قراءات نقدية
كريم عبد الله: التناص بين الجمال والقبح.. قراءة سيميائية في بناء الروح البشرية
قراءة في قصيدة: الروح البشرية – للشاعر أنور غني الموسوي – العراق .
***
القصيدة: الروح البشرية
النفس البشرية عالم جميل. جميل جدا كم أحببته وآمنت به أليس هو الذي يزرع الريحان؟ أليس كذلك؟ حيث تقول الحقيقة كل الجمال الذي لا يمكن تخيله، ليس وهمًا أبدًا، إنه الجمال الذي ينحدر مبكرًا، يصافح الأولاد في الشوارع.
ألا تراه ينحدر كل يوم؟ ايديها ناعمة تزرع الريحان كيف يريدون قبيح هل يمكن أن يكون الذي يزرع الريحان قبيحًا؟ كيف يمكنهم أن يكذبوا كل هذه الكذب؟ فقط تعال قليلا نحو روحك نحو عالم لا يعرف القبح والكذب
نعم القبح ليس حقيقيا ولن يكون مهما حاولوا الا ترى انهم دائما يختفون سرقوا كل شيء ولم يتركوا زهرة. يا ترى جابوا القلب القاسي ده منين؟ ألم يعلموا أن الأمسيات دافئة، وأن للحقول ترنيمتها الرقيقة؟ كيف يمكن أن يكون هناك كل هذا الظلام في قلوبهم؟ أنا حقا لا أفهم.
بقلم: أنور غني الموسوي – العراق .
....................
توطئة:
التناص بين الجمال والقبح: قراءة سيميائية في بناء الروح البشرية
التفسير: في هذا العنوان، يتم التركيز على العناصر الرمزية التي تبرز في النص، مثل (الجمال والقبح والروح). كلمة /التناص/ تشير إلى التفاعل بين الرموز والمفاهيم المختلفة داخل القصيدة (مثل الريحان، الزهور، الظلام، الكذب)، و/ قراءة سيميائية / تعني تحليل هذه الرموز وفقًا للدلالات التي تحملها ضمن سياق النص.
القراءة:
قصيدة / الروح البشرية / للشاعر العراقي: أنور غني الموسوي تعد نموذجًا شعريًا يحمل في طياته الكثير من الرموز والمعاني التي تحتاج إلى تحليل سيميائي دقيق لفهم العلاقات بين / العلامات/ و/ الرموز/، وكيفية تشكل المعنى في النص. في هذه القصيدة، يقوم الشاعر بتناول الموضوعات الإنسانية الكبرى، مثل (الجمال، والقبح، والحقيقة، والكذب)، من خلال التصورات النفسية، ما يتيح لنا فرصة الغوص في بنية هذه القصيدة وتحليلها من خلال منهج سيميائي عميق.
1. الجمال كعلامة سيميائية محورية:
القصيدة تبدأ بتقديم فكرة / النفس البشرية /على أنها/عالم جميل /، والجمال هنا لا يقتصر على الظواهر الحسية أو الجمالية البسيطة، بل يُحيل إلى مفهوم أعمق: (حيث تقول الحقيقة كل الجمال الذي لا يمكن تخيله). الجمال في هذا السياق لا يُنظر إليه كمجرد مظاهر حسية أو تجريدية، بل كحقيقة كونية غير قابلة للإنكار أو التشويه.
/ الريحان / هو العلامة الرئيسية التي يُستدعى منها هذا الجمال. وفي السيميائيات، يُعتبر الريحان رمزًا للطهارة والنقاء. في النص، يُطرح الريحان كفعل مادي يزرع / يدًا ناعمة /، مما يشير إلى طيبة النفس البشرية التي تُنتج الجمال الطبيعي. لكن الجمال هنا لا يتمكن من الثبات إلا من خلال انحداره / مبكرًا / إلى الأرض، حيث يصافح / الأولاد في الشوارع /، وهي صورة تعكس براءة الطفولة والابتعاد عن التلوث الاجتماعي. هذه الأيادي الناعمة تصبح الرابط بين الجمال المثالي والنفس البشرية الطاهرة.
(السيميائية) هنا تشي بأن الجمال ليس مفهوماً سكونياً، بل هو عملية حيوية مستمرة / تنحدر/ كل يوم، مما يُحيل إلى فكرة تجدد الروح وتدفقها نحو العالم الخارجي. هذا التدفق لا يتوقف عن العطاء، فهو في حركة مستمرة، ينشر الجمال في العالم المحيط.
2. القبح كعلامة مرفوضة:
القصيدة تضع (القبح) في موضع معادٍ للجمال، بل ترفضه بشكل قاطع وتراه دخيلًا على النفس البشرية الطبيعية. في سؤاله / هل يمكن أن يكون الذي يزرع الريحان قبيحًا؟ /، يُظهر الشاعر من خلال التناص بين الفعل والصفة استحالة الجمع بين الطهارة والقبح. القبح لا يتوافق مع اليد التي تزرع الريحان، أي مع الروح الطيبة التي تحمل الخير وتقدس الجمال. هذه العلاقة بين الجمال والقبح يمكن أن تُقرأ في ضوء مفهوم السيميائية الجمالية، حيث يتم تحديد الجمال من خلال نفي القبح، وإظهاره كعلامة كاذبة ومزيفة.
القبح في القصيدة ليس فقط مفهوماً معاديًا للجمال، بل هو أيضًا مفهوم زائف لا يمت إلى الحقيقة بصلة. الشاعر يطرح القبح باعتباره مجرد / كذب /، حيث يُعتبر القبح محض ادعاء لا يمكن أن يتحقق في العالم الذي يسوده الجمال الأصيل. / كيف يمكنهم أن يكذبوا كل هذه الكذب؟ / هو سؤال استنكاري يعكس اليقين في وجود الجمال كحقيقة لا تقبل النقاش. هذا الزيف يتجسد أيضًا في تصوير أولئك الذين / سرقوا كل شيء ولم يتركوا زهرة /، في إشارة إلى هؤلاء الذين يسعون لتدمير الجمال من خلال كذبهم وفسادهم، ويُظهر الشاعر كيف أن العالم قد أصبح موضع تشويه بسبب سيطرة القوى السلبية.
3. التناص بين الجمال والظلام:
أحد الجوانب الأكثر دلالة في القصيدة هو التناص بين الجمال والظلام. في سيميائيات القصيدة، يظهر الظلام كعلامة على البؤس الروحي والفساد الأخلاقي. / كيف يمكن أن يكون هناك كل هذا الظلام في قلوبهم؟ / هو سؤال مفتوح يُوجه مباشرة لأولئك الذين يسعون إلى إخفاء الجمال وتدمير الحقيقة. الظلام هنا لا يقتصر على كونه مجرد حالة طبيعية، بل هو مؤشر على الفساد الداخلي الذي يظلم الرؤية الحقيقية للعالم ويطمس معالم الجمال.
في السيميائية، يُعتبر (الظلام) حالة / نفي/ (للجمال). لا يمكن للجمال أن يوجد في ظل الظلام، بل إن الظلام يمثل غياب الجمال، أو نوعًا من الفوضى الروحية التي تقف ضد النظام الجمالي المتماسك الذي يُعبر عنه الشاعر. هذا الظلام لا يتعلق فقط بالظروف المادية أو الطبيعية، بل يعكس الوضع النفسي للبشر الذين يفتقدون للصفاء الداخلي ويعيشون في تناقض مع الحقيقة.
4. العلاقة بين الجمال والروح:
النفس البشرية هي التي تحكم على الجمال وتنقله إلى العالم من خلال أفعالها. في القصيدة، يُذكر أن الجمال ليس / وهمًا أبدًا /، بل هو تجسد حقيقي للروح البشرية التي تتحرك نحو الجمال والحقيقة. الشاعر يقترح أن الروح البشرية في حالتها الأصلية لا تعرف القبح أو الكذب، وبالتالي لا يستطيع الجمال أن يتواجد إلا حيثما كانت الروح نقية وصافية. إذا كانت الروح قد أُفسدت أو تحولت نحو القسوة، فإن الجمال يتلاشى ويُستبدل به الظلام.
/ القلب القاسي / هو أحد الرموز التي يستخدمها الشاعر لتمثيل هذا التحول في النفس البشرية. في السيميائيات، يشير القلب إلى مركز الإحساس والتجربة الإنسانية، وبالتالي فإن / القلب القاسي / يدل على فقدان الإحساس بالجمال الحقيقي، أي الفساد الروحي الذي يُنتج الظلام. وُضع القلب في موضع المقارنة مع /الحقول/ و/الأمسيات الدافئة/، وهو تلميح إلى الطفولة أو البراءة التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة والعميقة في الحياة.
5. الإغلاق السيميائي:
القصيدة تنتهي بموقف شعوري غارق في الحيرة والاستفهام: /أنا حقًا لا أفهم/. هذه الجملة، على الرغم من كونها تعبيرًا عن العجز البشري في فهم الظواهر الروحية والإنسانية، إلا أنها أيضًا تمثل لحظة الإغلاق السيميائي. فالتساؤل يفتح الباب أمام قضايا وجودية لا يمكن حصرها في إجابة واحدة، وبالتالي تصبح القصيدة بمثابة رحلة تأملية مفتوحة على جميع الاحتمالات. هذا الختام يُظهر أن محاولة فهم العلاقة بين الجمال والقبح، الحقيقة والكذب، ليست عملية سريعة أو سهلة، بل هي عملية عميقة ومستمرة تبحث عن المعنى في بحر من الرموز والعلامات التي تظل بحاجة للتفسير المستمر.
خاتمة:
من خلال هذه القراءة السيميائية العميقة، يمكننا أن نرى أن قصيدة / الروح البشرية / تمثل صراعًا بين الجمال والقبح في الروح الإنسانية، حيث يتم التأكيد على أن الجمال يمثل الحقيقة والطهارة في حين أن القبح هو مجرد وهم وكذب. تعمل الرموز في القصيدة على توجيه القارئ لفهم كيفية بناء الروح الإنسانية بين (النقاء) و(الفساد)، وكيف أن العلاقة بين (الجمال) و(الظلام) تُشكل سمة أساسية في فهم الإنسان لذاته وللعالم من حوله.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق