قضايا
فضل فقيه: العالم قبل نيوتن.. الشرق ووحدته مع الطبيعة

عندما كانت أوروبا تتخبط في صراعاتها اللاهوتية، كان الشرق من الصين والهند الى بغداد ينتج المعرفة ويخاطب الكون. لم تنظر الحضارة العربية الى الكون كعدو يجب إخضاعه بل كصديق يجب الانصات اليه. لأن الشرقيين اعتبروا أنفسهم جزءا من نسيج الكون وأن الطبيعة تنبع من داخلنا، لم يكونوا بحاجة لقوانين تفسر الطبيعة من منظور محايد. وهنا أقصد أن الطبيعة لم تكن، بالنسبة للشرقيين، مسرحًا يكون فيه البشر مشاهدين، بل كانت تمثل وحدة بينهم وبين مكونات الكون.
إذن، لم ينتج الشرق نيوتن لأنه لم تكن يواجه مشكلة نيوتنية. والمقصد من نيوتن هو العلم التجريبي. في حين أراد العلماء والفلاسفة الشرقيون من دراساتهم الوصول الى كمال معرفي روحي ببعد ميتافيزيقي لا مادي بحت. فهل نيوتن هو هدف يجب على كل حضارة الوصول اليه؟
العلم كحكمة لا كأداة
اتخذت الطرق القديمة لجمع المعرفة من الفلسفة كمنهجها الأساسي. كان العلماء العرب كالفارابي وابن سينا بدراساتهم يحاولون فهم موقع الانسان في ترتيب اعلى. لم يهدفوا الى تسخير الطبيعة بالمفهوم المعاصر. انما حاولوا فهم العالم من وجهة نظر ميتافيزيقية تعتبر ان العالم نظام كلي متناسق نابع من عمل خالق متقن ومقتدر. هكذا تصبح الطبيعة تجليا الهيا لا موضوعا للغلبة. بهذا يكون كل اكتشاف علم مادي يساعدنا على فهم المهندس الأعلى، الاله. إضافة إلى ذلك، العالم أو الفيلسوف العربي كان يمتلك ما يشبه القواعد الأساسية القائمة على معتقداته الدينية والروحية وأخذ ينظر إلى الكون بناءً عليها.
الأمر شبيه نوعا ما للطاو الصيني. سعى الصينيون للتوحد مع الطبيعة واعتبروا إن المسار الى الكمال لا يكتمل إلّا بالاتحاد مع الطبيعة. اما الفلاسفة الهنود فقد فهموا الطبيعة على انها زمن دوري، يعاد ويعاد برعاية الالهة وصراعهم من اجل الخير. بذلك يصبح الانسان جزءا من هذه الدورة الأزلية.
فالشرق إذا آمن بمركزية الحكمة لا التجربة. اتجه الشرق نحو نظرة كلية شمولية لتفسير الكون، عكس التجزئة القائمة على دراسة وتنفيذ التجارب على الأجزاء لمعرفة الكليات في المفهوم الغربي. وهنا تكمن زبدة الفرق. يدرك أي عاقل اليوم أن أسلوب الشرق في النظرة الكلية قد فشل في دفع عجلة التقدم الحضاري، أي الاقتصادي والتكنولوجي. ولكن الأمر ذاته بدأ يظهر في الغرب حول التجزئة، حيث أن التجزئة تقف عاجزة أمام الكثير من المشاكل والأسئلة العالقة في الغرب. فهل يكون الحل في إيجاد مزيج بين الاثنين؟
هل فشل الشرق في إيجاد نيوتن؟
كان للشرق اليد العليا في مجال جمع المعرفة في المرحلة التي سبقت الثورة الفكرية والعلمية في أوروبا. ولكن، لماذا أفل نجم الشرق بشكل متسارع؟ هل فشل الشرق في إيجاد نيوتن؟ أم نيوتن الشرق قد خاف من تقديم نفسه للملأ خوفًا على حياته؟ الحقيقة أن الإجابة هي نعم بشكل جزئي للسؤالين الأخيرين.
أما السؤال الأول، لقد فشل الشرق في إيجاد نيوتن لأسباب تتعلق بعقليته. الجانب الأول هو ما ذكرناه أعلاه حول فكرة الاندماج مع الطبيعة. أما الجانب الآخر، فهو مبدأ امتلاك قواعد وخطوط حمراء لا يمكن تخطيها عند البحث عن إجابات. هذه العقلية تحد من التفكير النقدي -الذي هو لب العلم التجريبي- بسبب الهواجس الروحية الداخلية. وكي لا نستثني جوانب أخرى ذكرها المستشرقون حول طبيعة اللغات في الشرق وطبيعة البيئة الصعبة والمعقدة لا سيما البيئة الصحراوية عند العرب مثلا. غير أني أنظر لهذه الأفكار بتحفظ كبير. إن للغة دور كبير في تكوين الهوية، إلا أن هذا الدور يصبح أقل أهمية عندما يتعلق الأمر بالتفكير النقدي دون هواجس.
وفي مبحث السؤال الثاني، فإن خوف المفكرين الذين يخرجون عن عباءة الأفكار المهيمنة لمسألة إنسانية حصلت في الشرق كما في الغرب في العصور الوسطى. أما في الشرق فاستمرت ظاهرة اقصاء المفكرين بدءا من تكفيرهم الى حد قتلهم الى يومنا هذا، في مناطق عدة. فليس غريبًا إن كان على نيوتن الشرق ألا يظهر نفسه ويبقي أفكاره لنفسه.
فهل يجب على كل حضارة أن تصل إلى مرحلة نيوتن؟
هل يشكل نيوتن ضرورة حضارية على كل حضارة أن تصل اليه؟ ان النجاح الباهر الذي وصلت اليه العلوم التجريبية قد يوحي للعامة إن الإجابة هي نعم. أما الإجابة فهي أن الطريقين لهما ما لهما وعليهما ما عليهما. من الصحيح ان العلم التجريبي لا مفر منه لأي حضارة لتتسلق سلم التقدم المعرفي والحضاري الآن. فالعلم اليوم هو الذي يسهل حياة الانسان ويجيب عن العديد من الأسئلة الدائرة في ذهنه.
لكن نظرة الغرب التي تعتمد على فهم الجزء لفهم الكل عجزت عن وضع حلول لكثير من المشاكل في الغرب نفسه. تهدد هذه المشاكل اليوم الحضارة الغربية بأكملها كبناء نظام اجتماعي واقتصادي فعال، بعيدا عن الديموقراطية الرأسمالية، يضمن المساواة والعدل. إضافة الى انهيار المنظومات الأخلاقية تحت مظلة الحرية المطلقة. ومن هنا نرى أن هذا النيوتن هذا يحمل إيجابيات تجعله مرحلة أساسية في مسار تقدم أي حضارة مع الحذر من بعض الأعراض الجانبية التي يجب أخذها بعين الاعتبار.
فمن هنا فإن نيوتن ليس هدفا يجب الوصول إليه من قبل أي حضارة، بل مرحلة معرفية. يجب بعدها بناء هذه المعرفة وإنشاء نظام متكامل حولها. فإذا كان على الشرق إيجاد نيوتن اليوم، فعليه أن يدمجه في منظومته المعرفية، لا يستبدله بها. وسنناقش في مقال يلي هذا العلم في الغرب، إيجابيات وسلبيات، بشكل أعمق لنطرح بعدها ما يشبه خارطة الطريق لعلم تجريبي بنكهة شرقية.
***
فضل فقيه - باحث
............................
قراءات إضافية:
* سعيد، إدوارد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981