أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: القارئان.. من بورخس الى مانجويل

هما بالفعل القارئان، فقد اشتهرا وارتبط كل منهما في فترة خاصة من عمره بالآخر، وكان لكل منهما فلسفته المتأثرة بالأخرى. نقول انهما القارئان مع ال التعريف، كونهما عُرفا بحبّهما الغامر للكتب وأمضى كل منهما سحابة عمره مرافقا لها، ورائيا فيها وفي قراءتها نشاطا إنسانيا لا بد منه لان تكتمل إنسانية الانسان ولأن يجدّد شبابه ويجعل من الحياة رحلة ممعتة مسلية ومفيدة.
المقصود بهذين القارئين، كما لا يغيب عمّن أحبّ الكتاب ورافقه متزاملًا معه، هما الكاتبان الارجنتينان، جورج لويس بورخس، والبرتو مانغويل، وقد ارتبط اسما هذين الكاتبين، بحيث انه بات من المُستغرب والمستهجن أن يُذكر أحدهما دون ان يذكر الآخر، اما سبب هذا كله فانه يعود إلى كون كل منهما اعتبر نفسه منذ البداية قارئا أكثر منه كاتبا، وان كلا منهما قدّم صورةً يمكن اعتبارها موئلا للرؤية التي تميز القارئ المعاصر.
بين هذين الكاتبين ربطت علاقة.. ابتدأت مصادفة، غير أنها تواصلت قصدًا، وقد تمّ اللقاء الأول بينهما في مكتبة بجماليون، وكان بورخس في حينها في الخامسة والستين من عمره، في حين كان مانجويل في السادسة والعشرين، وكان يعمل حينها امينا للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينية بوينس ايرس، وهو المنصب ذاته الذي سيتولّاه فيما بعد روبرت مانجويل. أعجب بورخس في ذلك اللقاء بمانجويل الشاب القارئ المحب للكتاب، فاقترح عليه ان يقوم بزيارته لقراءة ما أراد ان يطلع عليه من مؤلفات، هكذا تمّت الزيارت الأولى لتتواصل مدة أربعة أعوام من 1964 حتى 68، بواقع ثلاث او اربع زيارات أسبوعية، يستمتع الاثنان فيها بما بالقراءة المشتركة، ويغرقان في البحر المحبب لكل منهما.. بحر الكتاب ولجُجه المبهرة الساحرة. عندما كان مانغويل يعود إلى بيته كان اهل البيت يقترحون عليه ان يسجل يومياته او مذكراته مع بورخس، غير ان مانجويل كان يعيش مع بورخس بكل ما في روحه من محبة للكتاب، وقد وثق مانجويل هذه اللقاءات في كتاب حمّله عنوان " مع بورخس"، وبإمكان من يود قراءة هذا الكتاب والاطلاع على ما أورده فيه مانجويل عن بورخس ان يقرأه بالعديد من اللغات التي تمت ترجمته اليها. الترجمة العربية لهذا الكتاب تمت بهمة المترجم العربي المبدع صالح علماني وصدرت قبل سنوات عن دار المدى العراقية السورية المتألقة.
القراءة للمتعة
بالعودة الى بورخس قارئا، يمكننا القول إنه رأى في الكتاب مصدرا مركزيا للمتعة والفائدة، وعادة ما كان بورخس يشطح في العوالم الرحيبة التي يرتادها مَن يقرأ لهم من الكتاب، أمثال الكاتب الاسباني سرفانتس في روايته الخالدة دون كيخوته، ويتجول مُقلعًا في افاقها، وكان يُفضّل قراءة الروايات البوليسية، علما أنه عُرف بنظرته الثاقبة وذاكرته الحية وغير العادية، ومما يذكر عن بورخس انه اطلع على افضل ما انتجبته البشرية من كتب، وانه توقف عند الكتاب العربي العظيم الف ليلة وليلة وتأثر به ايما تأثر، وكان بورخس كما عُرف عنه أيضًا، لا يصبر على كتاب مملّ او يدخل السام اليه، فيلقي به بعيدا ويبحث فيما يتلو من وقت عن كتاب آخر يُدخل البهجة إلى روحة والمتعة الى حياته. وكان بورخس يعتبر نفسه قارئًا أكثر منه كاتبًا، ويُخيّل لي أنه رُغم اصابته بالعمى التدريجي في أواخر العشرينيات حتى الثلاثينيات من عمره، الا انه اصرّ على مواصلة القراءة، فبعد ان بلغت جدته وقارئته الكريمة التسعين من عمرها، ها هو يلتقي بمانجويل، قارئه الذي سيمثل استمرارًا عمليًا له في رحلته العظيمة مع الكتاب، وسوف يُكرّس جانبًا مركزيا في حياته لتحفيز الناس في العالم على القراءة ناقلًا رغبته في الكتاب عبر عدوى رائعة الى الكثيرين في مختلف ربوع العالم واصقاعه.
قراءة واحدة لا تكفي
اما فيما يتعلّق بهذا الأخير، مانجويل، فقد اعتبر القراءة النافذة الأجلّ للإطلال منها على العالم السري الخفي للروح الإنسانية الشاملة، واعتبر ان إعادة قراءة الكتب الجادة، وبذل ما تحتاج إليه من مجهود، مهمة مقدسة تُغني وتُثري كل من يتصادق مع الكتاب، ووفق رؤيته هذه يمكننا القول إن مانجويل اعتبر الكتاب صديقا متجددا ودائم الحيوية فنحن في كل مرحلة من مراحل الحياة يمكننا ان نكتشف العميق والفاتن من الكتب، غير اننا قد نجد انفسنا في فترات تالية من العمر وقد شدتنا رغبة عارمة لان نعود لقراءة هذا الكتاب او ذاك مما سبق وقرأناه في الماضي. ذلك ان مفهومنا للكتاب وما يتضمنه قابل للتغير والاكتشاف المتجدد أيضا. تناغما مع بورخس، قام مانجول باعتبار القراءة رسالة إنسانية يُفترض فيه نقلها الى الاخرين من اخوانه في البشرية، وقام من اجل تنفيذ مهمته هذه بوضع العديد من المؤلفات التي تحضّ على القراءة وتساهم في تفكيك شفراتها المشجّعة على ممارستها. من الكتب التي وضعها مانجويل عن القراءة نشير الى كتابيه تاريخ القراءة ومكتبة اخر الليل، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين الى العديد من اللغات من بينها لغتنا العربية. مع كل ما تقدم ورغمه يرى مانجويل أنه لا توجد مفاتيح سحرية لممارسة القراءة ذلك انه كما يرى توجد هناك لكل قارئ راغب طريقة خاصة تعتبر أفضل من كل ما عداها للقراءة.
هكذا نلاحظ ان هذين القارئين المعروفين في مختلف انحاء العالم، قدّما بحياتهما، كلّ على حدة وبُعد، نموذجًا يمكن احتذاؤه او الاستفادة من تجربته ورؤيته للقراءة على اعتبار انها نشاط إنساني لا بدّ منه استعدًادا وتمهيدًا لان تكتمل إنسانية الواحد منا ولان تندمج روحه في الكل الإنساني الشامل.
***
ناجي ظاهر