أقلام ثقافية

يوسف جزراوي: نصوصٌ لها سبعِ أرواحٍ

سرديات الكولاج[1]

وماذا بعد ذلكَ، لقد كانَ وكتبَ بما ينبغي عليه أن يكونَ ويكتب عن بعدٍ..فالمرءُ مِنّا قد تتشوّه صورته كُلّمَا أقترب مِنَ المرآة..كذلكَ هي الحالُ، فإنسانُنا لا يكتشف حقيقة الوجود إلاَّ عندما يبتعد عنها!. هكذا واحدنا كُلّمَا ابتعد عن مرآةِ الحياة يَتفّننُ في تصويرِها.

***

وتصلكَ رسائلٌ دونَ موعدٍ، وقد يرنّ هاتفكَ بِلا توقيتٍ مَا، ولكنْ، عدم قرائتكَ لرسائل الآخرين الالكترونيّة والصوتيّة أو الاجابة على مكالماتهم، بسبب مشاغل أو سوء مزاج، أو تعمد في تجاهلهم أو لضيقِ ذاتِ الوقتِ، أو لعدم استحقاق المرسل الاجابة...أو رغبةً بالبقاء مع نفسكَ، قد لا يعني بالضرورة تأجيلكَ لِما يودّ شخصٌ ما أن يقوله لكَ، رغمَ أنّهُ قد لا يعلم أنكَ تودّ أن تخفي نفسكَ، لتنائ بنفسكَ عمّا يرغب بالبوح به لنفسكِ، للتقليلِ مِن " دوخة البال".

 ***

أليسَ غريبًا وأنتَ صوتٌ جميلٌ في برية الكلمة، أن تتعرضَ إلى البعض مِن سوءِ القراءة!، رغمَ أنَّ طموحكَ يكمنُ بعدم تكرار ذاتكَ أو إعادة مَا هو مُستهلكٌ وسائدٌ وشائعٌ ومكتوب ومنشورٌ، لكنّكَ قد لا تكتفي ببثّ الشّعريّة في متونِ قصائد وطيات كُتب أو بين سطورِ نصوصٍ، ولا تحجّم المعنى في سرديات قصصٍ وحكايات أدبيًة سورياليّة بشعبويّة آلفها الكثير!.

***

قد لا يضع البعض مِنّا صوره على جدران بيته، ولكن يمكن للمرءَ أن يُعلق نفسه على السّواحلِ ويجلسُ قبالة البحر ويقيم شواء المسكوف بينَ الفترة والآخرى في طبيعة خلاّبة، لكي يحيد عن العادي والخروح مِن "روتين" الذات، كمن يسعى لقولِ أحاديثٍ مكتومة في أذانٍ صماء، أو كفراشةٍ تبكي وردتها المقطوفة قد عَلق عليها بقايا رحيقٌ!. هكذا تسترجعُ نفسكَ مِن زحمةِ الحياة... كمن يجلس في صالةِ عرضٍ سينمائية أو قبالة تلفازه لوحده مُسترخيًّا، ملتصقًا بشاشةٍ لمشاهدة فيلمٍ ما يستهويه.

***

كُلّما تستيقظُ يغمضُ اللّيل عينيكَ، فتجدُ نفسكَ تقفُ على الضفة الآخرى مِن حياتكَ، وكأنَّ عليكَ أن تقطعَ الطريقَ بمفردكَ لتكتب بينَ ولعٍ وآخر حكاية شروق جديدة لسواكَ.

 ربّما قد راقَ لكَ مصباحكَ الذي تحملهُ بيدكَ في ليلِ شاعريتكَ لتُضيء العُتمة في حياة الآخرين!. ثمّةَ شيءٍ يجعلكَ تُفكّر ولو لبحبوحةٍ قليلة بنفسكَ، فتتمنى أن تكونَ لنفسكَ ذلكَ الشخص الذي كنت على شاكلته لهم!. لقدَ كانَ على الكثير مِنّا أن يفهمموا هذا الأمر مِن ذيّ قبل.

***

نازحةٌ كغيرها مِن حروبٍ طويلةٍ في بلادها البعيدة، قالتْ ليّ ذات لقاءٍ: "لستُ ضعيفةً يَا أبانا؛ ولكن الخصم كانَ أغلى أحبابي!.

طأطأت رأسها وأكملت: لقد أخبرتُ الله عنُه كما خبرتُكَ الحكاية الآن". ومضت!. ورأيتها تمدُ يدها وتصافح مجروحًا يجلسُ على صخور البحر ويُغني آهاته لليلِ أهيمٍ؛ قائلة:" واللهُ الموفق بِكَ إلى سواءِ السبيل"!.

 لقد تركَ رحيلها في القلبِ ندبة صلاةٍ، غيرَ أنَّ مشقّةَ الطّريق ووقعَ خطواتها كانت في قلبها لا في قلبه!. هكذا علينا أن نتعلمَ ونتقنَ قول كلمة: "لا و كلا"؛ رغمَ أنَّ الطرقاتِ قد تكون مُمهدة أمامنا.

***

المرءُ مِنّا لا يطمحُ أكثر مِنَ البقاء على قيد حياةٍ مفعّمة بالحياة، تسري بها روحٌ، توقد جمرة الوجد ونبض الحياة وشعلة السعادة في القلوب المطفأة. لقد زاد افتنانه بانصاتها باذان العقل والقلب وهي تزيل عنها الوحشة، قاطعة دربها عائدة إلى حيثما أتت.

***

وَمَا زالَ يسعلُ، يحتسي شوربة فيها عظمة، تعوم وتطفو فوق طبقٍ مِنَ "سوبِ" يستذوقه؛ بينما فتاةٌ تقضمُ وتأكلُ أظافرها، ربّما جوعًا، ضجرًا، تسلية..والله أعلم؟!. وتساءل: لماذا النّاسُ هُنا تعتاشُ على أظافرهنّّ؟!. بيدَ أنَّ الأمرَ لم ينتهي عند هذا الحد مِنَ التساؤلِ، بل أمامهُ ثمّة ظلالٍ تتحرك بخفةِ ظلٍّ، وقد كبرت كما شابت السنين بينهما مِن كثرة الانتظار؛ بينما البحرُ الصديق الصادقُ، ظلَّ الشّاهد الصّامت عليهما.

 لقد كتبَ على رمال السواحلِ: " وأما بعد يا سندانة القلب، هلا أزدتِ النّار اِشتعالاً، لا تقلقي أحرقيني، فأمواجُ بحرنا بدأت تعزفُ في الظُلمةِ، وصافراتُ الانذار شرعت تقرع منبّهةً اشتعال الحرائق"!.

***

ومنذ قال لها: "ما عدتُ يا حلوتي أُعاتبُ نبضي إذا مَا عادَ يتسارع إنَّ مرَّ اسمكِ أو طاريكِ".

باتت هي ترقدُ في ردهات مشفى الحُبِّ ..تتأمّل زيارة أحبتها!. لكنّه ما تفقدها!.

***

قالتْ لهُ واطنبتْ بِالحديثِ: لكَ في ذمّة المكتبات كتبٌ تستهويني..

ولستُ أدري ألامَ كُلّمّا أرتادها للمطالعة...

 أراكَ في القهوة والفنجان وحاضرًا في الكلمةِ كالثمرة في البستانِ!.

لعلَّ خطيئتي تكمنُ بأنَّ عيني أدمنت قرأتكَ؟!

حسنًا...إنَّ اخطأتُ أو تماديتُ أو حَتّى غاليتُ.. فأينَ صفحكَ؟.

صمتَ لوهلةٍ وأجابَ في مدحها ‏وهو يزاملُ خُطاها

 شاكرًا إياها بامتنانٍ.. حَتّى بلغَ الشُّكر مُنتهاه بِالقولِ: وأنتِ تشبهينَ مِنَ القرّاءِ مَا لا شبه لهُ!.

***

تثاءبتِ الشّمسُ وَزّينَ الشّفقُ البحر، مُلوِّحًا لقواربِ الصّيدِ الرّاكنةِ... فكُلّمّا لوّحَ لشمسِ الغروب جاءت النوارسُ وطيور السّماء لتأكل مِن كفه!

القمرُ في كالفورنيا في ذلكَ المساء توسّطَ السّماء... لكنّه لم يكن يضيء!.

حالهُ كفانوسٍ مطفأ في العتمةِ!.

بينما طائرُ السنونو بعث الدفء بوصلةِ غناءٍ ليليّةٍ...ومِن ثُمَّ طارَ...وكم تمنّى لو حلّق قلبه معه وطار!.

هكذا كُلّمَا هبتِ الريحُ، تشابكت أغصان الشّجر..

وبقدرِ ما علاً المدُّ وغنتِ الأمواج بطبقةٍ عالية...

غسلت مياه البحر آثار خطاه مِنَ الرّمال النّديةِ!.

بينما هو، راحَ يُخيّطُ الكلمةُ بِالكلمةِ ويلصقُ الحرفَ بِالحرفِ...عسى أبجديتهُ تكتُبُ سطرًا مُطعّمًا بل قُل مُلقّحًا بسردياتِ المعنى والكولاجِ الشّعري، يلصقُ صورهُ الأدبيّة للقرّاء الصورةُ تلو الصورة، في ليلةٍ نفذَ فيها الاريجُ إلى أنفهِ..ولكن لقد فاتهُ القول لِطائر السنونو :

 حينَ يعود لن يجده يسند ظهره في ذاتِ المكان!.

***

الأب يوسف جزراوي

........................

[1] هذه النصوصُ كنتُ قد كتبتها قبل بضعةِ أعوامٍ خلت، فكنتُ أعودُ إليها بينَ مدة ومدةٍ لكي أغيّر فيها وأعدّل عليها بينَ الحينِ والحينِ، ولا أخفيكم سرًّا لكم مِن مرّةٍ ومرّةٍ فقدتها أوأضعتها أو أتلفها الحاسوب عن غير قصدٍ..، فأرتأيتُ الآن نشرها وتعميمها على القرّاء، عليَّ أفيد بها سواي، وكذلكَ حفاظًا عليها مِنَ الضياعِ وعربدات الحاسوب، لهذا عنونتها (بنصوصٍ لها سبعِ أرواحٍ). لقد أقتضى التنويه.

 

في المثقف اليوم