أقلام ثقافية

علي الجنابي: أأميرةٌ هيَ أم هيَ أسيرة!

حدثني ذو شيبةٍ بهيَّةٍ فقالَ بلسانِ ذاتٍ هيَ في شأنِ الحياةِ كانت خبيرة:

أرأيتَكَ قومَكَ فإنَّهم مالوا فقالوا كلمةَ مجَّةً سمجةً وبالخَرَاب نذيرة، قالوا: "إنَّ البنتَ في دارِ أبيها أميرة، وفي بيتِ بعلها أسيرة". وتلكَ لَعمري كلمةُ هَوجاءُ عوجاءُ عرجاء وبالإعتبارِ غيرُ جديرة. أفَنسيَ القومُ أنَّها تقضي معشارَ عُمُرِها في دلالِ أبيها وبدلائِلهِ مستَنيرة، بينما تمضي في تسعةِ أعشاره في ظلالِ زوجها وبنزيرِ سعيهِ راضية، وبغزير عيشهِ مُتنعمةٌ غيرُ مُستطيرة، أم تناسوا أنَّها فسيلةُ، والفسيلةُ لا تؤتي أكُلها إن لم تنفصمْ عن نخلتِها الكبيرة. أم لعلَّهم تغافَلوا أنَّها ما خُلِقتَ إلّا لتكون سكناً لهُ، ولهُ وحدهُ بالودادِ سَميرة. أم تَجاهَلوا أن لا عيشَاً هنيَّاَ لها بتمامٍ في مقاديره، وألا مَصيرَ لها إلّا معَ زوجِها وحيثما يكونُ مصيره. وهكذا فلقَ الخَلّاقُ ﷻ الفسائِلَ، وهكذا شَرَّعَ في فرقانهِ أطوارَهنَّ بكلماتٍ تاماتٍ جليةٍ ويسيرة.

أجَبتُ ذا الشيبةِ المتحدثِ بنَبَرَاتٍ حصينةٍ رصينةٍ وبنَظَرَاتٍ بصيرة:

بيدَ أنّي أظنُّ أنَّ قولَ الناسِ: "عندَ أبيها أميرة، وعند بعلها أسيرة"، هي عبارةُ حقٍّ وللإمتعاضِ غيرُ مثيرة، ذاكَ أنها عبارةٌ ما جاءَت عن ضوضاءَ ومتاعبَ كثيرة، بل إثرَ غوغاءَ ومصائبَ خطيرة؟

فرَمقني ذو الشيبةِ بإستياءٍ وكادَ يسحبُ من تحتي حَصيره، وشعرتُ حينَئذٍ أنّي كنتُ بين يديهِ كمثلِ تائهٍ هائمٍ ضاعَ منهُ بعيره، ثمَّ ردَّ عليَّ بقولٍ غليظٍ مزمجرٍ مُترَعٌ بزفيره:

أوَقلتَ: "ما جاءَ قولُهم من متاعبَ بل بعدَ مصائبَ خطيرة". إذاً، فاسمعْ وخذْ مني جذوةً قد تنفعُكَ في فهمِ الحقِّ ومعرفةِ معاييره، الحقِّ الذي نبذهُ الناسُ وكرهوا سُبُلَهُ، ومقتوا منه حتّى تباشيره: إنَّ المصائبَ لا تكونُ إلّا حيثُما يكونُ الباطلُ مُلوِّحاً بدنايره، وترى الناسَ لاهثينَ بدناءةٍ خلفَ دراهمِهِ وتصاويره، ومهرولينَ ببذاءةٍ وراءَ رفثِهِ وسائرينَ أينما سارَ مسيره، وناكثينَ أصيلَ إرثِ الكتابِ وهدى تعابيره، ونبيلِ كلمِ النبوَّةِ وشذا عبيره، وحانثينَ بجميل حرثِ الآباءِ وأزاهيره، ثمَّ تراهمُ مِن بعدُ أن تأتيَ إبنتُهمُ إليهمُ مكاومةً أسيرة، تراهمُ بسذاجةٍ يُوَلوِلونَ: "أنَّها عندَ أبيها أميرة، وعند بعلها أسيرة"، والحقَّ أقولُ؛ "أنَّ بنتَ الإسلامِ كانت في ديارِ أبيها أميرةً لكنها سفيرةٌ، وتكونُ في مملكةِ زوجها أميرةٌ مُكَرَّمَةٌ قريرة".

فرَدَدتُ على ذي الشيبةِ بخجلٍ وبكلماتٍ صغيرةٍ وقصيرة:

" أقرُّ أنها تمكثُ في دار أبيها كما تمكثُ السَّفيرة، بيدَ أننا اليومَ نحيا في دهرٍ عِوَجٍ قد بتَّكَ مُثلَهُ وهَتكَ ضميرَه، ومحالٌ أن نُصيِّرَها في كلا الدَّارينِ سفيرةً ثمَّ أميرة، فهل الى ذلكَ من سبيلٍ يا ذا شيبةٍ في شؤونِ الحياةِ خبيرة"؟

فردَّتِ الشَّيبةُ عليَّ بكلمةٍ جليةٍ وجهيرة؛

"الأمرُ يسيرٌ، وما عليكَ من واجبٍ ألا يا أيها الوالدُ للسَّفيرة، إلَا إنتخابَ النَّسبِ الزكيِّ لأبنتِكَ لتكونَ عندهُ أميرة، لأنَّ الأصلَ غلّابٌ مَهما حاوَلتَ إصلاحَهُ وتعميره. وإذاً، فالقرارُ الأهمُّ هو بيدِكَ أنتَ يا وليُّ السَّفيرة، وليسَ بأياديَ أبي الزوجِ ولا الزوج ولا حتّى بيدِ إبنتِك السَّفيرة. عليكَ وحدكَ يقعُ نجاحُ عشِّ حياتِها، وبيدكَ وحدكَ وحسبُ تدميره، شَرطَ أن تعيَ وتَفهمَ معانيَ" الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ" فهماً عن هدىً وبصيرة، ثمَّ لتعلمَ ثمَّ لتقرِّرَ أن؛

"خذوها طيِّبَةً مباركة، وأنعمْ بكم من قومٍ وأكرمْ بها من مصاهرة بالإحترامِ جديرة"، أو أن تعتذرَمنهمُ؛

"التمسُ منكمُ العذرَ، وليركبْ كلُّ امرئٍ منكمُ بعيره، وأتمنى لكم مصاهرةً مع عشائرَ طيِّبةٍ سوانا كثيرة".

وختاماً، لكَ أن تُدركَ يا واليَ السفيرة، أنَّهُ: ما على وليِّ المريضِ من واجبٍ إلّا اختيارِ الطبيبِ الفهيمِ النقيِّ ضميره، لكيلا يكونَ مريضهُ "فأرَ تجاربَ" بينَ أياديَ أشباهِ الأطباءَ، وساعتئذٍ يقعدُ الوليُّ ومعهُ المريض وبمجاجةٍ يوَلوِلانِ على سريره:

"إنَّ البنتَ في دارِ أبيها أميرة، وفي بيتِ بعلها أسيرة".

(المقالةُ مهداةٌ الى "ع" و"هـ". مع أزكى التهاني).

***

علي الجناني

في المثقف اليوم