أقلام فكرية

طه جزاع: أفلاطون.. الحربُ هي شرُ الويلات التي تَحّلُ بالدولة

مدارات فلسفية

كيف تنشأ الدولة، وما الأسس التي يبني عليها افلاطون نشأتها وتطورها اللاحق؟

وهل للأسطورة أثر في تحديد الطبقات الاجتماعية وطبيعة الإعمال المناطة بها؟.

وفق ما جاء في محاورة " المدينة الفاضلة - السياسة " فإن الدولة تنشأ بسبب حاجات الأفراد واستعداداتهم الطبيعية، وتقسيم العمل على وفق هذه الاستعدادات، ولما كان الفرد غير قادر على سد جميع حاجاته بنفسه فانه بحاجة الى معونة الآخرين، وهكذا ينشأ الاجتماع البشري بسبب تعدد الحاجات وتنوعها، وبسبب حاجة الإنسان الى معونة غيره لسد حاجاته. وكما يقرر أفلاطون فإنه : " لما كان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد عديد منا، من صحب ومساعدين، في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع اسم مدينة أو دولة. إن حاجات الأفراد متعددة، لكن أهمها الحاجة التي يتوقف عليها حفظ حياتنا واستمرار وجودنا، وهي حاجة الغذاء، ثم تليها حاجة السكن، وبعدها حاجة الكساء. ولما كان لا يمكن لفرد واحد ان يؤمن هذه الحاجات وغيرها لزم ان يكون واحد فلاحاً، وآخر بناءً، وآخر نساجاً، وآخر سكافاً، لأنه لا يمكن لفرد واحد ان يبني مسكنه بنفسه، وينسج ثيابه، ويصنع حذاءه، ذلك لان الطبيعة جعلت في الواحد من الناس استعداداً خاصاً لنوع من الأعمال، وفي غيره استعداداً لعمل آخر. ولكي يكون الإنتاج أفضل وأغزر فانه من الأفضل أن يؤدي كل واحد من الأفراد المهنة الخاصة به، التي تؤهله استعداداته للقيام بها من دون الانشغال بالمهن الأخرى لان ذلك من اختصاص غيره من الأفراد. ولأن الفَّلاح لا يستطيع ان يصنع بنفسه محراثاً متقناً ولا غيره من آلات الحراثة، وكذلك البَّناء والحائك والاسكافي، كل هؤلاء غير قادرين على صناعة أدوات مهنهم بمهارة وإتقان، لزم وجود مهن أخرى مثل النجارة والحدادة وغيرهما من الصناعات ليصير النجارون والحدادون وغيرهم من الصناع أعضاء في الدولة ويؤلفون وإخوانهم شعباً. وبالطبع فإن المدينة ستكون بحاجة الى رعاة المواشي لإمداد الفلاحين بالثيران وغيرها من الحيوانات لجر المحراث، وكذلك ستكون بحاجة الى مواد البناء للبَّنائين، ونقل الجلود والأصواف للأساكفة والحاكة.  وهكذا تكتمل المدينة – الدولة، وتدور فيها عجلة الحياة، تزرع وتأكل وتسكن وتلبس بأداء كل فرد من الأفراد لمهنته الخاصة به. غير أن المدينة ستكون بحاجة الى واردات وأشخاص يجلبون لها ما تحتاج اليه من المدن الأخرى، وأنها لا تستطيع ان تفعل ذلك من دون ان تحقق زيادة في منتوجها يفوق استهلاكها، ليكون لها ما تدفعه بدل ما تستورده من الخارج، وبذلك تحتاج المدينة الى زراع وصناع أكثر، والى وكلاء كثيرين لتصدير البضائع وتوريدها، واذا كانت التجارة بحرية لزمنا الكثير غيرهم من حُذّاق الملاحين، وهكذا ينتعش التبادل التجاري الداخلي والخارجي وتتم عمليات البيع والشراء وتداول النقود لتسهيل المعاملات في الأسواق، وينشأ كذلك الوسطاء بين المنتج والمستهلك " باعة المفرق" الذين يجولون من مدينة الى أخرى، وتظهر أيضا حاجة الأسواق الى العمال الذين يمتلكون قوة بدنية تمكنهم من العمل الشاق، فيبيع هؤلاء قدرتهم البدنية ويقبضون ثمنها اجوراً ".  تلك هي المدينة التي تقتصر على الضروريات، أما اذا أردنا مدينة مرفهة تشتمل على الضروريات والكماليات فإننا يجب ان نؤَّمن لها وسائل الرفاهية، ذلك ان بعض الناس لا يكتفون بالضروريات، بل يرمون ان يقتنوا أسرة وموائد، وكل أنواع الرياش، مع اللحوم والطيوب والعطور والحظايا والحلويات مع الإكثار من هذه الطيبات، وبذلك فان المدينة لم تعد تكتفي بالحاجات الضروريـة " القوت والمسكن والكسوة والحذاء" بل يلزمها النقش والرسم والذهب والعاج وكل متاع ثمين، وهكذا تتوسع المدينة وتمد أطرافها وتمتلئ بالمهن المنوعة التي لا توجد في المدن المكتفية بسد حاجاتها الطبيعية، مثل الموسيقيين والشعراء والفنانين والمربين والمربيات والمراضع والممرضات والوصائف والخادمات، والصيادين والحلاقين والطهاة والحلوانيين وصانعي البهارج وحلي النساء، كما يلزم المدينة الكثير من المواشي لأجل من يرغبون في أكل لحومها. وعندما ننتقل من مدينة الضروريات الى مدينة الكماليات، تصبح رقعة أرض المدينة صغيرة على سكانها، فيلزمها إضافة أراضٍ واسعة بالحرب التي هي شر الويلات التي تحل بالدولة جماعة وأفراداً. وهكذا تعتدي المدينة على جيرانها، ويلزمها لذلك تجهيز جيش كامل يستطيع ان يدافع عن أملاكها ويستولي على أملاك الأعداء، ويتصدى للغزاة، فتصبح أعمال الحرب مهنة جديدة للمدينة، وهذه المهنة يجب ان تعطى اهتماماً اكبر من المهن الأخرى  ويختار لها من يحملون في طبائعهم استعدادات معينة، مثل الفطنة التي تمكنهم من اكتشاف الأعداء، والثبات في الميدان، والشجاعة التي تمكنهم من كسب الحرب، وتتطلب هذه المهنة أيضا مزاجاً خاصاً، وصفات متناقضة، لأن حماة المدينة يجب ان يكونوا أشداء على الأعداء لطفاء مع مواطنيهم، وهكذا ينبغي اختيار جيش الدولة من الناس الذين يتمتعون بمزاج غضبي وبغريزة فلسفية، ونخضعهم لتربيـة خاصـة تؤهلهم لأهم المهن في الدولـة.  وتبقى المهمة الأساسية التي يتوقف عليها خلاص الدولة واستقامة أمورها.

