قراءات نقدية
سعاد الراعي: الوجعٍ والانتماء في قصيدة "بَلَغَ الزُّبَى فِينَا الهَوَانُ" للشاعر يحيى السماوي
تجتاحني دهشةٌ مهيبة وأنا أُبحرُ في عوالم هذه القصيدة؛ فقد أبدع الشاعر يحيى السماوي في صياغة كل بيت كأنَّهُ قصيدة قائمة بذاتها، نابضة بالمعنى، ومترعة بالبلاغة التي تتراقص بين أصابع الإعجاز الشعري. في تناغم مدهش، استطاع الشاعر أن يدمج الخاص والعام، الذات والجموع، ليخلق لوحة شعورية متشابكة تعكس عمقًا إنسانيًا تتجاور فيه العوالم وتتداخل.
صرخة وجدانية ومعاناة إنسانية
تأتي القصيدة كنداءٍ ملتهبٍ يصرخ فيه السماوي من أعماق وجدانه، متكئًا على إرث شعري غارق في الفلسفة والعاطفة. تتردد أصداء المأساة في أروقة النص، حيث تتقاطع ثنائية النور والظلام، الإيمان والضياع، الحب والخيانة، في مشهد صراعي متجذرٍ في حيرة الإنسان أمام مفارقات الوجود.
البنية الفكرية وصراع الأضداد
تُشيّد القصيدة بنيانها على أسئلة الوجود، حيث يبدأ الشاعر بمونولوج داخلي يعكس صراع النفس:
"أمسي ويومي في الهوى خصمانِ
أأنا المُضامُ؟ أمِ المُضيمُ الجاني؟"
في هذين البيتين، يضع السماوي القارئ أمام مفارقة فلسفية تنبض بانشطار الذات، متأرجحة بين متناقضات لا تهدأ. ويتجلى هذا الصراع بوضوح في قوله:
"يتقاتلُ الضِّدانِ تحتَ أضالعي
نورُ الإلهِ وظُلمةُ الشيطانِ"
هنا، يُحيلنا الشاعر إلى صراع أبدي بين الخير والشر، مستمدًا من الإرث الصوفي معانيه، إلا أنه يُطعّمه برؤية عصرية تعكس واقع الأمة وأزماتها، كما في قوله:
"القائمون إلى الصلاةِ جباهُهم
كالقائمينَ إلى كهوفِ غواني"
اللغة والصورة الشعرية
لغة القصيدة متينة، تُبهر القارئ برصانتها ورسوخها بالاتكاء على ما في التراث القرآني والشعري. أما الصور، فهي مُبدعة تستند إلى المجاز العميق والاستعارة البديعة، مثل قوله:
"ما العُجْبُ إنْ غُصْني يُحاربُ جَذْرَهُ
وتَخافُ من أهدابِها أجفاني؟"
يمزج الشاعر في هذه الصورة بين تجريد الفكرة وواقعيتها، ما يمنحها أبعادًا متداخلة تُحرّك خيال القارئ وتثير فيه الخيال والتأمل!
ومن جانب آخر، يستدعي الشاعر رموزًا تاريخية، كما في قوله:
"كم ملجمٍ فينا وأبرهةٍ وكم
هندٍ وكم من عصبة السفياني"
ان الإشارة الى هذه الشخصيات الخيانية والغادرة، ما هو الا اسقاط للماضي على الحاضر بأسلوبٍ يتسم بالإيحاء والانزياح، كاشفًا التداخل بين الأزمان والتجارب الإنسانية.
جدلية القداسة والتناقض
من المشاهد البليغة التي يرسمها السماوي تلك التي تُبرّز ازدواجية الواقع:
1.
"مولايَ واخْتَلَطَ الصدى في يَومِنَا
ما بينَ صوتِ رَبَابَةٍ وأذانِ"
هنا، تتداخل الأصوات بين الروحانية والهوى، بين النداء المقدس والحياة العابثة، لتُجسد حالةً من السقوط الاجتماعي والسياسي والفكري.. انه الضياع القيمي.
2.
"القائمون إلى الصلاةِ جباهُهم
كالقائمينَ إلى كهوفِ غواني"
تُجسّدُ هذه الصورةُ الشعريةُ المدهشةُ نفاقًا اجتماعيًا صارخًا، حيثُ تَحملُ الجباهُ أثرَ السجود، لكنَّ القلوبَ خاويةٌ من الإيمان. هنا يُبرزُ الشاعرُ ازدواجيةَ المظهر والجوهر، مستنكرًا طقوسًا بلا روحٍ، وديانةً بلا يقين، مُشيرًا إلى أزمةٍ أخلاقيةٍ عميقةٍ تُفكّكُ القيمَ الحقيقيةَ للدين والالتزام بها.
صرح التأريخ واطلال الواقع
1.
"الخيبريون استباحونا على
مرأى الكتائبِ من بني عدنانِ"
في هذا المقطع، تتداخلُ الأبعادُ التاريخيةُ والسياسيةُ، إذ يُحيلُ لفظُ "الخيبريون" إلى يهودِ خيبر، مُستدعيًا خيانةَ الماضي لتفسيرِ خياناتِ الحاضر. والمفارقةُ الحادّةُ تكمنُ في موقفِ "بني عدنان"، حيثُ يُشيرُ إلى العربِ الذين يفترضُ أن يكونوا حُماةً، لكنهم باتوا شهود زور عاجزين عن الفعل المستوجب اتيانه في ظروف تكالبت علينا فيه الذئاب؟
2.
"قومي هُمُ قتلوا أميمَ أخي" وهم
أغووا بني صهيونَ بالعدوانِ"
في هذا الاقتباسِ من التراثِ الجاهليّ، يُوظّفُ الشاعرُ الحارث بن وعلة الذهلي، ليُعيدَ إنتاجَ مأساةِ الأخوّة المذبوحة. يفضحُ تناقضَ القومِ الذين خانوا أبناءهم وأوطانهم، وأصبحوا عرّابي العدوانِ الصهيونيّ، في انقلابٍ كارثيٍّ يُبدّدُ المروءةَ والنخوةَ لصالحِ الخيانةِ والتبعية.
3.
"الموصِدونَ بوجهِ غزّةَ بابَهم
والفاتحونَ البابَ للذئبانِ"
يستحضرُ هذا المقطعُ مأساةَ الحصارِ على غزّةَ، مُحمّلًا العربَ مسؤوليةَ التخاذلِ والتواطؤ. فالبابُ الذي أُوصدَ في وجهِ المظلومين، فُتحَ على مصراعيهِ للغُزاةِ والمعتدين، في صورةٍ تُكثّفُ الخيانةَ السياسيةَ والأخلاقية، وتجعلُ من الأعداءِ شركاءَ لبعضِ الأنظمةِ العربيةِ نفسها.
4.
"الشامتونَ بقتلِ أشرفِ ذائدٍ
عن غزّةَ تُسبى وعن لبنانِ"
تتصاعدُ حدةُ المرارةِ في هذا المقطع، حيثُ يُدينُ الشاعرُ أولئك الذين شمتوا باستشهادِ المقاومين، وكأنّهم ينتمونَ إلى صفِّ العدوّ. هذا الاستنكارُ اللاذعُ يُبرزُ انقلابَ الموازينِ، حيثُ صارَ الدفاعُ عن الأوطانِ جريمةً في عُرفِ الجاحدين، وباتَ الشهيدُ هدفًا للتشويهِ بدلًا من التمجيد.
انتصارَ الانتماءِ
1.
"حاولتُ أكفرُ بالعراقِ وأهلهِ
فاعتابني شرفي وشُلَّ لساني"
يمثلُ هذا البيتُ صرخةَ وجعٍ من شاعرٍ عشقَ وطنهُ حتى العظمِ، لكنَّهُ استبدَّ به الألمُ حتى فكرَ في التنكّرِ له. غيرَ أنَّ الشرفَ، كقيمةٍ متجذّرةٍ، صفعهُ قبلَ أن ينطقَ بالكفرِ، في صورةٍ مُبهرةٍ تُجسدُ انتصارَ الانتماءِ رغمَ كلّ الجراح.
2.
"وأردتُ تجربةَ الخيانةِ مرةً
فتحجّرتْ مُقلي وهُزَّ كياني"
هنا يصلُ الصراعُ الذاتيُّ إلى ذروتهِ، حيثُ يتحدى الشاعرُ نفسهُ في اختبارٍ أخلاقيٍّ وجوديّ، لكنَّ استجابةَ الجسدِ كانت أعنفَ من الفكرةِ ذاتها. فالعينُ التي كادتْ أن تشهدَ الزيفَ تحجّرت، والروحُ ارتجفت، وكأنَّ الانتماءَ الصادقَ يُحبطُ الخيانةَ حتى قبل وقوعها.
3.
"لي طبعُ باديةِ السماوةِ رملُها
لم يَشكُ جمرَ القيظِ للغدرانِ"
يعودُ الشاعرُ هنا إلى أصولهِ، مُجسّدًا نفسهُ كامتدادٍ لصحراءِ السماوةِ الصامدةِ تحتَ شمسِ القيظِ دون أن تستجدي الغدرانَ. هذه الصورةُ الموحيةُ تعكسُ الاعتدادَ بالقيمِ، والإصرارَ على عدمِ الاستسلامِ رغمَ قسوةِ الظروفِ، في مشهدٍ يُكرّسُ البطولةَ والكبرياء.
الإيقاعُ والموسيقى الشعرية
القصيدةُ مكتوبةٌ على البحر الكامل، وهو بحرٌ ذو إيقاعٍ قويٍّ ومتماسك، ما ينسجمُ مع نبرة الشاعر الحادّة وانفعاله العاطفي العميق. كما يُلاحَظُ استخدامُ التكرار، مثل تكرار "مولايَ"، وهو ما يُعزز البُعد الصوفي في القصيدة، ويضفي عليها طابعًا ابتهاليًا يُذكِّر بالمدائح النبوية.
***
سعاد الراعي