قراءات نقدية

عمر عبد العزيز: قراءة في قصيدة "لماذا لم ينتبه أحد؟" للشاعر فتحي مهذب

قصيدة "لماذا لم ينتبه أحد؟" للشاعر التونسي فتحي مهذب هي صرخة احتجاج فلسفية ضد اللامعنى، حيث يستعرض سقوط كل ما هو إنساني ونبيل في عالم تملؤه الفوضى واللامبالاة. بأسلوب يقترب من السريالية والتعبير الوجودي، يعكس الشاعر حالة العالم الحديث، وينقل مشاعر القلق والاغتراب والعجز أمام الانهيار الكوني. يمكن تحليل هذه القصيدة من عدة جوانب أدبية وفلسفية ونفسية، ومقارنتها بآراء بعض الفلاسفة.

القصيدة تتحدث عن "سقوط" كل شيء؛ من الأشخاص إلى النجوم إلى الأرض، وكأن العالم ينهار في مشهد عبثي لا معنى له. هذه الصورة تتسق مع فلسفة ألبير كامو حول العبث، حيث يرى كامو أن الإنسان يعيش في عالم لا معنى له، وأنه يواجه باستمرار فوضى الكون اللامتناهية. هنا، يعكس الشاعر فكرة العبث بسرد أحداث يومية مؤلمة ومأساوية، تجسد عجز الإنسان عن إيجاد معنى في حياته وسط هذا الانهيار الشامل.

الشاعر يصف سقوطًا متكررًا للأشياء والأشخاص، وكأن كل ما في الحياة يسير نحو الهاوية بلا هوادة. يشير السقوط هنا إلى انحطاط القيم الإنسانية وغياب الأخلاق، مما يخلق شعورًا بعدم الاستقرار. هذه الرمزية تشبه تحليلات فريدريك نيتشه حول "أفول القيم" و"موت الإله"، حيث يرى أن القيم القديمة التي دعمت الحضارة أصبحت فارغة، مما دفع البشرية نحو أزمة أخلاقية. السقوط هنا يعكس هذه الأزمة، ويشير إلى عالم فقد تماسكه الأخلاقي والقيمي.

القصيدة تفيض بمشاعر الحزن والضياع، وكأن العالم يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط تتابع هذه "السقوطات". تعكس القصيدة قلقًا عميقًا واغترابًا، يتفق مع نظريات سيغموند فرويد حول القلق الوجودي، الذي يعتبر نتيجة حتمية للحياة الحديثة المليئة بالتوتر والمخاطر. الشاعر هنا، يبرز شعورًا بالعجز أمام انهيار العالم، ويجسد قلقًا يوميًا يطارد الأفراد كالراعي الذي يلاحقه "حبل طويل من السحرة"، في إشارة إلى القلق المتراكم في اللاوعي الإنساني.

تتناول القصيدة سقوط "القتلة" و"قاطعي رؤوس الكلمات المضيئة" و"الراقصين على رصيف المؤامرة". هنا، يعبر الشاعر عن احتجاج ضد الظلم السياسي والاجتماعي الذي يعصف بالعالم العربي. هذه الأفكار تتماشى مع الفلسفة الثورية عند كارل ماركس، حيث يظهر الشاعر الوعي الطبقي ويندد بمن يسيطرون على مقاليد السلطة ويعبثون بمصائر الناس. الكلمات هنا تصبح وسيلة للتعبير عن هذا الظلم وللإشارة إلى التوتر بين الشعب وبين من يحكمونه بقبضة من حديد.

في عبارة "الشاعر بثقوب مروعة في حواسه الخمس" يعبر الشاعر عن عجز الشعراء والمثقفين عن التواصل مع العالم من حولهم، وكأنهم يعيشون في حالة اغتراب دائم، يتنفسون الهواء ذاته لكن بوعي مختلف. هذا الطرح قريب من نظريات جلال الدين الرومي الصوفية حول الاغتراب عن الدنيا والتوق للروحانية. يعكس الشاعر هنا رؤية وجودية للعالم، وكأن الحواس عاجزة عن إدراك عمق الانهيار الروحي.

تتجلى في القصيدة روح نقدية شديدة تجاه الإنسان المعاصر الذي فقد إحساسه بالآخرين وراح يجري خلف قناع اللامبالاة. يعبر الشاعر عن هذه الفكرة باستخدامه لعبارات مثل "الراقصون على رصيف المؤامرة" و"المهجوسون بإيقاع اللامبالاة". هذه الصورة تتقاطع مع تحليل مارتن هايدغر للوجود في العصر الحديث، حيث يرى أن البشر أصبحوا "كائنات مهملة"، تسير بلا هدف وسط الحشود، تلهث خلف رغبات سطحية عابرة، متجاهلين القيم الأعمق.

في قصيدة "لماذا لم ينتبه أحد؟"، ينجح فتحي مهذب في خلق ملحمة فلسفية عميقة من خلال تصوره لسقوط كل شيء في عالم فاقد للمعنى. القصيدة تعكس يأسًا من الواقع ورفضًا للظلم والنفاق، وتدعو ضمنيًا إلى يقظة ضمير، لتحدي هذا السقوط الأبدي. يلتقي فيها النقد الأدبي بالتفلسف الوجودي، ليظهر الشاعر صوتًا في عالم مضطرب، يبحث عن الحقيقة وسط أكوام من الأقنعة المتساقطة، في مشهد يعكس مأساة الإنسان الحديث.

***

عمر عبد العزيز

.......................................

** لماذا لم ينتبه أحد؟

يسقط وجهي

مخلفا غيمة كثيفة من الغبار

يسقط جيراني صرعى

تلاحقهم جنازير من القلق اليومي

عذابات مليئة بقذائف الهاون

يسقط الراعي وراء قطيع الهواجس

يطارده حبل طويل من السحرة

تسقط النجمة العذراء

يسقط الضوء من قبعة الخوري

ذئاب الندم الليلي

يسقط كل شيء

وجه النهار في مصيدة اللامعنى

الجسر الذي ترتاح على كتفيه

صلوات الرهبان

الشاعر بثقوب مروعة في حواسه الخمس

يسقط وجه سائق الباص من النافذة

يسقط وجه الشمس

على سرير الماء

يسقط صاحب الحصان الأحمر

بطلقة طائشة

يسقط  العميان تحت أنقاض الكلمات

مخلوقات عذبة

تسقط في النسيان

كلمات عميقة تسقط في شرك التأويل

وجه العذوبة يسقط في البئر

تسقط التوابيت على رؤوس الحكام

الحمام العائلي يسقط

الضحكات الحزينة تسقط في الوحل

يسقط لاعب الجمباز

مروض الساعات الحرجة بسكتة دماغية

يسقط العجوز مدججا بأمطار غزيرة من التجاعيد

يسقط القطار المحمل بالمنتحرين

تسقط السماء فوق الأرض

تسقط الأرض في مأزق أبدي

يسقط كل شيء

تسقط الأقنعة الكثيفة

مدبرو المكائد في الإسطبل

متعهدو حفلات الشواء العربي

القتلة وقاطعو رؤوس الكلمات المضيئة

الراقصون على رصيف المؤامرة

سائقو عربات الأموات

المهجوسون بإيقاع اللامبالاة

ستسقطون

ستسقطون

ستسقطون.

***

فتحي مهذب - تونس

في المثقف اليوم