أقلام ثقافية
غريب دوحي: في الذكرى الثالثة والأربعين لرحيله

خليل حاوي منتحراً
(يموت الشاعر: منفيا ً او مجنوناً او منتحراً) عبد الوهاب البياتي
في ليلة من ليالي حزيران وبيروت كعادتها لا يطبق لها جفن ولا تغمض لها عين فهي كما يردد أهلها عبارتهم الشهيرة (بيروت لا تنام) لم تكن نائمة بالفعل في تلك الليلة، فهي لا تعرف النوم في لياليها العادية فكيف ها وقد اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان وتحول الجنوب اللبناني بين ليلة وضحاها إلى أرض تصبغها الدماء وتتناثر فوقها أشلاء الضحايا.
لقد تحولت بيروت في هذه الليلة إلى ساحة قتال وقد تعالت دوي الانفجارات وأصوات الرصاص الذي أخذ يعلو على كل شيء في المدينة، وفي منتصف تلك الليلة من عام ۱۹۸۲ حيث تعانقت عقارب الساعات في البنان لتعلن انتهاء النصف الأول من الليل تناول الشاعر خليل حاوي بندقية صيد وخرج بها إلى شرفة منزله وأطلق على رأسه رصاصة واحدة اختزل بها حياته، لقد ضاع صوت هذه الرصاصة مع أصوات الرصاص الذي كان يلعلع في سماء بيروت، في صباح اليوم الثاني استطاع احد جيرانه من مشاهدته وهو ملقى على الشرفة جثة هامدة، لقد كان الشاعر وحيداً لأنه لم يتزوج ولم ينجب، ولم يترك مؤشراً يشير إلى أسباب انتحاره غير احتجاجه على الاجتياح الإسرائيلي مما دعا البعض إلى اعتبار انتحاره بطولة وطنية بينما اعتبره البعض الآخر بأنه مجرد خلاص مما كان يعانيه الشاعر من أحاسيس مفرطة في التشاؤم كما انه حاول الانتحار قبل انتحاره هذا التي تم في السادس من حزيران ۱۹۸۲ ولكن محاولته الأولى فشلت، ويصفه معاصروه من الأدباء والنقاد اللبنانيين والعرب بأنه كان مقرطا في الحساسية وذو قلق دائم و توتر مستمر، فعندما دخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان الجنوبي شوهد خليل حاوي في شوارع بيروت وهو يهتف ] من بإمكانه أن يخلصني من العار الذي وقعت فيه [أي انه اعتبر الغزو الإسرائيلي اهانة شخصيه له، وقبل ذلك بأيام كان مسلحون مجهولون قد دخلوا إلى منزله وسرقوا ما فيه.
وفي مقابلة مع شقيقه إيليا حاوي نشرت في حينها في الصحافة اللبنانية قال : انه كان عصبا جدا في تصرفاته وتحولت هذه العصبية إلى مرض نفسي وعقلي وارجع سبب انفصام العلاقة بين خليل وخطيبته ديزي الأمير الى سبب هذا التوتر العصبي الذي لم تتحمله خطيبته وعاش الشاعر بعد ذلك حياة الوحدة والعزلة، ورغم ذلك فانه أكمل دراسته في جامعة بيروت الأمريكية وحصل على درجة الماجستير في الفلسفة وبعد ذلك حاز على الدكتوراه عن جبران خليل جبران وأصبح احد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت ومن المعروف عنه انه كان يرفض المقابلات الصحفية والتلفزيونية .
كما انه كان يرفض قصيدة النثر ويعد قصيدة النثر مجرد بدعة أدبيه وكان يعتز بنفسه ويعتبر نفسه كما صرح عدة مرات بهذا الصدد بأنه (شاعر القيامة العربية)
لقد طبق الشاعر خليل حاوي المقولة التي رددها الفيلسوف الألماني (نيتشه) والتي قال فيها : على الإنسان أن يختار مكان وزمان موته بنفسه.. وذلك هي مينة الشجعان إذن لقد مات خليل حاوي ميتة الشجعان حيث اختار بنفسه المكان المناسب في مكان ببيروت يطل على البحر المتوسط وفي شرفة منزله التي كانت الشاهد الوحيد على انتحاره واختار الزمان حيث الاجتياح الإسرائيلي الجنوب بلاده الذي طالما اعتز به وتغنى به بأشعاره وأحاسيسه المرهفة.
فترة الصمت في حياة خليل حاوي
لقد عانى الشاعر فترة ركود وصمت ففي مقابلة أجراها معه محيي الدين صبحي نشرت في مجلة (المعرفة) السورية وجه إليه سؤالا " جاء فيه : إن صمتكم أثار الانتباه خاصة بعد قصيدة (العازر) فعزاه البعض إلى صدمة شخصيه وعزاه البعض الآخر إلى موقف سياسي قومي أجاب الشاعر : يرجع صمتي الذي استمر سنوات إلى أزمة حضارية والى موقفي منها، وليس إلى انطفاء نهضة الشعر في نفسي أو عدم قدرتي على تطويره في مجال التعبير والبناء، والواقع أني كنت قد عانيت في تطويري مرحلة من الرفض الجارف أدت إلى اكتشاف قيم الحضارة من جديد وكانت تجربة شبيهة بالإشراق الصوفي تجلى منها الحاضر ماضيا والانبعاث المقبل حاضرا يقوم بمسح الحاضر، وكان بعض النقاد قد وصفني بشاعر الانبعاث الأول , بهذه الأجواء النفسية الغارقة في الكتابة والإحباط وتحت هذه الضغوط الآنية من كل مكان وقف الشاعر في حالة اعتزال تشبه اعتزال أبو العلاء المعري ويبدو انه كان متأثرا" بهذا الشاعر عندما قال: أن العبث الذي يتحدث عنه الوجوديون يكمن في رسالة الغفران فنهاية الحضارات تثير الشعور بالعبثية المطلقة. لقد كان خليل حاوي وجوديا ً
خليل حاوي كان وفيا للقيم التي كان يؤمن بها قيم الرجولة والبطولة والتضحية ولم يكن انتحاره ناجما عن ضعف في نفسيته أو شخصه أو رد فعل نجم عن الفعل الإسرائيلي وإنما جاء نتيجة إرهاصات فكرية كانت تكفن الواقع اللبناني خاصة والعربي عامة تركت آثارها السلبية على مجرى حياته وأوصلته إلى حالة اليأس المطلق الذي أدى في النهاية إلى اختلال في حالة التوازن في حالة كحالته المرهفة المشبعة بالإيحاءات المتنافرة التي تركت بصماتها على إنتاجه الشعري والفكري مثلما أثرت على شخصه وعلاقاته مع الآخرين. كانت قصائده تنبض بنفس شاعر مأساوي درامي وجودي الهوى لقد ذكر كلمة (الانتحار) في قصائده الأولى وفي قصيدة ليالي بيروت حيث يقول:
آه من نومي وكابوسي الذي
ينفض الرعب بوجهي وجحيمه
مخدعي ظل جدار يتداعى
ثم ينهار على صدري الجدار
وغريقاً ميتاً اطفو على دوامة
حرى ويعميني الدوار
آه والحقد بقلبي مصهر
امتص، أجتر سمومه
ويدي تمسك في خذلانها
خنجر الغدر، وسم الانتحار
ردلي يا صبح وجهي المستعار
رد لي، لا، أي وجه
وجحيمي في دمي كيف القرار
وأنا في الصبح عبد للطواغيت الكبار
وأنا في الصبح شيء تافه، آه من الصبح وجبروت النهار
وختاماً "فقد ترك ابن التاسعة والخمسين عاما" قبل انتحاره في ٦/٦/١٩٨٢ ثلاثة دواوين من الشعر هي نهر الرماد، بيادر الجوع، و، الناي والريح
***
غريب دوحي