أقلام ثقافية

محمد سعد: حين بكت ستائر المصطبة على زمن العمدة..!!

أكتب إليكم من فوق المصطبة، من قاع الريف، من "المندرة" و"حجرة القاعة"، حيث ما زالت رائحة اللبن المغلي تختلط برائحة التبن، وما زال قلبي يرتدي جلباب أبي، وأحاول أن أتماسك وأنا أراقب العالم وهو يتهشم أمام عيني على شاشة هاتفي الذكي، الذي صار أذكى من كثير ممن يحملونه.

اكتب إليكم من علي المصطبة ومن قاع الريف من حجرة المندرة وحجرة القاعه اكتب اليكم ومازلت اعيش في جلباب ابي، اكتب اليكم ولا اعرف يميني من شمالي في عالم التفاهه والفرجة ومن علي مقهي الفيسبوك

الذي جعل الجاهل اديبا ومفكرا

وصوته اعلي من صوت ماكينة الطحين.

اكتب والالم يعتصرني بالحزن علي الفوضي وابكي علي من ماتوا رجالًا.

أكتب إليكم من زمن غلاء الأسعار، ومن جنون البشر والبقر، حيث فقدت المعاني عقلها، وتبدلت القيم كما تتبدل "الفلاتر" على الصور.

اكتب اليكم من عش مجانين، وامر علي حلقات مجالس النميمة، اكتب اليكم من امارة بدون أمير.

ومن بين هذه السطور المتكسّرة، تمر أمامي وجوه معروفة في قريتنا:

"عم سيد البقال"، الذي صار فجأة خبيرًا اقتصاديًا بعد أن تابع ثلاث فيديوهات عن التضخم، ويشرح للعملاء كيف أن سعر البيض مرتبط بأسعار الغاز في أوروبا!

و"خالة زينب"، التي فتحت قناة على اليوتيوب لتفسير الأحلام، رغم أنها لا تفرق بين "رؤية" و"رؤيا"، وتقول دومًا: "أنا حسّاسة وبحس بالحاجة قبل ما تحصل".

و"الشيخ كُشك العائلة"، الحاج مبروك، الذي صار يحرّم كل شيء في فيديوهاته، بينما يدخن الشيشة في السر خلف الجامع.

و"صبحي المطوّع"، الذي يوزع صورته يوميًا وهو يمسك المصحف، ثم يعلق على كل منشور بفيديوهات رقص قائلاً: "جميلة أوي، الله ينور".

هكذا صارت المندرة استوديو بث، والمصطبة منصة رأي، والجمعية الزراعية صالة تحرير شائعات.

تمر الأيام والواقع يزداد كوميديا، حتى أن "العم جمال" الحلاق، صار يكتب خواطر عن الحياة والفلسفة، ونال إعجاب بنات البلد، رغم أنه لا يعرف الفرق بين نيتشه ونيش المطبخ!

أما مجلس النميمة فصار منصة تحليل سياسي، حيث يناقشون سقوط الدول وانهيار البورصات، وهم لا يعرفون موقعها على الخريطة.

ويزداد المشهد سخرية عندما يدخل موسم العزاء والفرح، فلا تفرّق إن كان بيت المتوفي أم بيت العريس! كلاهما تُنقل تفاصيله "لايف"، وتُعلّق خالة نعناعة على المأتم: "الله يرحمه، كان حلو في الصورة!"، بينما تكتب بنت خالته على فرح ابن العمدة: "اللهم لا حسد، عقبال عندنا... بس ماعجبنيش فستان العروسة".

وتحين ساعة الاستحقاق الانتخابي، فيبدأ موسم النفاق الرسمي:

المرشح يوزّع زيت وسكر وبوستات عن الوحدة الوطنية، ويركب التروسيكل ويزور كبار السن بابتسامة هوليودية، ثم يختفي بعد الفرز مثل الجن.

والناس، تلبس أقنعة جديدة، وتعقد "صفقة الشاي والبسكويت"، وتتحول صفحات الفيس إلى دعاية مجانية بحروف من خيبة.

نحن في قرية تحولت إلى "ريلز" مفتوحة على الهواء، والشارع صار نشرة أخبار، والمقابر مكان هادئ للراحة من ضجيج اللايفات.

وفي آخر الممر، طفل صغير يحمل هاتفًا أكبر من حجم كفه، يصوّر جنازة جده وهو يقول: "متنسوش تعملوا لايك وشير ودعاء للمرحوم".

هنا... أكتب إليكم من إمارة بلا أمير، من وطن يُدار بالفلاتر و"التريندات"، حيث نكتب على جدران الفيسبوك مآسينا، ونضحك... ثم نبكي... ثم نشارك الصورة.

وسلام على من ماتوا رجالًا... ولم يصبحوا "مؤثرين"

في هذا الزمان الذي اختلط فيه جنون البشر بجنون البقر....!!

من يوميات كاتب في الأرياف ،،

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

 

في المثقف اليوم