أقلام ثقافية

حيدر عبد السادة: السينما في أروقة الشباب والرياضة

تُعدّ السينما واحدة من أكثر الأدوات قدرةً على التعبير وإيصال المحتوى القيمي في صورة مشوِّقة وفاعلة. فهي لا تنقل مجرد أحداثٍ أو صورٍ متحركة، بل تُجسّد ذاكرةً جمعية قادرة على مقاومة النسيان الذي يفرضه الزمن، لتغدو وعاءً لقيم المجتمع ومخزونه الرمزي.

لقد ارتبطت الصورة، منذ فجر الفلسفة، بالبحث عن الحقيقة والمعنى، فأفلاطون، في أمثولته عن الكهف، فرّق بين صورة الوهم وصورة الحقيقة، مانحًا الأولوية للمعقولات على المحسوسات، ليضع الصورة في قلب الإشكالات الميتافيزيقية الثلاثة: الوجود، المعرفة، والقيم.

ومع التاريخ، صارت الصورة محورًا لفلسفة الجمال، تتطور عبر المدارس والاتجاهات الفنية لتغدو لغةً قائمة بذاتها، تحمل رموزًا وشفرات تستدعي التأويل، حتى بدا وكأنّ للصورة روحًا تتحرك وإن كانت ساكنة. ومن هنا كان ميلاد السينما بمثابة ثورة جمالية كبرى دشّنت عهدًا جديدًا للفن الإنساني. ولأن السينما خطابٌ

قادر على صناعة المعنى، فقد تحولت إلى وسيلة ذات أثر مزدوج: فهي تارةً أداة لتشييد الوعي وبناء الهوية الجمعية، وتارةً أخرى سلاحًا للتلاعب بالعقول وتقويض البنى الاجتماعية. لقد استخدمتها الأنظمة السياسية والدول في بثّ الوعيد أو الوعد، في الترغيب للمؤتلفين أو الترهيب للمختلفين، حتى غدت تُصنَّف في بعض اللحظات التاريخية كسلاحٍ يفوق أثره ما تحمله الترسانات العسكرية.

وعلى هذا الأساس، يصبح لزامًا علينا أن نعيد النظر في علاقتنا بالسينما؛ إذ لا يكفي أن نستهلك إنتاجها الوافد من الخارج، بل يجب أن نؤسس لفضاء سينمائي يعكس قيمنا، ويُصدّر هويتنا، ويُبرز استقرارنا الاجتماعي وطموحاتنا الأكاديمية والتقنية.

فالسينما ليست مرآةً للواقع فحسب، بل أداة لتشكيله وإعادة بنائه، خصوصًا في ما يتصل بتنشئة الأجيال الصاعدة على ذاكرة نقدية تعي ماضيها وتقرأ حاضرها وتتهيأ لمستقبلها. لكن السينما، لكي تنهض

بدورها الحقيقي، لا بد أن تُصان من الابتذال والاختزال في منطق السوق النفعي، حيث تُقاس القيمة بكمية المشاهدة لا بجودة الفكرة، وإنّ ما نشهده اليوم من تفاهةٍ في بعض الأعمال الهابطة إنما يعكس انسلاخ الفن عن رسالته، وتحوله إلى بضاعة عابرة تكرّس الركود بدل أن تفتح أفق التقدّم.

في المقابل، يبرز اليوم أفق جديد من خلال تبنّي الدولة، ممثلةً بوزارة الشباب والرياضة، لملف السينما بوصفها رافعة للوعي الجمعي، فقد أعاد الوزير الدكتور (أحمد المبرقع) الاعتبار لمكانة الشباب، ناقلًا الوزارة من انحصارها في فضاء الرياضة إلى فضاء أرحب يحتفي بالإبداع الثقافي والفني، ومن هنا جاءت مبادرته النوعية بإطلاق مهرجان العراق السينمائي الدولي لأفلام الشباب، الذي يفتح المجال أمام الطاقات الشبابية لصياغة رؤاها وتجسيد طموحاتها عبر لغة الفن السابع.

إنّ هذا المشروع لا يقف عند حدود الترفيه، بل يتجاوزها إلى بناء خطاب ثقافي عابر للحدود، يصوغ ذاكرة جمعية متجددة، ويمنح العراق نافذة حضارية يُطلّ بها على العالم، ومن خلاله يمكننا أن نؤسس لثقافة تصدير القيم، وإبراز واقعنا الاجتماعي والتاريخي بعيون سينمائية تحمل خطابًا فلسفيًا، نقديًا، وإنسانيًا في آن واحد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم