قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: "هنا عند شطّ القيامة": شِعرية القهر، لغة القيامة، وبنية المعنى

قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، سيميائية
1. المقدّمة: النصّ بوصفه حدثًا تأويلياً:
تقف قصيدة الشاعر خلدون رحمة عند مفترقين: مشهدٌ سياسي مؤرِّخ (الاحتلال والموت والحصار)، ومرآةٌ إنسانية فلسفية (القيامة كحالة وجودية). العنوان يضع القارئ فوراً في حالة من التوتّر التأويلي: «شطّ القيامة» ليس مكاناً جغرافياً فحسب، بل حالة زمنية/ميتافيزيقية ينعكس فيها (انهيار) منظومة العالم السياسية والإنسانية. من هنا تنطلق الحاجة إلى نهجٍ هيرمينوطيقي يفتح آفاق الانصات إلى «ما تُعطيه» القصيدة من معانٍ قبلَ أن تُقفلها مقولات مسبقة.
2. الإطار النظري والمنهجي:
الهيرمينوطيقا التأويلية حسب الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير)، والفيلسوف الفرنسي (بول ريكور): قراءة القصيدة بوصفها حواراً بين أفق الشاعر وأفق القارئ، والسعي إلى «الاندماج الأفقي» بحيث تتكوّن دلالة النص في لقاء التاريخي/الذاتي.
- الأسلوبية: تحليل السُبل اللغوية (تكرار، مرسوم، محسنات بلاغية، إيقاع) التي تنتج حضوراً صوتياً ووجدانياً.
- الرمزية والسيمياء حسب العالم اللغوي السويسري (فردينان دو سوسور)، والفيلسوف وعالم منطق أمريكي (تشارلز ساندرز برس)
والناقد والروائي الفرنسي رولان بارت الملقب بـ "بارثيس" هو اختصار للاسم
: فهم الدال والمدلول في العلامات الشعورية (القبر، الكفن، المدافع، الديك)، وكيف تشكّل نظاماً دلاليّاً يعبّر عن استلاب الإنسان وتحويلِ القيم.
- المنظور الوطني/التاريخي: قراءة القصيدة داخل السياق الفلسطيني، تاريخ العنف والتهجير والحصار، وتأثير ذلك على ذاكرة الشاعر الجماعية.
- التحليل النفسي الوجودي: استدعاء مفاهيم مثل (دافع الموت)،وفكرة الوجود في ظل العنف، وربطها بتجربة الشاعر/المجتمع.
3. البنية الموضوعية: المحاور الكبرى في القصيدة
1. الانقلاب القيمي: ارتفاع «سعر القبر» وانخفاض «سعر الإنسان» - عكس القيم الإنسانية.
2. ألفة العنف وتحويله إلى مألوف: الأخبار تصبح فواصل عابرة، المذبحة تهون، والموت طريق للحياة.
3. طمس البوصلة الأخلاقية/المعرفية: «البَوْصلاتُ... بالعمى» - فقدان مرجعيات الإحساس بالإنسانية.
4. تبدّل الأدوار: الملحد يصبح شيخاً، الجلاد يصبح ضحية - تشويه الهويات والسلطة الرمزية.
5. أفق المقاومة أو الاستسلام: الخاتمة تحيل إلى خيار أخلاقي: الاستسلام أم المقاومة؟ الشاعر يعلن أن ما يحدث «ما لا يحدث» سوى استسلام واحد - أي إنّ الاستسلام هو النتيجة الخبيثة الأخيرة.
4. قراءة أسلوبية تفصيلية:
أ. الافتتاحية والتكرار البلاغي:
افتتاح القصيدة بالتركيبة المتكرّرة «يحدثُ أن...» يعمل كأنفاس إيقاعية متتالية: هو تكرار يخلق بناءً بوتقياً حيث تتراكم الصور لتُنتج شعوراً بالخواء المتصاعد. التكرار هنا ليس مللًا بل آلية شعرية لصنع التفعيلة التصاعدية حتى بلوغ الذروة المعنوية.
ب. الاستخدام المجازي والتمثيلي:
القصيدة تشبّه البلاد بالسجون والسجون بالبلاد: استبدال مرآتي لإظهار استلاب المساحة الاجتماعية. الصورة «الكفنُ ظلاً يطاردنا» تعكس استباق الموت للحياة، وتحوّل الجسد إلى مجرد مادة للتعامل (التشيء).
ج. التضادّ والانعكاس:
«الموتُ طريقًا للحياة» و«الحياةُ مأوى لتيهِ الموت» - صيغ متقابلة تخلق تشابكاً مفهوميّاً يعكس التشظّي الوجودي.
تحويل الوظائف الحيوانية (الديك يبيض) ككسرٍ لقواعد الطبيعة، دلالة على عبثية المشهد السياسي الذي يعرقل حتى أبسط القوانين البيولوجية.
د. الصوت والإيقاع واللغة:
لغة القصيدة فصحى حالمة بل نبرةٍ شعرية جامدة أحياناً؛ الفعل المضارع «يحدثُ» يمنح النص نفَساً مستمراً، ليعبر عن حالة الراهن المتكرّر لا الخبر الاستثنائي؛ أي أن العنف قد استمرَّ حتى صار تكراره حدثاً يوميّاً بطبيعته.
5. سيميائية العلامات: قراءة لِرموزٍ منتقاة:
القبر/الكفن/الدفن
- رموز الموت هنا تعمل كعلاماتٍ عن إفساد النظام القيمي؛ ارتفاع «سعر القبر» يشير إلى اقتصاد الموت، وهو استعارة سياسية لِـ«تجار الموت» (اقتصاد الاحتلال والحروب). الكفن الذي يصبح «ظلًا يطاردنا» يحول الحماية التقليدية إلى تهديدٍ مستديم.
- البوصلة والعمى:
البوصلة بكونها آلية للاتجاه تصبح رمزاً للمعرفة والدلالة؛ إذا أصيبت بالعمى فقدنا القدرة على التمييز بين الخير والشر، وهو استعارة قوية لفقدان المعايير الأخلاقية والسياسية.
المدافع/طفل شاعر.
صورة المدافع التي «تبصق جحيمها على جسد طفل» تضع علاقة الموت والعنف مقابل الحلم (طفل يريد أن يصبح شاعراً وطنياً) - صراع بين الدمار والخلق. هنا الشعر كحلم وكمقاومة.
- الديك والفجر:
الديك رمز للفجر والانبعاث؛ تحويره إلى «يبيض» يخلق خللًا سيريالياً، مؤشر على انقلاب القيم حتى في أبسط الرموز اليومية.
6. البعد النفسي والديني:
أ. البُنى النفسية:
القصيدة تنتمي إلى خطابٍ جماعي مجروح؛ ثمة ما يشبه حالة «الصدمة التاريخية» حيث تكرار المشاهد العنيفة يطبع الوعي الجماعي. التحول الوجودي—الموت كطريق للحياة—يستدعي مفاهيم الفقد والهوية الممزقة وميكانيزمات الدفاع النفسي (التعويد على العنف، التبرير).
ب. البعد الديني والميثولوجي:
العنوان «شطّ القيامة» يقيم علاقة مباشرة مع التصورات الإسلامية/إبراهيمية عن يوم القيامة والبعث والآخرة. لكن الشاعر خلدون رحمة يوظف القيامة هنا مجازاً: القيامة هي اللحظة التي تنكشف فيها الحقيقية البشعة - ولا يعود فيها للحياة معنى سوى الموت. في التقاليد الدينية القيامة عادةٌ استرداد عدالة؛ لكن في النص تتحوّل إلى مشهد قمعي بلا خلاص، ما يُظهِر تشوُّه العلاقة بين الدين والعدالة في سياق القهر.
7. البعد الوطني والسياسي:
القصيدة نصّ فلسطيني بالمعنى التمثيلي: سردٌ للمعاناة الوطنية (اغتصاب الأرض، الحصار، المذابح). لكن الشاعر لا يكتفي بالتوثيق؛ هو يستعمل اللغة الشعرية لتفكيك منظومة القيم التي أنتجت هذا العنف. بذلك تكون القصيدة فعل مقاوم يحدث على مستوى الدلالة واللغة. استدعاء صور مثل الطفل الشاعر والديك والفجر يعملان كرؤيا وطنية تدمج بين الحلم والواقع.
8. الهيرمينوطيقا: قراءة شمولية وتوليفية:
من منظور هيرمينوطيقي، القصيدة تدعونا لعملية «لاستعادة الأفق»: إعادة بناء فهمنا للحدث عبر التلاقي بين أفق الشاعر (التجربة الفلسطينية) وأفق القارئ (العالمي/الأخلاقي). المقاربة تقود إلى إظهار أن المعنى ليس محصوراً في الكلمات فقط، بل في ما تُحيله على تجربة جماعية من الإذلال والمقاومة. لحظة الانصهار هذه هي ما يجعل النص نافذاً خارج حدود الوقائع؛ يصبح شاهداً ومحرضاً على الوعي.
9. قراءة تطبيقية لمقاطع مختارة.
المقطع:
«يحدثُ أن يرتفعَ سعرُ القبرِ وتكاليفُ الدفنِ وينخفضَ سعرُ الإنسانْ.»
- قراءة: تركيب موازٍ يقلب تسلسل القيم: ما كان مقدساً (حياة الإنسان) يتحوّل إلى سلعة رخيصة، بينما القبر يصبح «مرضاة سوقية». هذه مفارقة ذات طابع نقدي صارخ للاقتصاد السياسي للحرب.
المقطع:
«يحدثُ أن يصيرَ الكفنُ ظلاً يطاردنا، فيغدو الجسدُ الآدميُّ مجازاً لهاجسِ المقبرةِ أو خبزاً لجوعها اليوميْ.»
- قراءة: الكفن هنا استعارة مزدوجة: وظيفته الحماية تتحوّل إلى تهديد، والجسد يتحول إلى غذاءَ للمقبرة. تحويل الجسد إلى «خبز» يشي بتهشيم إنسانيّة الإنسان إلى شيء يُستهلك.
- الخاتمة:
«سوى أمرٍ واحدٍ: هو أنْ نستسلمْ.»
قراءة: خاتمة تقرع ناقوساً أخلاقياً؛ الاستسلام هو الخطيئة الكبرى. كما أنّ الصيغة النهائية تجعل القارئ أمام مسؤولية أخلاقية: هل سيقبل بأن تصبح القيامة عادية أم سيقاوم.
10. الخلاصة والدلالات:
القصيدة عمل مُقاوِمية يُحوّل الألم إلى خطاب؛ إنها تفضح، تؤرخ، وتدعو للمساءلة.
:من الناحية الأسلوبية، تعتمد القصيدة على التكرار والتمثيل والتضاد لصياغة شعورٍ بالرهبة الاعتيادية.
من المنظور الهيرمينوطيقي، النص يتيح اندماجاَ بين أفق الشاعر والقارئ، وهو بذلك يقوّي فعل الوعي والذاكرة الجمعية.
البعد الديني لا يمنح خلاصاً هنا بل يُوظف كمقارنة تُظهِر تحريف الوعود الأخلاقية في زمن الظلم.
الخطر الأكبر الذي تكشفه القصيدة هو الاستسلام: فقد يصبح تكرار العنف عادةً تُشرعن الجريمة.
من جهتي أرى أن قصيدة الشاعر خلدون عماد رحمة تبعنا أمام مشروع نقدي آخر. كوضع (خطة فصلية)
1. المقدمة: الإشكالية والمنهج.
2. الفصل الأول: السياق التاريخي والسياسي للنص (إطار فلسطيني).
3. الفصل الثاني: الإطار النظري - هيرمينوطيقا، سيمياء، الأسلوبية.
4. الفصل الثالث: قراءة أسلوبية لعملية التكرار والبناء الصوتي.
5. الفصل الرابع: الرموز والمحاور السيميائية (القبر، الكفن، البوصلة، الديك).
6. الفصل الخامس: البنى النفسية والدينية - قراءة تأويلية.
7. الفصل السادس: النص والمجتمع - القراءة الوطنية والذّاكرة.
8. الخاتمة: دلالات النص ومسارات البحث المستقبلية.
12. مراجع.
إدموند هوسرل - أعمال في الفينومينولوجيا (للمنهج التأويلي للخبرة).
هانز - جورج غادامر - الحقيقة والمنهج (للهيرمينوطيقا).
بول ريكور - حول التأويل والرمزية.
رولان بارت - الرمز والنص (للتحليل السيميائي).
رومان ياكوبسون - دراسات في علم اللغة والأسلوبية.
إدوارد سعيد - الثقافة والاحتلال (للبعدين الوطني والسياسي).
فرانتس فانون - الجروح الاستعمارية (للأثر النفسي للعنجهية الاستعمارية/الاحتلال).
محمود درويش، سميح القاسم، أدونيس - نصوص شعرية فلسطينية وعربية للمقارنة.
إن عمق ومدلول هذه القصيدة تدفعنا للتساؤل حول:
- كيف يحول الشاعر الفلسطيني تجربة القهر إلى شكل شعري ذي قدرة على الاستدعاء الوجداني؟
- ما دور التكرار البلاغي في تطويع القارئ لِـ«تطبيع» المشهد العنيف ثم تثويره ضده؟
- كيف يشتغل مفهوم القيامة في الذاكرة الدينية والثقافية الفلسطينية، وكيف تُوظَّف في النص؟
- ما آليات انزياح القيم في المشهد السياسي كما تقدمها القصيدة؟
تُظهر قراءة «هنا عند شطّ القيامة» أن الشعر لا يكتفي بوصفٍ استعراضي للوجع؛ بل يُنتِج معرفة نقدية وضميرية. إنّ القصيدة تدفع القارئ إلى إعادة السؤال عن الحدود بين العادي والاستثنائي، عن لحظة تتحوّل فيها القيامة إلى واقع. المسؤولية الأخلاقية التي تتركها الخاتمة لم تختم النص بل فتحت عليه: هل سنستسلم؟
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..................
هنا عند شطّ القيامة.. يحدثُ ما لا يحدثْ
يحدثُ أن تصيرَ البلادُ سجوناً ضيقةً، والسجونُ هي البلادُ الواسعةْ.
يحدثُ أن يرتفعَ سعرُ القبرِ وتكاليفُ الدفنِ وينخفضَ سعرُ الإنسانْ.
يحدثُ أن يصيرَ الكفنُ ظلاً يطاردنا، فيغدو الجسدُ الآدميُّ مجازاً لهاجسِ المقبرةِ أو خبزاً لجوعها اليوميْ.
يحدثُ أن تصابَ البَوْصَلاتُ بالعمى: كأن تبصقَ المدافعُ جحيمها على جسدِ طفلٍ يحلمُ بأن يصبحَ شاعراً وطنياً.
يحدثُ أن تتبدَّلَ وظائفُ الحيوانِ: كأن يبيضَ الديكُ إذا جاءَ وجهُ الفجرِ محمولاً على صفيرِ القذائفْ.
يحدثُ أن يصيرَ الشاعرُ روائياً شديدَ الواقعيةِ، ربما لأن الوحيَ محاصرٌ بالدباباتِ وعيونِ الجندِ الوحشيةْ.
يحدثُ أن يصيرَ الملحدُ شيخاً والسياسيُّ مهرجاً والمنافقُ رمزاً والجلادُ ضحيةً والضحيةُ شيطانْ.
يحدثُ أن تهونَ المذبحةُ: كأن يراها البعضُ خبراً عاجلاً بين فاصِلَيْنِ قصيرَيْنِ في نشرةِ الأخبارْ.
يحدثُ أن يصيرَ الرضيعُ حكيماً، بفعلِ الحصارِ المفروضِ على ثديِ أمهْ.
يحدثُ أن يصيرَ الموتُ طريقاً للحياة والحياةُ مأوى لتيهِ الموتْ.
هنا عند شطّ القيامةِ.. يحدثُ ما لا يحدثْ....
سوى أمرٍ واحدٍ: هو أنْ نستسلمْ.