قراءات نقدية
إبراهيم برسي: وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر.. تأملات في هشاشة الإنسان أمام الموج
لا يبدأ البحر من الموج، بل من الداخل… من تلك اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يغادر اليابسة ليس هربًا منها، بل بحثًا عن ذاته التي غمرها الغبار…
في “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” لا يكتب واسيني الأعرج رواية عن الهروب، بل عن امتحان الوجود حين يتقاطع فيه الجسد بالماء، والذاكرة بالوجع، والحلم بالعدم.
كل موجة في النص ليست سوى سؤالٍ مؤجل عن معنى النجاة…
لا أحد يغامر صوب الموج إلا حين تضيق اليابسة بالمعنى… والبحر، كما يراه واسيني، ليس مكانًا، وإنما سؤالٌ مفتوحٌ على احتمالات الخلاص والهلاك معًا.
في هذه الرواية، الرجل الذي غامر صوب البحر ليس بطلًا في المعنى التقليدي، بل كائنٌ مثقلٌ بما يسميه ميلان كونديرا “ثقل الوجود”.
ذلك الثقل الذي لا يُحتمل لأنه نابع من الذاكرة، من التاريخ الشخصي والجمعي، من كل ما نحمله معنا دون أن نعرف كيف نضعه جانبًا…
يقول كونديرا: “إن أخفّ لحظة في حياتنا قد تكون أثقلها لأننا ندرك فيها كل ما لا يمكننا العودة إليه.”
هنا تتقاطع خفة كونديرا مع ثقل واسيني، ويتحوّل البحر إلى مسرحٍ للجدل بينهما؛ خفة الهروب وثقل العودة، خفة الموج وثقل الحلم، خفة الغياب وثقل البقاء.
واسيني الأعرج يكتب هذه الرواية كمن يصوّرها بعدسة داخلية. كل مشهد يبدو وكأنه لقطة من فيلمٍ يعرف المخرج أنه لن يُعرض أبدًا إلا داخل الذاكرة.
نرى المناضل الهارب وهو يعبر الأزمنة كأنها دهاليز، يسمع صدى أصواتٍ من الطفولة والسجن والمنفى، فتتداخل الأزمنة في وعيه كما تتشابك خطوط الضوء في لوحةٍ سريالية.
إنّه سينمائي في بنية السرد وتشكيلي في لغته، لا يصف المشهد بل يلوّنه، لا يسرد الأحداث وإنما يعزفها ويوزّع إيقاعاتها.
حين يكتب عن تظاهرةٍ عمالية، تبدو الجموع كريشةٍ كثيفة تتحرك داخل لوحةٍ حيّة: وجوه تلمع بالعرق، قبضات ترتجف، أقدام تتقاطع، وهتافات تتكسّر على صخور القمع.
وعندما يصف انهيار المصنع القديم، تتحوّل اللغة إلى مشهدٍ بطيء: صوت الحديد وهو يئنّ، الماء المتدفّق في الأنفاق، خوذةٌ صفراء تطفو، وعينٌ تتسع ثم تختفي في العتمة.
هذه المشاهد لا تُقرأ بل تُرى… وكل لقطةٍ تُصوّر الجمال في لحظة الموت، والحرية في لحظة الانهيار.
الرواية في جوهرها حوار بين الذاكرة والجسد.
البطل يحمل ذاكرته كما يحمل البحر ملوحته، لا يستطيع أن يتخلّص منها حتى وهو يفرّ منها.
يظن أن البحر سيغسله من ماضيه، لكنه يكتشف أن الماء لا يُطهّر من الذاكرة بل يعمّقها… في كل موجةٍ يسمع صوتًا قديمًا، وفي كل اتساعٍ يرى وجهًا رحل.
إنها ذاكرة تنبض تحت الجلد، تشبه ما وصفه كونديرا حين قال: “الإنسان لا يملك إلا ذاكرته، وكل محاولةٍ لنسيانها ليست سوى نوعٍ من الموت المؤجّل.”
لكن واسيني لا يكتب المأساة بل يكتب الجمال الذي يتسرّب من بين شقوقها…
الجمال الذي يشبه ضوءًا خافتًا ينعكس على سطح ماءٍ ملوث، ومع ذلك يضيء.
هذا الحسّ الجمالي لا يبتعد عن الموقف الإنساني، بل يعضده؛ فالجمال هنا ليس ترفًا بل مقاومة.
إنّ تصوير الألم بهذا العمق هو فعلٌ اشتراكي في جوهره، لأنه يُعيد للإنسان صوته وسط ضجيج السلطة.
نلمح صدى كامو وهو يقول في أسطورة سيزيف: “علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا”، كأنّ واسيني يريدنا أن نتخيل هذا الرجل الهارب سعيدًا أيضًا، لا لأنه نجا، بل لأنه قاوم.
الحرية في الرواية ليست نقيض الأسر فحسب، بل امتحان المسؤولية كما عند سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية.”
بطل واسيني يعرف أنه حرّ، لكنه يدرك أيضًا أن هذه الحرية ثقلٌ آخر لا يُحتمل، لأنها تُلزمه بأن يواجه نفسه.
فالهروب إلى البحر لا يُنقذ من شيء، بل يكشف كل شيء…
في عمق الموج لا يسمع المرء سوى صوته، ولا يرى سوى ظله، وهنا تبلغ الرواية ذروتها التأملية:
إنّ الإنسان لا يهرب من الخارج بل من ذاته، وحين يصل إلى أقصى المدى يكتشف أن البحر ليس نهايةً بل مرآة.
وفي تلك المرآة تتجلّى البنية التشكيلية للنص؛ فكل موجةٍ جملة، وكل دوّامةٍ فكرة.
اللغة عند واسيني تشبه الريشة المبلّلة، تترك أثرًا لكنها لا تحدد شكلًا نهائيًا.
وهذا ما يجعل النص مفتوحًا على التأويل كلوحةٍ تجريدية، وعلى التأمل كفيلمٍ لا يكتمل.
نقرأه كما نُشاهد لوحةً لبول كلي أو مشهدًا لبرغمان، لا نسأل ماذا يحدث بل كيف يحدث… ولماذا يؤلمنا.
إنّ الرواية تمزج الواقعي بالأسطوري، السياسي بالوجداني، الحلم بالكوابيس، لتخلق عالمًا يُشبه ما بعد الوعي.
البطل هناك وليس هناك، يعيش وينسحب، يرى البحر في داخله كما يراه أمامه.
في لحظاته الأخيرة على الشاطئ، نسمعه يهمس: “البحر أمامي… والذاكرة خلفي… والريح في صدري تُعلّمني أن لا مفرّ من ذاتي.”
هذا الهمس يُعيدنا إلى السؤال الأول: هل يمكن للهروب نحو البحر أن يكون خلاصًا؟ ربما لا.
لكن في هذا الفشل بالوصول يكمن كلّ المعنى.
في النهاية، “وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر” ليست رواية عن البحر بقدر ما هي رواية عن الإنسان الذي لم يتعلّم بعد كيف يعيش خفيفًا دون أن يفقد عمقه.
واسيني الأعرج كتب نصًا ينتمي إلى الجغرافيا الإنسانية لا إلى الوطن فحسب، نصًا يقف إلى جانب أعمال ميلان كونديرا وألبير كامو وجان بول سارتر في بحثه عن التوازن بين الحلم والعبث، بين الخفة والثقل، بين النجاة والانكسار.
ولعلّ أبلغ ما يمكن قوله عن هذه الرواية هو ما قاله كونديرا:
“كل حياة إنسان هي بحثٌ عن نغمةٍ لم تكتمل.”
واسيني وجد نغمة وجعه في البحر… وترك لنا نحن القرّاء ومهمة الإصغاء إليها، علّنا نتعلّم كيف نحمل أوجاعنا دون أن نغرق.
***
إبراهيم برسي






