من اسئلة، ابتدأ بوضعها طيب الذكر القس اسعد منصور في كتابه المرجع الشهير عن الناصرة وعائلاتها، ولم يتوقف هنا وعند هذا وانما تجاوزه مستثمرًا مسطرته الهندسية وريشته الفنية، ليقوم بفعلٍ لافتٍ هو رسم شجرة العائلة لهذه العائلة او تلك، وهكذا انفتح باب آخر من ابواب الوجود واسراره في مغائر بلدته المقدسة ودهاليزها المغلقة.. فبعد ان فتح باب التركة الرائعة للظاهر عمر، ها هو يفتح باب الانساب العائلية في البلدة المقدّسة، وها هو يجمع المجد من اطرافه كما رأى مهيار الديلمي في قصيدته الخالدة، فيؤصل لوجوده وينتقل بعد ذلك ليؤصل لوجود ابناء بلدته مصرًا على عمق الوجود واصالة المحتد. وكنتَ انت صديقه الكاتب ترقبه اولًا من بعيد وبعد ذلك من قريب، متنقلًا من معرض فني إلى آخر ومن محاضرة عن العائلات واصولها، اشجارًا وفروعًا، يتنقل تنقل طائر محكي من بلدة إلى أخرى ومن قاعة إلى سواها، عارضًا وراويًا وكلُّ دينه وديدنه ان يقدّم شيئًا للرواية العربية الفلسطينية المهددة بالغياب والاندثار ما لم يكن هناك حول اسوارها خفر وحراس.

انك ترقبه في هذا كله تتابعه بصمت المحب وامل العاشق، فتسعى وراءه " ع الدعسة"، تشاهد ما يعرضه من صور لجدّه الاول الشيخ ظاهر العمر الزيداني، ولكل الاماكن التي ابتناها في طول البلاد وعرضها، مثل الناصرة شفاعمرو وعرابة البطوف.. ها انت تكتشف انك صرت شاهدًا على ولادة تاريخ وتراث من نوعين اخرين، فتسعى إليه لتكتب عنه ماجدًا وسليلًا لتاريخ تليد. كتابتك هذه عنه تثلج صدره ويرى فيها تتمةً لما ابتغاه من ردة فعل على ما قام به عطاء ثرٍّ غني.. وتندمج تلك الكتابةُ بغيرها من الكتابات المماثلة عنه وعن رحلته مع التاريخ تركةً وعائلةً، وتتوطد العلاقة بينك وبينه لتشمل العديد من النقرات على بابه المغلق دائمًا وابدًا، ولينفتح ذلك الباب لتستأنفا معًا رحلة ابتدأت ولم تنتهِ..

الآن وقد انطوت هذه الصفحة المعبّرة والمؤثرة في حياتك الخاصة وحياة بلدتك العامة، بإمكانك ان تقول ذهب زياد.. مضى في طريقه الابدي وانك لن تلتقي به بعد.. لا في شارع شهاب الدين ولا في غيره من شوارع بلدتك الدافئة.. لا في هذا المعرض ولا في تلك المحاضرة وانك حتى لو دققت على بابه المغلق الفَ دقةٍ ودقة فإنه لن يفتح لاستقبالك الرائع الماتع.. وسوف يبقى صامتًا.. اصمَ واخرسَ.. عندها ستتوجّه إلى ما خلّفه صديقك الراحل زياد ابو السعود الظاهر.. من اثر توزّع على اللوحة والكلمة.. لتتأكد من ان مَن ترك وراءه اثرًا.. كما ترك هو.. لا يموت..

***

كتب: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم