أقلام ثقافية
مصطفى غَلْمَان: "النص الإلكتروني" وفواعل "نص بارت"
(لعل الملاذ الوحيد هو أن تجعل صوتًا قادمًا من البعيد مسموعًا، من مكان آخر، منقطع الصلة بكلِّ ما عداه.. بيدَ أن تكون منقطع الصلة بكل ما عداك فتلك أمنية يوتوبي).. فرنسوا فال.
في مفهوم الكتابة، تنزاح التخيلات الابداعية إلى ما يشبه ارتطام الصخور، وتحولها إلى أشلاء، قد تأخذ أشكالا نصية تداولية متعددة، ودرجات من التماهي في واقع التلقي، يجلبها إلى كثلة جديدة في مرمى فهم حقيقة "الرقمي التفاعلي"، وما يحبل به في إعادة قراءة اللغة وتمثلاتها وسد فراغاتها وتعدد تأويلاتها.
نفسها القطيعة التي تنشطر إلى لسانية وآلية، تنسج نصوصا جديدة بآفاق مفتوحة على كل الواجهات، في تعدد وسائطها وتناغم مفاصلها، وانتقالاتها، من رمادها الخام، مستعذبة وسوما مغايرة، وأوضاعا تؤطرها بنية دلالية قرائية ووعي استقبال، بنكهة اعتبارية متحررة من تقاليد المفهوم التفاعلي السابق.
إن البحث عن ملاذ نوسطالجي آمن ومنتظم لتحميل الأفكار ونشرها، والامتداد بها، هو نفسه الشعور بالانتماء لنص بارت، الذي يطوف بلذاذته بآثار وملمات شاغرة، للانزياح عن فهمنا الخاص للكتابة.
وبما أن عوالم التغيير المستحدثة، أظهرت بالملموس مدى شساعة ولامحدودية الفضاءات الزرقاء في الافتراضي والتكنولوجي الرقمي، فإن تمة ما يدعونا إلى إعادة صياغة سؤال النشر وممكناته، على مستويات القابلية (القراءة)، والاندماج الفكري والنفسي وما يلي ذلك من الابدالات التي تؤثر في "الإمتاع" و"اللذة" و"توثيق النص"؟.
ووفق التحولات المندوحة لفعل التلقي والكتابة، يصير المنظور المتغير لثنائية (الكتابة والكاتب)، بعد الطفرة الجنونية التي شهدتها شبكات التواصل الاجتماعي وسرعة الانترنيت، وما يستتبعهما من التدفق الجرار للمعلومات والبيانات والتراجم الاصطناعية الذكية، موطنا نقدانيا يحيل بالضرورة إلى بداية التفكير في حلحلة أو حتى اسقاط نظرية بارت، بالنظر إلى التأثيرات الفكرية والاستخدامات الجديدة للانترنت وتجاذبات ذلك كله، على ما يسمى ب "قيمة المؤلف عند قراءة النص"و "حرية القارئ" و"إشكالية الكاتب الورقي"، والقارئ الإلكتروني"، و "الملكية الفكرية" وغير ذلك.
نتساءل هنا، هل تمة ما يحيل إلى تكريس موت المؤلف، أو تأخير دفنه في ضوء انحسار الورقي، واستمرار تعثره؟. فالقضية هنا، ليست مرتبطة فقط بما تستثمره الثقافات المرقمنة، من الصمود اليوطوبي ضد التيار الجارف لتكنولوجيا المعلوميات وزحفها تجاه الروح والقيمة، ولا بسياق إحفاز النص على القفز والتداعي، بل بمنظومة قيم بدأت تتوسع بشكل خطير في بنيات الثقافات وتحولاتها الحضارية .
هذا لا يعني بالتأكيد، أننا متواطئون مع هذا الانجراف الداهم، ومسايرون لتداعياته الرجيمة، بل مندهشون من فتنه وقحالة زمنيته، حيث يبدو لنا للوهلة الاولى، أن خلاصنا من "النص" ومن سلطتنا الذاتية بإزائه، تعيق فهمنا لممكنات جعل القارئ المفترض قابلا لامتلاك سلطة أخرى موازية، وهو الشيء الذي يدفعنا إلى التخلص السريع من ثقل النص وإملاءاته الشكلية والفنية المضطربة، كما متاهاته المنذورة للهشاشة والتفكك والاختفاء؟!.
على أننا في هذا السير الصاعق المتوتر، نحاول ابتلاع تفاعلية الأيقونة بين تلقي النص في صيغته الإلكترونية التي لا تمايز فقط بين محتويات النص فقط، بل تعيده إلى مكمنه النفسي ومنشئه الأبجدي، دون إغفال مستوى الخطاب، عبر اللغة التي تبني هيكلها العام، دون انحراف بنائي أو تشظي دلالي.
***
د. مصطفى غَلْمَان