أقلام فكرية

رمضان بن رمضان: محمد أركون ومواقفه من الاستشراق

الإستشراق وعوائقه المعرفية

في ذكرى وفاة محمد أركون: هذا النص إهداء بروحه

 ***

توطئة: اعتمد محمد أركون (1938 – 2010) في تحليل المنهجية الاستشراقية ونقدها على مادة " قرآن " الموجودة بدائرة المعارف الإسلامية – الطبعة الثانية – والتي كتبها أحد المستشرقين: أ.ت.ويلش A.T.Welch و نظرا إلى أن تعليقه على ما كتبه هذا المستشرق كان مقتضبا إلى حد ما، فإننا سنلجأ إلى ما كتبه أركون في مواضع أخرى حول الاستشراق ومنهجيته في تعامله مع التراث الإسلامي. ومسألة الاستشراق خاض فيها العديد من الدارسين وقيلت بشأنها أقوال وآراء متضاربة أحيانا ومتفقة في أحيان كثيرة ومن أهم القضايا التي أثيرت نجد خلفيات الاستشراق، مدى موضوعية المستشرقين في تناولهم لمسائل تاريخية ووحضارية من تراثنا، ثم مدى ملائمة مناهج المستشرقين لموضوع بحثهم وما ترتب عن استعمال هذه المناهج من نتائج سلبا وإيجابا. هذا بصفة عامة، أما محمد أركون فإنه يتساءل منذ البداية عن مدى صحة ما يروجه الكلاسيكيون العرب في خصوص الاستشراق والمستشرقين: هل هناك معاداة مبالغ فيها التقاليد من قبل الاستشراق أم بالعكس هناك تجن لا مبرر له من قبل الكلاسيكيين تجاه المستشرقين؟ وهنا يحاول أركون أن ينحو منحى موضوعيا في تقييم كتابات المستشرقين ومن هنا تأتي مشروعية التساؤل الموالي: هل كسر الاستشراق بعض القيود القيود والاقفال نعني بذلك أدواته المنهجية أم أنه اكتفى بتطبيق المباىء والمناهج والتساؤلات المشتركة التي استخدمها البحث الجامعي في الغرب ما بين عامي 1850-1960 تقريبا على القرآن؟ (1). وأعتقد أن تميز أركون في تناوله لمسألة الاستشراق يكمن في مضمون هذا التساؤل الذي ينأى بالإشكالية عن الحساسية المفرطة وعن التشنج المبالغ فيه ليتناولها بهدوء الباحث ورصانة المفكر، فتغيب تبعا لذلك ملامح الطرح الإيديولوجي للمسألة وتظهر أبعادها المعرفية جلية.

1 – عرض المنهجية الاستشراقية وخصائصها:

المنهجية الاستشراقية أو كما يسميها أركون بالإسلاميات الكلاسيكية (2) هي خطاب غربي حول الإسلام ومصطلح الإسلاميات – بمعنى الخطاب الذي يهدف إلى العقلانية في دراسة الإسلام – هي اختراع غربي. ففي الواقع لا يمكن أن ننكر أن " الإستشراق " كان قد ساهم بشكل واسع في إعادة تنشيط الفكر العربي الإسلامي، لكن ينبغي مع ذلك القول أنه إذا كان هناك معلمين كبارا من أمثال دوسلان، سنوكا، غرونج، نولدكه، ما سينيون، مارسيه قد سحبوا نصوصا ذات أهمية كبرى من نسيان طويل وشقوا طرقا جديدة وأساسية للبحث مثل اللهجات المهملة وغيرها، فإن إسهاماتهم بقيت لوقت طويل إما متجاهلة وإما منظورا إليها سلبيا من قبل الجمهور العربي والإسلامي.

لقد اعتمد المستشرقون في تعاملهم مع التراث العربي الإسلامي مناهج فقه اللغة الكلاسيكية التي ظهرت منذ القرن الرابع عشر وتواصل العمل بها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عدت المناهج اللغوية الأداة العلمية الوحيدة القادرة على إخراج نصوص قديمة ونشرها محققة بدقة عالية. ربما تعود بدايات الإستشراق إلى العصر الوسيط حيث اهتم الغربيون بترجمة مؤلفات علمية عربية إلى اللاتينية. وابتداء من القرن السادس عشر بدأ الفكر الغربي يزدهر ويتسع ويصبح أكثر إشعاعا، وعلى النقيض من ذلك كان الفكر العربي والإسلامي قد بدأ بالتراجع والانحسار ليصبح فكرا تابعا وهنا ينبغي علينا أن ننظر إلى مسألة العلاقة بين المشرق العربي الإسلامي والغرب ضمن هذا الأفق التاريخي لموازين القوى التي انقلبت لصالح الغرب وأصبح المشارقة سواحا مسافرين يأتون لمشاهدة هذه المجتمعات (3) بعين عجائبية.

منذ القرن التاسع عشر، الذي تميز بظاهرة الاستعمار على المستوى الإقتصادي والسياسي وبنشوء علم التاريخ وتطوره على مستوى العلوم الإنسانية تضاعف إحساس الغرب بتفوقه إزاء بقية شعوب العالم ولاسيما إزاء المجتعات العربية الإسلامية، فكان الالتقاء الموضوعي بين الإستشراق والاستعمار وأصبح نتاج المستشرقين الفكري والحضاري مشحونا بالبعد الإيديولوجي وأصبح المستشرقون السند المعرفي والتبريري للاستعمار وهذا ما ولد نفورا لدى الجمهور العربي والإسلامي من كتابات المستشرقين. إن التداخل بين البعد المعرفي في المنهجية الاستشراقية والبعد السياسي الاستعماري يعود بالأساس إلى التزامن بين بروز منهجية فقه اللغة وعلومها أو ما عرف بالمنهجية الفللوجية ونشوء علم التاريخ وتطوره في القرن التاسع عشر من ناحية وبين انقضاض الغرب الرأسمالي على البلدان العربية والإسلامية وسيطرته عليها. ولعل في ما قلناه دفاع عن الاستشراق ولكن ينبغي أن لا ننسى أن السياسي الاستعماري قد وظف المنتوج المعرفي لعصره لتبرير ممارساته وخططه وأهدافه وما يعاب على بعض المستشرقين هو انسياقهم في مخططات لا تليق بمكانتهم المعرفية ولا بدورهم العلمي. وقد يكون هذا من الأسباب التي جعلت المفكرين العرب يهملون الإنتاج المعرفي للمستشرقين أو يتعاملون معه باحتراز شديد، وذالك رغم ما أتاحته منهجيتهم من تحقيق لنصوص كبرى من التراث العربي الإسلامي وانتشالها من غياهب النسيان، مع العلم أن هذه المنهجية مازالت مستمرة إلى الآن في دوائر الاستشراق ومعاهده وجامعاته (4).إن حاجتنا اليوم إلى فقه اللغة لا تزال أكيدة لأن تراثنا لايزال في قسمه الأعظم مخطوطات لم تحقق بعد علميا. إن المنهجية الفللوجية لا تزال تفرض نفسها على الباحثين بصفتها المرحلة الأولى من مراحل البحث وخاصة المدرسة الألمانية لعراقتها في البحث ودقتها العلمية.

2 – الاستشراق والنص القرآني:

مما يلاحظ في مقالة أ . ت. ويلش A.T.Welch  في دائرة المعارف الإسلامية أنها تلتقي مع ما كتبه السيوطي (849 هج./ 912 هج.) في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " فنجد عند كليهما اهتماما كبيرا بجرد المعارف ووصف المشاكل المتعلقة بالصيغ التي اتخذها الوحي في المصحف أو في النص النهائي، فنبقى بذلك خارج النص نفسه، على السطح عندما نكتفي بتقص يخص فقط المفردات والشكل والبنية النحوية والأسلوب. وتبدو المقاربة الشكلية أكثر وضوحا عندما يطرح المؤلف تساؤلات بخصوص الحروف الغامضة المجهولة مثل:آلم ، كهيعص،...و تقطيع الآيات ونظام السور وطولها وأسمائها وكذلك بخصوص وجود البسملة من عدمها. ومما يلاحظ أيضا أن المؤلف قد تعرض للصيغ الأدبية والموضوعات الأساسية في الفقرة ذاتها ومما يؤسف له أنه تطرق لهذا الموضوع ضمن تصور للنقد الأدبي التقليدي (5) وهو التصور الذي يفصل اللغة عن الأسلوب ويفصل الأشكال الأدبية عن الموضوعات، في المقابل ينبغي الإعتراف بأهمية معطيات المنهج الفللوجي ومكتسباته الإيجابية التي لا ريب فيها. هناك أمر لا بد من الإشارة إليه ،قبل أن تتطرق إلى علاقة الاستشراق بالنص القرأني ،هذا الأمر يتصل بفارق أساسي بين المنهجية الإسلامبة التقليدية والمنهجية الاستشراقية فبقدر ما ينزع التفسير الإسلامي الصفة التاريخية عن كيفية تشكل المصحف (6)، ويطمس المشاكل المتعلقة بذلك ويسبغ علي مضامين النص القرآني نوعا من التعالي، يهتم البحث الإستشراقي كليا بالمعطيات الإيجاببة والواقعية لتاريخ القرأن فيما بعد سنة 11هج / 632 م وينشغل بمسألة السياق اللغوي والتاريخي للآيات، فالتعارض بين هاتين النظرتين جذري وحاد ولا يمكن إقامة أي جسر أو صلة وصل بينهما.

لنولدكه Noldeke فضل كبير في أنه أدخل للمرة الأولى منذ القرن 4هج / 10 م السؤال الذي لا مفر منه والخاص بالتاريخ النقدي للنص القرأني، وذلك في مؤلفه الضخم " تأريخ القرأن " Geschishte des Qorans  الذي طبع ونقح من قبل ف.شوالي F.Schawaly سنة 1919 تحت عنوان (........) ثم نشره مرة أخرى كل من ج. بواجستراسير J. Bregstasser وس.بريتزل S.Bretzel سنة 1938. لم يلق هذا الكتاب زمن إنجاز هذه الدراسة مترجما ينقله إلى العربية على أهميته مما يعطي فكرة عن وجود مجال من المستحيل التفكير فيه والمفروض من قبل العقل الأرثوذكسي . هناك من المستشرقين من تندرج أعماله ضمن الخط الفللوجي- التاريخاني الذي رسمته المدرسة الألمانية نذكر منهم: أ. جيفري A.Gifrey ور.باريه  R.Paret وريجيس بلاشير R. Blachere  وكذلك ج.بيرتون J.Burton  في كتابه "جمع القرأن " collection of the Coran ( Cambridge, 1919 ) وج.وانزيروف  J.Wansbrowgh في كتابه " دراسات قرآنية: مصادر ومناهج تفسير الكتابات المقدسة "( أوكسفورد، 1977). (7) وهناك من زاوج بين التحليلات الفللوجية والتحليل الخاص بالنقد الإجتماعي socio-critique مثل ه. بيركلاند H. Birkland الذي نجد عنده أن مشاكل صحة النصوص تصبح وقائع إجتماعية – ثقافية ذات دلالة ومغزى، تعرفنا على كيفية اشتغال الذات على نفسها فتحول الظرفي والنسبي إلى حقيقة لا تاريخية ومتعالية.

