قضايا
علجية عيش: المفكر مالك بن نبي كان براديغم إسلامي حضاري
يقول الواقع أن "النخبة" Elite في بعض الأحيان هي من يصنع الفوضى، فوضى في الأفكار وفوضى في الممارسات وفوضى في القرارات، هذه النخبة التي تريد أن تفرض منطقها على الآخر، تريد أن تكون هي المسيطر، تنظر إليه نظرة متعالية وكأنها تريده أن يختفي من الساحة، الفردية تؤدي إلى العنف الهمجيّ، هناك من يعمل بنظام الكبار big men ونجده يرى المحيطين بها صغار، فإن كانت النخبة غير قادرة على النهوض بالأمة فكيف لها أن تبني حضارة؟ كان لمالك بن نبي رأي خاص حول "النخبة" خاصة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه، فالصراع صراع أفكار، والصراع الفكري عادة ما يصطدم مع صراع المصالح، أي صراع الجماعات المتناوئة التي تحاول أن تفرض نفسها كأطراف فاعلة في المجتمع ولهذا السبب فشل المشروع الفكري في الجزائر
لقد حذّر كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة، من "الفردية" لأنها تنحدر بسرعة إلى نوع من العنف الهمجي، كانت هناك تجارب عديدة نتيجة ثورات وحروب أهلية وقعت في العالم العربي الإسلامي انتهت بأصحابها بالفشل، لأنهم عملوا بنظرية الفوضى والهمجية، فالظروف التي عاشتها الجزائر طيلة الحرب الأهلية سببه غياب العقلاء أو رجل الإجماع إن صح التعبير l'Homme de consensus الذي بمقدوره أن يطفئ نيران الغضب ويهدئ النفوس ويوقف عمليات التمرد، التي تركت آثار سلبية وعدم استقرار، هكذا يقود التنظيم الذاتي من دون ضوابط إلى الضعف وبالتالي يكون نظاما محكوما عليه بالفشل، لأن التراكمات التي خلفتها الصراعات بين رجال الإصلاح والإندماجيين، خلقت العدائية بين الجزائريين، ومن أجل النهوض من جديد كان من الضروري أن تكون هناك تحالفات.
تقول الدراسات أن التحالف رغم سلبيته، قد يفيد في تعويض نقائص نمط حياة ما، فالحلفاء رغم توحّدهم حول مشروع ما، يظلون منافسين لبعضهم البعض وتجمعهم علاقة تتسم بخطاب ملوّن بالكذب والنفاق والغدر والخيانة، لأن المصلحة الذاتية هي الأهم وهي القاعدة الأساسية في نمط الحياة، ومثل هذه التحالفات تخلق بيئة مضطربة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وحتى في الجانب الديني (التعددية المذهبية) يكون ذلك بتعدد الفتاوى التي أحيانا تفرق وتشتت أكثر من أن تجمع وتوحد، يكون ذلك عن طريق تكفير الآخر ووصفه بالمتطرف، فالأمّة التي تتوازن فيها انماط الحياة تكون أقل تعرضا للمفاجآت وتكون أكثر استجابة للمواقف المستجدة وهذا طبعا يتوقف على رؤية الناس للأشياء، لكن وكما يقور محللون تختلف رؤى الناس وأفكارهم من شخص لآخر، فهناك من يدقق في سلوكات الغير وكلامه والعكس، وهناك العاقل وهناك المزاجي، إذن العملية مرتبطة بعملية "التأويل" للأقوال والأفعال خاصة إذا تحول الشفهي إلى مكتوب، والتأويل إما أن يكون إيجابيا وإمّا يكون سلبيا وهذا الأخير لا يحقق النماء.
النخبة الإندماجية تهاجم "ج .ع. م. ج " إعلاميا
المشكلة طبعا ليست في نقل الأفكار بشكل فعّال للغير، بل ترقيتها وترجمتها إلى أفعال حقيقية تجسد في الميدان، كما أن الأمر متعلق بطريقة التعايش مع الآخر، فالحديث عن جماعة النخبة كأنموذج ومشروعها الإندماجي الذي رمزها والناطق باسمها الطبيب الدكتور بلقاسم ولد أحميدة بن التهامي ( 1880-1910)، كانت جريدة التقدم وكذلك جريدة كوكب أفريقيا لسان حال هذه الجماعة، كان عملها الساسي تحقيق الاندماج والتجنيس والنشر الواسع للغة الفرنسية، من ابرز عناصرها : قايد حمود (محامي) والصادق دندن من مناضلي حركة الشباب الجزائري المتشبع بالثقافة الفرنسية، وهذه الحركة أنشأتها جماعة النخبة، عمل الصادق دندن في قطاع الصحافة وأنشا جريدة الإسلام باللغة الفرنسية وهي جريدة اندماجية، ونقرأ عن جريدة الراشدي، والعنصر الثالث هو عبد العزيز قسوس (حقوقي) أسس بمعية بن جلول جريدة الوفاق الفرانكو إسلامي، ثم جريدة المساواة، تمت تأسيسها بدعم من فرحات عباس، وقد تفطن الشيخ الطيب العقبي، لهذا المخطط الخبيث لضرب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث بادر بتأسيس جمعية الإصلاح في سيدي عقبة بسكرة قبل أن ينتقل إلى العاصمة لإدارة نادي الترقي، ومن نادي الترقي أسس جريدة الإصلاح
النخبة من منظور بنّابي
الحقيقة، أن الكثير من يجهل المعنى الحقيقي لمفهوم النخبة ويعتقدون أن النخبة هي فئة المثقفين أو السياسيين فالمعني الحقيقي للنخبة هم الذين اصطبغوا بالثقافة الفرنسية رغم معرفة بعضهم بالثقافة العربية ولغتها، يتبنون أفكار الغرب والأوروبيين وطريقتهم في الحياة ويتمثلون بثقافتهم، يقول عنهم المؤرخ الجزائري ابو القاسم سعد الله : إنهم كانوا يشعرون بعقدة الكمال أمام المجتمع الجزائري، وفي نفس الوقت يشعرون بالنقص أمام المجتمع الفرنسي فضاعوا بين المجتمعين، يرى مالك بن نبي أن النخبة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه، وإنما تتمنى أن تكون قد شعرت بالفشل حين لم يكن لندائها صدى يُذْكَرُ، تذكرنا مواقف مالك بن نبي بمقال له عنونه بـ" "تفاهات جزائرية" ورد هذا المقال في كتابه "في مهب المعركة" ضم الكتاب مجموعة من المقالات كتبها مالك بن نبي في باريس في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، نشرها في صحيفتين ناطقتين بالفرنسية وهما الشباب المسلم والجمهورية الجزائرية، أسقط فيه الأقنعة وكشف الزيف الثقافي الجزائري (كشخصية العالم الثالث)؛ وقد دعا مالك بن نبي في مقاله بعض من تملكهم الغرور وعملوا بنظرية الـ" بيغ مان" el-big men إلى الرجوع للنفس بالنقد الذاتي، لفحص أيُّ قطعة محددة من نشاطهم الاجتماعي، كانت رسالة موجهة إلى النخبة المثقفة والنخبة السياسية في الجزائر.
يقول مالك بن نبي إن النخبة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه، وإنما تتمنى أن تكون قد شعرت بالفشل حين لم يكن لندائها صدى يُذْكَرُ، ويضيف بالقول: “لو أن النخبة درست هذا الفشل لاستفادت منه أكثر مِمَّا يفيدها نصف نجاح خداع، لأنها تدرك من خلال تلك الدراسة حقيقة الأمر، هذا الفشل – كما يقول هو- يتضمن جانبا سيكولوجيا وجنبا فنيا، أي النقص في التنظيم وفي التخطيط وفي توجيه العمل المشترك..، وهذه العناصر تعتبر عمود القضية، ليس محليا فقط، وإنما بالنسبة لحركات الإصلاح في العالم الإسلامي كله، هذه الحركات التي فشلت كلها، لأنها كما قال لم تدرس أرضيتها قبل الشروع في العمل، فكانت سببا في فقدان الجمهور الثقة والأمل..، ويرجع مالك بن نبي هذه التفاهات إلى الموقف الاجتماعي السلبي، الذي لا يتسم بالإرادة المتصلة والجهد المتواصل، وإذا ما أخضع هذا الجهد إلى التحليل فهو في نظره متفككُ الأجزاء كأنه مركب على صورة الخط المُنَقَّط، الخط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئا، والمتأمل في موقف مالك بن نبي ورؤاه الفلسفية التحليلية التي شخص فيها واقع المجتمع (الفكري/الثقافي) يقف على حقيقة أن الذين يتحدث عنهم هم في الحقيقة باعة السياسة وباعة الثقافة وهم باعة الإبداع وهم…وهم…وهم…، بل هم باعة الحضارة في كل صورها وأشكالها.
عندما يصطدم الصراع الفكري بصراع المصالح
لقد كان مالك بن نبي براديغم إسلامي حضاري، استطاع به أن يضع حوضا معرفيا وهو يواجه أصعب المواقف لإعادة البناء الحضاري للمسلمين في العالم الإسلامي، والبراديغم le paradigme كما يعرّبه مفكرون هو مجموعة من المكونات الفكرية المعرفية التي يقوم عليها أيّ نموذج، توجيهي كان أو إرشادي، وعرّفه آخرون بأنه مجموعة من الإتجاهات والقيم والاجتهادات والبُنى المعرفية، أي البحث في الدور الحركي الحيوي للإنسان في بيئته الاجتماعية والعلمية ضمن سياق البناء المجتمعي، فالصراع الفكري عادة ما يصطدم مع صراع المصالح، أي صراع الجماعات المتناوئة التي تحاول أن تفرض نفسها كأطراف فاعلة في المجتمع وكقِوىَ مُسَيْطِرَة على الرغم من كون الصراع قد يكون مرابطا بالأفكار والدين، وهذا يشترك فيه الجميع دون استثناء ودون إقصاء، فيكون هناك تبادل أفكار ورؤى، والمثقف ما لم يكن ملتزما فلن تكون له الطاقة الإيجابية لمواجهة تجار الفكر من الداخل الذين تبنوا الفردانية في مناقشة أيّ فكرة وعدم السماح للآخر مناقشتها أو إثرائها ؟
يُعرّف البعض الفردانية بأنها شذوذ وانسحاب من مجالات التغيير التي تقتضيها الحركة وماهية الفرد إذا لم تندمج في حركية الجماعة تغدو قوة سلبية،، فعندما تُحْتَكَرُ الفكرة عند شخص واحد دون إثرائها لمعرفة الرأي الآخر يتعذر عليها زرعها في التربة المناسبة لأن الفردية تعمل على قتل العقل الآخر، وتفقد المرء قيمته، ولا يقوم بهذه السلوكات إلا "مستبدٌّ"، من الواجب هنا أن نطرح السؤال التالي: من هي النخبة؟ وممّا تتشكل؟ هل تتشكل من مجموعة من المثقفين؟ والسؤال يفرض نفسه لمعرفة من هو المثقف؟ هل هو المفكر؟ هل هو العالِم؟ هل النخبة يشكلها مجموعة من الفنانين (الموسيقي، المغني، المسرحي، السينمائي؟، هل يشكلها الكتاب والشعراء والروائيون والناشرون؟ أم يشكلها رجال السياسة؟ أم رجال المال والأعمال؟ أم رجال الدين؟، أم الأطباء والمحامون؟ فهذي صفة مهنية لكل واحد، نحن إذن أمام تعددية نخبوية اجتمعت لتحقيق مصالحها، في كل الأحوال نقول أن هذه النخبة خلقت الطبقية في المجتمع، الكلام ليس موجه للنخبة الحاكمة فقط، بل التي جعلت أفراد المجتمع يتصارعون ويتقاتلون فظهر التطرف وظهرت الآفات الاجتماعية وكل اشكال الفساد، لأنها لم تغير نفسها ففشلت في عملية التغيير والبناء.
***
علجية عيش
.....................
* للمقال مراجع