لقد لجأ افلاطون الى لغة الأسطورة، اللغة الميثولوجية لتسويغ واجبات كل طبقة من الطبقات الاجتماعية، والغريب انه يفعل ذلك مع إدراكه صعوبة إقناع الناس في زمانه بهذا الأسلوب، وهذه اللغة بحسب أفلاطون " سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الإله الذي جبلكم، وضع في طينة بعضكم ذهباً ليمكنهم من إن يكونوا حكاماً، فهؤلاء هم الأكثر احتراماً، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العتيدين أن يكونوا زراعاً وعمالاً، وضع نحاساً وحديداً. ولما كنتم متسلسلين، بعضكم من بعض فالأولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهباً، هكذا يلد كل ما يلد ".

وقبل ان ينتهي افلاطون على لسان سقراط من ذلك يلتفت الى غلوكون قائلاً :

- فهل عندك من حيلة لإقناعهم " الناس في ذلك الزمان " بهذه الخزعبلة ؟

فيجيب غلوكون: لا حيلة في اقناع أبناء هذا الزمان. على أنني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم وأحفادهم وكل الأجيال التالية بصحة هذه الأسطورة .  إنها حقاً من المواقف الغريبة التي يلجأ اليها فيلسوف مثل افلاطون مبتدع نظرية المُثل العقلية المجردة لتسويغ الوضع الطبقي في مدينته الفاضلة، وتلك واحدة من التناقضات الافلاطونية التي نعثر عليها بين الحين والآخر في ثنايا محاوراته المختلفة، وهو اذ يستخدم هذه الأسطورة الفينيقية الجذور فانه يقرر أن الطبيعة هي المسؤولة عن تقسيم الناس الى طبقات. ووفق رأيه فإن خلاص المجتمع والأجيال البشرية لا يكون الا بتنظيم الدولة على وفق معادن المواطنين، فالحكم للطبقة الذهبية، وتنفيذ القرارات وإطاعة أوامر الحكام من واجبات الطبقة الفضية، أما الإنتاج فتتولاه طبقة الحديد والنحاس.  ألا يبدو مجتمع افلاطون بناء على هذه الطبقية القدرية الصارمة، مجتمعاً آلياً مغلقاً مكوناً من عناصر فاقدة الإحساس والقدرة على التغيير، وليس مجتمعاً بشرياً ؟ . إن هذا التساؤل لا يهم افلاطون، فالذي يهمه بالدرجة الأساس هو أن الدولة وحدة متماسكة يعمل فيها الأفراد كأجزاء في آلة ضخمة تعمل بدقة وتماسك ونظام وانسجام .  لقد عاش أفلاطون في عصر تسوده الفوضى السياسية، وشاهد أمام عينيه مساوئ الأنظمة التي توالت على الحكم في أثينا في سنوات متعاقبة قصيرة، وتأسى على تدهور القوانين والأخلاق التي بلغت حداً من الفساد جعلته كمصاب بدوار– كما يصف حالته بنفسه في الرسالة السابعة – حتى انتهى به المطاف الى ان يتبين بوضوح ان جميع أنظمة الحكم الموجودة في زمانه ومن دون استثناء، أنظمة فاسدة. لكن ما أسباب هذا التدهور والخراب والفوضى، وكيف السبيل للخروج من هذا الوضع  ووضع حد للتدهور السياسي والأخلاقي ؟ . لقد حدث كل هذا لأن الشعب فقد هدى الفلاسفة وحكمتهم وعدلهم، وأصبح الحكم بيد التجار الذين يملأ قلوبهم حب الثروة، أو بيد القادة العسكريين الذين استخدموا الجيش لإقامة حكومة عسكرية دكتاتورية، فلا التاجر ولا العسكري يصلح لإدارة الدولة، لأن ذلك علمٌ وفنٌ لا يجيده إلَّا من خصص عمره، وأعد نفسه إعداداً طويلاً لهذه المهمة. أما طريق الخلاص فلا يكون إلَّا بإعادة ارستقراطي العقل الذين اجتازوا مراحل التربية الخاصة الى الحكم، ولا يكون إلَّا بتسليم مقاليد السلطة الى الفلاسفة، أو يتفلسف الحكام. فقد وهبت الطبيعة لبعض الأفراد صفات تؤهلهم  لأن يحكموا غيرهم ويجب اكتشاف هذه الصفات منذ الصغر، لكي يجري تربية الحكام تربية خاصة، ذهنية وجسدية، فيتم تعليمهم الفلسفة، وفنون الحرب، والرياضة البدنية، والفنون والموسيقى والعلوم الرياضية كالحساب والهندسة والفلك، ليسيروا نحو الكمال، ويكونوا نموذجاً للحاكم الفيلسوف الكفء" فلسفي النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المراس". إن الصفات التي تجعل الفلاسفة جديرين بالحكم، هي " تعلقهم الشديد بأي معرفة تكشف لهم عن شيء من تلك الماهية التي تظل باقية أبداً، والتي لا تنال منها تقلبات الكون والفساد، والصدق ومحبة الحق، وكراهية الزيف، وعدم قبول الكذب في أي صورة من صوره  وسعيهم الى اللذة التي تستمتع بها الروح وحدها، وتركهم جانباً لذات البدن، وابتعاد أنفسهم عن الوضاعة، ما دام صغر النفس هو أبعد الأمور عن الروح التي تتجه دوماً الى إدراك مجموع الأشياء الإنسانية والإلهية معاً، فضلاً عن ذلك فإن من كان بطبيعته جباناً وضيعاً لا يستطيع ان يسهم في الفلسفة الحقة بنصيب، أما اذا كان المرء معتدلاً، مترفعاً عن الجشع وعن الوضاعة والغرور والجبن، فلن يكون من الصعب التعامل معه، ولن يكون ظالماً، ومن الصفات الأخرى المميزة للروح الفلسفية اتصاف المرء منذ حداثته بصفات النزاهة والرقـة وحسن المعاملـة، وسرعـة التعلم، وقوة الذاكرة، ومحبة الاتسـاق والجمال ".  " هذه الصفات الروحية والعقلية التي منحتها الطبيعة لأولئك الذين جُبلوا من معدن الذهب تؤهلهم لتولي الحكم بعد ان يكتمل علمهم وتكتمل خبرتهم، فهم وحدهم القادرون على ان يفعلوا بالمدينة ما يفعله الرسام بالجدار الذي يزخرفه، فهو ينظفه بادئ الأمر بعناية، ثم يرسم عليه صورة المدينة، مقارناً رسمه في كل لحظة بنموذج العادل الذي في مقدوره ان يتأمله "، ذلك لأن الفلاسفة هم الذين يرون نور العقل والحق، وهم القادرون على معرفة الحقيقة  وهم المؤهلون لإنقاذ المجتمع من السقوط والتدهور والانحلال. لقد أصبحت هذه الدعوة المحور الذي دارت عليه فلسفة أفلاطون السياسية، والعمود الفقري لمدينته الفاضلة، والهدف الذي ابتغاه من الفلسفة، وما زاده يقيناً في ان الجنس البشري لن يخلص من متاعبه، إلَّا ان يستولي الفلاسفة على السلطة السياسية، أو يصبح الحكام فلاسفة، مما زاده يقيناً بذلك اشمئزازه من الأحوال السياسية ومفاسدها في أثينا وغيرها من المدن الإغريقية، التي وصلت الى الحد الذي جعلته يخاطب الأثينيين على لسان سقراط : أرجو ان لا يؤلمكم الحق ان أنبأتكم به، فالحق انه يستحيل على من يرافقكم الى الحرب، أو أي اجتماع آخر ويقاوم فساد الأخلاق، وأخطاء الدولة ان ينجو بحياتــه.

كان افلاطون يدرك ان هذا " الفساد " وهذه " الأخطاء " هي التي قادت الى انهيار أثينا العسكري أمام اسبرطة في الحرب البلوبونيزية، وكانت هذه من أهم الأحداث التي أثرت تأثيراً عميقاً في تكوين عقلية افلاطون، ومن الكوارث الكبرى التي شهدها في مطلع رجولته، وعانى ايام طفولته وشبابه من ويلاتها. وبناءً على ذلك كله تأتي دعوته الصريحة لتسليم مقاليد الحكم الى الفلاسفة أصحاب المواهب الحقيقية، والعقول العلمية، والروح الفلسفية، وتأكيده على الأثر السياسي والاجتماعي للفيلسوف " فما لم يصبح الفلاسفة ملوكاً في بلادهم، أو يصبح اولئك الذين نسميهم الآن ملوكاً وحكاماً فلاسفة جادين متعمقين، ومالم تجتمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، فلن تهدأ حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب المجتمع البشري بأكمله".

***

د. طه جزاع

..........................

* ملاحظة: ما ورد من نصوص مقتبسة في هذا المقال فإنها تعتمد كلياً على ترجمة حنا خباز لـ "جهورية أفلاطون" الطبعة الأولى لسنة 1929، مطبعة المقتطف. المقطم. القاهرة.

* المقال منشور في موقع مراصد أيضاً

 

في المثقف اليوم