إن المشكلتين الأكثر أهمية واللتين تناولتهما القراءة الفللوجية، هما التسلسل الزمني للسور والآيات ثم ترتيب مجموع الوحي ونصوصه وتنظيمها. كان الفقهاء قد اشتغلوا كثيرا بالمشكلة الأولى وذلك بسبب احتياجهم لآستنباط الأحكام الشرعية، إلى التحديد الدقيق للترتيب الزمني للآيات التي تعالج الموضوع ذاته مثل موضوع الخمر مثلا. إن الأمر هنا لا يتعلق بوجهة نظر تاريخية محضة أو اعترافا بالتاريخ .كان ج.بيرتون J.Burton قد حاول تبيان كيف أن الفقهاء يستطيعون أن يشوشوا الحقيقة التاريخية وذالك بتلاعبهم بالأحاديث وتوجيهها الاتجاه الذي يريدونه أو يبحثون فيه. هذا يبين إلى أي حد يبدو ضروريا استعادة أدبيات أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأحاديث التي استشهدوا بها دعما للتفاسير المختلفة من أجل أن ندرسها من جديد ونعيد كتابة التاريخ الحقيقي للنص القرأني.

إن التحري الإستشراقي الفللولوجي، وبعيدا عن المجادلات العقيمة وغير اللائقة التي يوجهها المسلمون للمستشرقين الفللولوجيين، قادر على فتح الرهانات المعرفية وإثارتها دون أن يتعدى ذالك، فهو يتوقف في منتصف الطريق ولا يستطيع التقدم إلى الأمام وتحليل مختلف المشاكل المرتبطة بآية قرآنية مثلا (8)، أو بمجموع التراث الإسلامي عموما. إلا أن ما يفعله التحري الإستشراقي هام ولا يمكن تجاهله، لأن الرهانات التي يمكن أن تثار عديدة ومتنوعة:لغوية وتاريخية وأنتروبولوجية وتيولوجية وفلسفية، وهذا ما يمكن البرهنة عليه عن طريق الآية رقم 12 من سورة النساء والآية 176 من السورة نفسها (9). ويؤكد أركون في تحليله للآيتين على الأهمية الإستكشافية لكل دراسة تحليلية توازن بين القصص والحكايات التي أوردها الطبري (.224 هج/ 310 هج) في تفسيره:" جامع البيان عن تأويل آي القرآن " خصوصا، وتقارع بعضها بالبعض الآخر لآستخراج الحقيقة عن طريق المقارنة.

الآية رقم 12 من سورة النساء: يقول تعالى: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصي بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حكيم "

الآية رقم 176 من سورة النساء، يقول تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم "

تعالج هاتان الآيتان المذكورتان مسألة الفرائض أو الميراث. إن الجزء من الآية12 الذي يبتدىء بقوله " وإن كان رجل " وينتهي في آخر الآية، كان قد أحدث انقساما بين المفسرين إلى حد أن الطبري قد كرس له سبع صفحات في تفسيره، كما كان قد استحضر سبعا وعشرين شاهدا من أجل أن يضيء معنى كلمة " كلالة "المستخدمة مرتين فقط في القرآن (الآيتان 12 و176 من سورة النساء).( 10). هاتان الآيتان تطرحان العديد من الرهانات التي تتجاوز المنهجية الاستشراقية وتفتح آفاقا جديدة في قراءة النصوص الدينية:

أ – الرهان اللغوي:

إن المسألة المطروحة منذ البداية مسألة لغوية ومعنوية- سيمانتية تخص كلمة " كلالة " ،ثم هي مسألة نحوية – تركيبية تخص الجملة التالية:" وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة.." هنا نصطدم بمشكلة عويصة جدا (11) ، لم يستطع التفسير الإسلامي الكلاسيكي أن يحلها والصعوبة متأتية من الكلمة الغريبة " كلالة " التي لم يتوصل أحد إلى معرفة معناها. أما عن التركيب النحوي فما ورد في الآية الكريمة: " وإن كان رجل يورث كلالة..." الفعل ورد بصيغة المجهول، وهذا ما يزعج المفسرين لأننا لا نعرف العلة في أستخدام صيغة المبني للمجهول هنا .ثم يردف قائلا: " وله أخ أو أخت " هنا أيضا نواجه مشكلة نحوية ذالك أننا كنا ننتظر أن يقول: "و لهما أخ أو أخت " بصيغة المثنى، لأن هناك فاعلين لا فاعلا واحدا ولكنه استخدم صيغة المفرد وهكذا نجد أنفسنا في مأزق صعب.

أما الطبري، من جهته فيقول بأن هناك قراءة أخرى للآية ولكنه ينقلها خفية للتقليل من أهميتها، وهذه القراءة ظظمختلفة كليا عن الأولى تقول: "و إن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت.." نجد أن الأمر مختلف جدا، فإذا " يورث " بصيغة المبني للمجهول كما في القراءة الأولى فإننا لا نعلم ما إذا كان قد ترك إرثا بواسطة وصية أم أنه لم يترك وصية. وإذا كان لم يترك وصية فإنه ينبغي تطبيق قواعد الإرث المنصوص عليها في مكان آخر من القرآن، أما إذا استخدمنا القراءة الثانية التي يكون فيها الفعل " يورث " بصيغة المبني للمعلوم، فإن الأمر يختلف تماما وهذا يعني أن المحتضر قد ترك وصية وحدد وارثه أو ورثته، إذن التركيبان اللغويان يورث، امرأة، يوصي/ يورث، امرأة يوصى متعارضان وهنا يبين د.س. باورز )D.S.Powers  12) أن الطبري يقوي القراءة الأرثوذكسية ويدعمها وذلك حين يتناسى أن يورد أثناء شرحه للآية 12 من سورة النساء حكايات مهمة ذكرها فقط في معرض شرحه للآية 176 من نفس السورة ثم يعمد إلى إحالة القارىء إلى الحلول التي أعطاها سابقا أثناء تفسيره للآية 12.

ب – الرهان التاريخي:

ينبغي طرح السؤال التالي:كيف وضمن أي وسط اجتماعي راحت القراءة المتبناة تتغلب على " يورث ويوصي "اللتين هما من ضمن فرضيات وحلول أخرى ممكنة ؟ تتخذ هذه المسألة أهمية قصوى بسبب أنها تخص قضية الميراث وانتقاله إلى خارج النسل الذكوري. لقد كانت القراءة المرفوضة تتيح للميراث أن ينتقل إلى نسل النساء وخصوصا إذآ ما أعطينا لكلمة " كلالة " معنى الكنة كما ذهب إلى ذالك أحد المستشرقين المعاصرين (....) (13) الذي أمضى وقتا طويلا في البحث عن أصول كلمة " كلالة " التي وجدها في اللغة الأكادية وبالتحديد في اللغة القانونية الأكادية وتعني الكنة، لذا نجد من الضروري أن نرجع إلى نظام الإرث السائد في الجزيرة العربية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكي نقارنه بالأنظمة الموجودة في الأوساط العراقية والسورية في القرن الأول للهجرة.، لأنه إذا كان القرآن يروم توريث الكنة، فإن ذلك يعني أن كل نظام القرابة والضبط الخاص بآنتقال الأملاك والثروات في المجتمع القبلي قد انهد وانهار. هذا يعني أن الآية التي وردت فيها كلمة " الكلالة " آية ثورية بالقياس إلى كل النظام الإجتماعي السائد والى نظام القرابة المتعارف عليه في شبه الجزيرة العربية آنذاك. إن ما ذهب إليه الفقهاء أنهم فسروا الآيات ونظروا إليها بشكل تستطيع معه المحافظة على النظام السائد قبل الإسلام وبطريقة تحافظ على الموجود خشية حصول انقلاب كامل في المجتمع يهدد تماسكه، لذلك قرئت الآية ضمن المعنى الذي ينسجم مع نظام النسب الأبوي الصارم .(14)

ج – الرهان التيولوجي:

إن الرهان التاريخي يثير بدوره تلك المناقشة الخطيرة المتعلقة بخلق القرآن والتي كانت قد طمست أبعادها من قبل الأرثوذكسية الكلاسيكية ، فالتلاعب بمعاني الألفاظ وحذفها أو إخفاؤها وانتقاء ما يلائم الخلفية الإيديولوجية التي تتحكم بالمفسرين والفقهاء والتي قد تكون مناقضة للقصد الأولي، كل ذلك يظل دائما ممكن الحصول لأن لغة القرآن الكريم - العربية - يستخدمها الناس العاديون في المجتمع وعملية الإستخدام هذه تخضع لاعتبارات عدة وتوظيفات مختلفة.

د – الرهان الفلسفي:

إن ضغط الحاجيات الملحة للوجود الإجتماعي – التاريخي قادرة على تشويه هدف التعالي المكرر بآستمرار في الوحي. تنقلب تبعا لذلك وظيفة الدين من كونه الدينامو الروحي المغذي للطموح إلى المطلق والبحث عن الكمال، إلى وظيفة الضبط والتنظيم والتسويغ. وهنا ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن كل التصورات وعمليات التحريف للواقع وتنكيره تحدد ملامح المخيال الإجتماعي إلى درجة أنها تلعب دورا في إنتاج المعنى والتلاعب به واستهلاكه، هي أكثر خطرا وأهمية من اليقينيات المزعومة التي ينجزها العقل بواسطة فعالياته التحليلية المنطقية. (15)

هكذا نجد أنفسنا بفضل هذه الرهانات قد ابتعدنا عن المناقشات الشكلية والأكاديمية الباردة التي يقدمها أ.ت.ويلش A.T.Welch  في مقالته التي تهمل إبراز المنهج الفللوجي كمرحلة أولى لازمة وضرورية، لا التوقف عندها، من أجل التوصل إلى أفق أكثر انفتاحا (16) ، وغنى بآستمرار وليس كمرحلة أولى وأخيرة.

3 - الإستشراق وعوائقه المعرفية:

إن الإسلاميات الكلاسيكية – أي الإستشراق – الممارسة في الفترة الكولونيالية خضعت قليلا أو كثيرا للنموذج الديكارتي الذي يقوم على المعادلة التالية: " أن تفهم أو أن تعرف يعني أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه " لكن " من أجل أن تسيطر فإنه ينبغي البدء بالمعرفة أولا، لكنك لن تستطيع أن تعرف أو تفهم الشيء إلا بشرط أساسي هو أن تتحرر ولو للحظة واحدة من هاجس السيطرة "(17). لقد راح الهدف العملي للمعرفة الإستشراقية يضمحل شيئا فشيئا بنهاية الأستعمار وأصبح معظم المختصين في الشرق يميلون إلى تكديس المعارف والمعلومات الدقيقة دون أن يهتموا بالتنظير أو بالتأمل الإبستيمولوجي والمنهجي أو بالإستخدامات التي يمكن للمسلمين وغيرهم استغلالها من خلال المعرفة المتجمعة هذه، وهنا تكمن حدود المنهجية الاستشراقية ولاسيما المدرسة الفرنسية التي تفضل دراسة الماضي أكثر من دراسة الحاضر بعكس المدرسة الأمريكية المشهورة بذرائعيتها وبالتركيز على الحاضر.

سئل أركون مرة عن مآخذه على الإستشراق، فأجاب بأن من بين مآخذه عليه هو أنه لم يطرح التساؤلات اللازمة حول المناهج كإشكالية علمية مطروحة ولم يهتم بمسألة النقد الإبستيمولوجي، إضافة إلى أن المستشرقين خاضعون بدورهم للثقافة التي تكونوا داخلها فكريا وإيديولوجيا، هذا إلى جانب تأثرهم بالمناهج السائدة والتي لها روافدها اليونانية واللاتينية وعلاقتها بالمنطق والبلاغة الأرسطيين، مع ما يستتبع ذلك من أحكام مسبقة على ثقافة الآخرين. (18). لقد بقي الإستشراق أسير مناهجه وعجز عن التأقلم مع المستجدات الحديثة في مجال العلوم الإنسانية والمناهج المستحدثة، لقد تجاهل الإستشراق كل تلك المكتسبات ولم يثق بها بحجة أنها موضة عابرة. إن رفض المستشرقين فتح مناقشة ابستيمولوجية بخصوص مناهجهم وممارستهم العلمية أمر غير مفهوم، رغم أن نقل المناهج والمفاهيم المتبلورة انطلاقا من الثقافة الغربية وتطبيقها على ثقافة أخرى من شأنه أن يستفزهم بشكل مزدوج لفتح مثل هذا النقاش، لأن من يمارس هذا العمل أي نقل المناهج، يعرف أنه مضطر في كل مرة إلى التحقق حمن إمكانية هذا النقل ومن مدى صلاحيته ثم يعرج أركون إلى مسألة خطيرة فيرى أن المستشرق إذ يكتفي بالسرد الأمين للغات الشائعة والظواهر وبالنقل البارد لمعتقدات المسلمين وممارساتهم، إنما هو في الحقيقة يرفض أن ينظر إلى الواقع الحقيقي أو المقنع أو المستبعد من قبل الناس الذين يدعي التحدث بآسمهم ، فيؤبد بالتالي الوهم الخادع بأنه يقدم معرفة مطابقة وصحيحة من وجهة نظر المسلمين أنفسهم ومن وجهة نظر المؤرخ الحديث الذي يتحدث عنهم في آن واحد. إننا لا نلمس أي تضامن un engagement تجاه الثقافات المدروسة بل سعي لتكريس نظرة جوهرانية لا تتغير إزاء شعوب وثقافات.

إن الشيء الخطير الناجم عن هذه العملية التمويهية هو أننا نحرم أنفسنا من القبض على الآليات الإجتماعية والنفسية والثقافية واللغوية التي أتاحت تقنيع الواقع وإخفاء وجهه الحقيقي. هكذا يساهم المستشرقون في حرمان الفكر العربي الإسلامي المعاصر من الوسائل المنهجية الحديثة التي تمكنه من تفكيك التصورات القديمة التي خلفها الماضي ومن تحليل المناخ السيميائي الذي نشأت فيه هذه التصورات، كما تهمل الطريقة الإستشراقية دور المخيال الإجتماعي وتفقر بالتالي كل المضامين الحقيقية لكل وجود اجتماعي وتاريخي، متأثرة في ذالك بالعقل الوضعي وبطريقته في التعامل مع الأحداث التاريخية بالخصوص (19).

جانب آخر يتصل بالمستشرقين، قد لا تكون له علاقة بمناهجهم، ولكنه يمس أخلاقيات الباحث والروح العلمية لديه وهو غياب الإحساس بالتضامن عندهم مع الثقافة التي يتعاملون معها يقول أركون: " إني أندد وبقوة بنوع من الأدبيات التي تواصل أخذ صيغ الإسلاميات الكلاسيكية بالقول مثلا بما يقوله المسلمون، أو لأنهم يقولون ذلك:" الإسلام دين ودولة " إنها عملية نسخية وكتبرير يقولون لك إن المسلمين يقولون هذا وبما أنني علمي، موضوعي فأنا أقول ما يقولونه " ،إنه توقف ابستيمولوجي من قبل من يكتب هذا الكلام، إنه رفض للتضامن التاريخي ومادام المستشرقون غائبين عن هذا الإحساس بالتضامن ، إني لا أطالبهم بتضامن معنوي، انتحابي أو ترضوي، أرفض هذا النوع من التضامن وبالمقابل أطلب منهم تضامنا في المشاكل "،و يبلغ بأركون الغضب والتشنج مبلغه وهو يتحدث عن هذه النقطة فيقول: " في هذا المشكل الذي أعني به " الإسلام دين ودولة " توجد العديد من المشاكل الأخرى، إننا الآن بصدد نزاع حاد في بلداننا حول هيكل الدين ووظيفته في تنظيم الحكم في المجتمع الإسلامي. هذا هو الرهان وهؤلاء السادة المستشرقون يرفضون النظر إلى هذا الوضع الذي يسيل فيه دمنا يوميا وإذن فأنا أدين كلية من يكتب هذا الكلام، ليس لأنه مستشرق وحسب ولكن لأنه لا يعرف كيف ينجز تحليلا انتروبولوجيا وسوسيولوجيا، أقول له إنك لا تمت إلى العلم بصلة إنك جاهل " (20) . هكذا يصل الأمر بمحمد أركون وهو يدافع عن قضايا الفكر الإسلامي ، إدراكا منه لخطورة عمل المستشرقين الذين قد يتعللون بكل شيء في سبيل عدم التخلي عن مناهجهم وتصوراتهم وهو لا يتوانى في نعتهم بالجهل عندما يلاحظ جمودهم وعدم جرأتهم في تجديد آليات الفهم والتحليل لديهم، إضافة إلى اجترارهم لأخطاء المجتمع بدعوى الموضوعية الموهومة التي تترك الأوضاع على ما هي عليه، بل تزيدها تعفنا وتنأى بنا عن طرح الأسئلة المناسبة وتصدنا في الآن نفسه عن أفضل سبل البحث والتحليل.

إن المستشرقين بحكم منهجيتهم البالية يحتلون في الفكر الغربي مكانة هامشية بالقياس إلى المفكرين الآخرين، فلا نسمع لهم أي صوت في مجتمعاتهم فهم ليسوا مشهورين إلا في بلادنا حيث نعتقد أنهم قادرون على حل مشاكلنا.

***

رمضان بن رمضان - باحث من تونس

........................

الهوامش والمراجع:

1 – Mohamed Arkoun ,Lectures du Coran , ed, maisonneuve, Paris, 1982, l,introduction, p xxi.

2 – محمد أركون ، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، الطبعة الأولى، ص 51.

3 – محمد أركون، " التأمل الإبستيمولوجي غائب عند العرب "، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت ، العدد 20/ 21/22، صيف ،1982،صص 80 – 81.

4 – محمد أركون، " الإسلام، التاريخ، الحداثة " مجلة الوحدة، باريس، عدد 52 ،جانفي، 1989، ص18 .

5 – Mohamed arkoun, Lectures du Coran,…op.cit, p xxi.

6 – Ibid, p xxi.

7 – Ibid, p xxiii .

8 – محمد أركون، " الإسلام، التاريخ، الحداثة " مجلة الوحدة، باريس، عدد 52، جانفي 1989، ص 24.

9 – اعتمد أركون في تحليل هاتين الآيتين على مقال د.س.باورز D.S.Powers ,: " the Islamic Law of inheritance reconsidered: a new reading of Couran,s in Studie islamic iv,pop 61-94.

10 - Mohamed arkoun Lectures du Coran, op cit , p xxiv.

11 – محمد أركون، مجلة الوحدة، عدد 52، 1989، صص 21-22.

12 -  Mohamed arkoun, Lectures du Coran, op cit, p xxiv .

13 – محمد أركون، مجلة الوحدة، باريس، عدد 52، جانفي 1989، ص 23.

14 – Mohamed arkoun, Lectures du Coran, op cit, p xxiv.

15 - Ibid, p xxv

16 – Ibid, p xxv

17 – Roger Bastide, Anthropologie appliquée, ed Payot, Paris, 1971, p35

18 – حوار مع محمد أركون ، مجلة الفكر العربي ، بيروت، عدد 32، أفريل – جوان ، 1983،صص 220 – 221.

19 – محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 259.

20- حوار مع محمد أركون، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، الأعداد 20/21/22 ،صيف، 1982، ص84.

في المثقف اليوم