أقلام ثقافية
علي الطائي: الكتابة.. استغاثة لا هواية

ليست الكتابة حرفةً تُمارَس على أرائك الترف، ولا نزهةً في بستان اللغة تُقطف فيها الألفاظ كما تُقطف الثمار الناضجة من أغصانها الوارفة. إنها أشبه بنداءٍ يصرخ من جوف الصمت، بل هي الصمت حين يُستصرخ. الكتابة ليست ترفًا، بل وجعٌ يُسَطَّر، ونارٌ تُعبَّر بحروفٍ باردة كي لا تحرق صاحبها.
حين يكتب الإنسان، لا يكون في حالٍ من التسلية، بل في حالِ احتضارٍ يطلب فيه النجاة. إن الكاتب، في لحظاته الحقيقية، ليس فنانًا يزخرف المعنى، بل غريقًا يبحث عن قشة المعنى في محيط العبث. الكتابة لا تُمارس لأنها هواية، بل لأنها ضرورة، كما يصرخ الجسد حين ينكسر العظم، وكما تدمع العين حين يُطعن القلب.
الكاتب الحقيقي لا يكتب، بل ينزف. هو شهيدٌ مؤجل، يحمل جراح أمته، ويلفّها بورق الكتابة علّها تُشفى. الكلمات التي تخرج منه لا تخرج من فمٍ مطمئن، بل من قلبٍ مشظّى، من وجدانٍ عالقٍ بين الشكّ والإيمان، بين الحلم والانطفاء. لا يكتب لأنه يريد، بل لأنه يُجبَر، كما تُجبَر الأشجار على النمو في تربةٍ صخرية، تبحث عن قطرة ماءٍ في أعماق الأرض كي تبقى واقفة.
الكتابة عند من جُبِل على الألم ليست وسيلة تعبير فحسب، بل وسيلة بقاء. هي اختراع لغة حين تُصادَر اللغة، وابتكار معنى حين يغدو العالم بلا معنى. هي فعل مقاومة ضد الاندثار، ضد النسيان، ضد الركون إلى البلادة. الكاتب في زمن الصمت يُشبه المؤذن في مدينة خرساء، أو نبيًا في صحراء بلا سامعين، لكنه يصدح، لأنه إن لم يصدح انفجر.
الكتابة ليست هواية، لأنها ليست خيارًا. الهوايات تُختار في أوقات الفراغ، أما الكتابة فتختارك في أوقات الانكسار. الهوايات تُمارَس حين يستقر القلب، أما الكتابة فتُمارَس حين يضطرب. الهوايات تُجمّل الحياة، أما الكتابة فتقاوم موتها. لذلك لا تسأل كاتبًا: لماذا تكتب؟ بل اسأله: كيف تنجو إن لم تكتب؟
الكاتب في جوهره طفلٌ مذعور، يختبئ خلف جدار الأبجدية، يرسم وجوه الراحلين كي لا ينسى، يروي مآسيه بلغة المجاز كي لا يُجلَد بلغة الواقع، يزرع وجعه في سطورٍ ينمو عليها وعياً وتحررًا. هو منبوذٌ في المجالس، لكنه ملكٌ في العزلة. متّهمٌ في الظاهر، ومبشِّرٌ في الباطن. يهرب من الجدران لكنه يبني منها نصًا خالدًا.
الكتابة ليست هواية، بل منفى داخلي. الكاتب لا يسكن وطنًا، بل يسكن حروفًا. لا يسير على الأرض، بل يسير على السطور. لا ينتمي لقبيلة، بل لقبيلة المعنى، وجماعة الخاسرين المنتصرين. هو واحدٌ من أولئك الذين لا يُؤخذ برأيهم في السياسة، ولا يُنتخبون في المجالس، لكن كلماته تُخلّد أكثر من الخطباء، ويُسمَع صوته بعد موته أكثر من جلبة الواقفين على المنصّات.
وما أعظم أن تكون الكلمات نداءات استغاثة تُطلق في وجه العدم، أن تكون كالعواء في ليلٍ بهيم، أو كنشيدٍ يُرفع فوق ركام الحقيقة. إن الكاتب لا يُرضي القراء، بل يُخاصمهم أحيانًا، لا يُدهِش، بل يُوجِع، لا يُهادِن، بل يُواجِه، لأنه يرى ما لا يُرَى، ويسمع ما لا يُسمَع، ويشعر بما يهرب منه الجميع.
لهذا، فالكتابة ليست هواية نمارسها في المقاهي، بل استغاثة نرفعها من قيعان نفوسنا. ليست ترفًا، بل نَزفٌ مكتوم. ليست زينة، بل نجاة. وما كل من يكتب بكاتب، إلا من امتُحن ونجا بالحروف، من احترق وترك الرماد على الورق، من مات ولم يُدفَن، فدفن صوته في لغةٍ لا تموت.
وإنّي لأعلم، حين أمسك القلم، أنني لا أكتب كما يكتب أهل الدنيا، بل كما يتهجّى الفناءُ معنى الخلود. أكتب كما يتوضأ العاشق بالحرف قبل أن يسجد على ورقةٍ بيضاء. أكتب كمن يصلي بلا قبلة، ويصوم بلا فجر، ويؤمن بلا مذهب. لا أبتغي إعجابًا، ولا أنتظر تصفيقًا، فما أكتبه ليس زينةً للحضور، بل بكاءٌ للغائبين.
إنّ الكتابة عند العارفين ليست مهنة، بل مجاهدة. هي خلوةٌ في محراب المجاز، واعتكافٌ في معبد الحرف، حيث الحرف نقطة، والنقطة كونٌ، والكون شوقٌ إلى المعنى. أكتب كما يتيمّم العارفون بالتراب حين تفقد الأرض ماءها. أكتب لأن الكتابة عندي ليست طقسا دنيويًا، بل عبورٌ إلى ما وراء الحرف، إلى حيث يسكن المعنى في غيب الروح.
فيا من تظن الكتابة هواية، سل النائحين على أبواب الصمت، سل القتلى الذين لا قبور لهم إلا الكتب، سل الذين يخبئون وجعهم في دفاتر لا يقرؤها أحد. قل لهم: أما آن لكم أن تصمتوا؟ فسيجيبك الحرفُ النازف: نحن لا نكتب... بل نستغيث.
***
د. علي الطائي