أقلام ثقافية

عماد خالد رحمة: حين يخجل الحرف من الجمال

الأدب في زمن الدم والخذلان

إنّ ما يجري الآن حولنا، بل ما يتفجّر أحيانًا تحت أقدامنا من مآسٍ وحروب ومجازر، يعيد إلى أذهاننا ذلك النداء الأخلاقي العميق الذي أطلقه الشاعر الألماني برتولت برخت، حين عبّر عن رغبته في الكتابة عن العشاق، والطيور، وغروب الشمس، لكنه لم يستطع، لأن الدم الجاري في الشوارع جعله يشعر بالخجل من أي كتابة لا تشهد على الجريمة، ولا تُصغي لأنين الضحايا.

هكذا تضعنا الكارثة وجهاً لوجه أمام مسؤولية الكلمة. فحين يصبح العالم غارقاً في العنف، يصبح الصمتُ عن القتل تواطؤاً، وتتحول الكتابة إلى محكمة أخلاقية: إمّا أن تكون شهادة حقيقية على الألم الإنساني، أو تكون محاولة للهرب من مرآة الواقع نحو وهم الجمال المعزول. وبهذا المعنى، لا يمكن للكاتب ـ في خضم الخراب ـ أن يُعفى من سؤال الانتماء الأخلاقي، لأن الكلمة إما أن تكون خنجراً في خاصرة الجلاد أو ضماداً على جراح الضحايا.

يقول سارتر في كتابه الأدب هو الحرية: "الكاتب مسؤول عن عصره، ومهمته أن يُحرّض، أن يكشف، أن يشهد"، وهذا ما يجعل الأدب أكثر من فن، بل شراكة وجودية في المعاناة الجماعية. فحين تنفجر البيوت على رؤوس الأطفال، لا يحق للشاعر أن يكتب عن الزهور ما لم يزرعها في المقابر أولاً.

كذلك رأى إدوارد سعيد أنّ "المثقف الحقيقي هو من يختار أن يكون في موقع المساءلة والرفض"، وهو من يتجاوز البلاغة إلى الفعل النقدي، ومن يرفض أن يكون صوتاً في جوقة الحاكم أو صدىً لصوت المنتصر.

إنّ ما تشهده الجغرافيا العربية ـ من فلسطين المشتعلة إلى العراق المجزّأ، ومن السودان النازف إلى سوريا المتعبة ـ لم يعد مجرد مادة إخبارية، بل صار اختباراً لكل ضمير حر. فكلّ قصيدة تُكتب، وكل مقال يُنشر، وكل كلمة تُقال، تُصبح فعلاً أخلاقيًّا يُحدّد الموقع الحقيقي لصاحبه: أهو مع القتيل، أم مع صمت القاتل؟

ولعلّ المفارقة التي أشار إليها ثيودور أدورنو حين قال: "إن كتابة الشعر بعد أوشفيتز أمر همجي"، لم تكن رفضاً للأدب بعد المجازر، بل دعوةً لتغيير وظيفة الأدب. فالشعر الذي لا يُسائل البُنى القاتلة، ولا يهتك القناع عن الوحشية المغلّفة بالشعارات، لا يختلف عن الصمت. والأدب الذي لا يُقلق السائد، ولا يُحرّض على التفكير، يفقد جوهره بوصفه فعلاً إنسانياً يُقاوم النسيان.

لقد حاول البعض، باسم "الفن للفن"، أن يعزل الجمال عن الأخلاق، وأن يجعل من الأدب ساحة ترفٍ روحيّ، لا منبرَ مقاومة. لكن حتى أرسطو، الذي وضع الجمال في صلب التجربة التراجيدية، ربط الشعر بالتطهير، أي بالتحريض على الوعي والشفاء من الوهم.

في هذا السياق، لا بدّ أن نتذكر تحذير فريديك نيتشه من "الشعر الذي ينام على الأرائك"، على حدّ تعبيره، لأن الألم البشري لا يليق به إلا القلق الإبداعي، لا الترف اللغوي. إن ما يكتبه المبدع في زمن المذبحة لا يجوز أن يكون معزولاً عن صرخة، أو منفصلاً عن سياق.

إنّ الخجل الذي عبّر عنه برخت ليس ضعفاً، بل هو ذروة الحس الإنساني: إنه صوت الضمير حين يرفض تحويل القتل إلى خلفية تجميلية، أو معادلة سياسية. إنه خجل الكلمة من أن تصبح تواطؤاً. خجل القصيدة من أن تغني بينما يموت طفل تحت الأنقاض. خجل الثقافة من أن تكون ملاذاً للهرب من جحيم الواقع.

فليست الكتابة في زمن الدم ترفاً، بل هي خيار حاسم بين أن نكون "شهوداً على المجزرة" أو "سماسرة للزخرفة".

وإذا كانت الطيور ما زالت تحلق، والشمس ما تزال تغرب، فإن دم الضحايا يظل أقوى من كل تشبيه، وأسبق من كل مجاز. لأن اللغة حين لا تكون في صفّ الحياة، تتحوّل إلى قناعٍ للموت.

- خاتمة:

ليست القصيدة بيتاً من الورق، بل هي بيتٌ يأوي إليه المظلوم.

وليست الرواية لحظة هروب، بل وثيقة اتهام. وليس الكاتب خبير أساليب، بل شاهدٌ يُستدعى إلى محكمة الوجود. وحين تخجل الكلمات من الجمال، فذلك لأن الدم فضح كلّ ما هو مزيف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم