قراءات نقدية

فالح الحمراني: كامو وستيوفسكي.. تطابق المقاربة وتناقض الاستنتاج

اعتبر ألبير كامو الذي نفسه تلميذاً لدوستويفسكي وحول روايته الأثيرة لديه "الشيطان" الى مسرحية واقتبس العديد من افكاره. وكان يكرر أن تاثير عبقرية الكاتب الروسي تجاوز حدود بلده منذ زمن طويل ولم تفقد قوة تأثيره. وصرح كامو قبيل وفاته في أواخر خمسينيات القرن الماضي: "الآن نعرف أن أبطال دوستويفسكي ليسوا غرباء أو عبثيين. نحن نشبههم، نحن كم طينة واحدة. وإذا كانت "الشياطين" رواية نبوئيًة، فذلك ليس فقط لأن شخوصها كانوا قبلنا عدميين، بل لأنهم يُظهرون على المسرح أرواحًا ممزقة وميتة، عاجزة عن الحب وتعاني، لهذا فهي متعطشة للإيمان لكنها لا تملكه. واليوم، غمر هؤلاء الابطال مجتمعنا، وعالمنا الروحي".

وإذا كانت ثمة تشخصيات مشتركة بين دستويفسكي وكامو بصدد القضايا الوجودية للانسان ومحنه وتطلعاته للخلاص من وجوده الملتبس، فان الاديبين/ المفكرين يختلفان لحد التناقض في سبل الخروج من الازمات الانسانية. وترصد الناقدة الروسية آلّلا لاتيننا في دراستها "دستويفسكي والوجودية" التشابه الماثل للعيان بين شخصيتي رواية دستويفسكي الجريمة والعقاب راسكولنيكوف والغريب لكامو ميرسو اللذين تورطا بارتكاب جريمة قتل مجانية، رغم اختلاف مقاربات الأديبين منهما. وتمضي بالقول: وعموما أن ماتيف إبداعات دوستويفسكي تغلغل على نطاق واسع في أعمال الأدب الوجودي. علاوة على ذلك، يُعتقد أن أفكار الكاتب الروسي الكبير تركت انعكاساتها بمختلف الأشكال على الفلسفة الوجودية نفسها.

لقد ارتبطت حياة كامو الادبية والفكرية على مدى ربع قرن (1935-1960)، ارتباطًا وثيقًا باعمال دوستويفسكي. ولم تظل أهمية  انتاجات الكاتب الروسي جامدة في ذهن كامو. فقد مرت بتطورمعقد، ارتبط بأحداث العصر والحياة الروحية للكاتب نفسه.

بدأ كامو بالتعرف على أعمال دوستويفسكي عندما كان في العشرين من عمره، حينما كان يدرس في الجامعة بالجزائر. وسرعان ما أصبح مهتمًا بها، ولعب دور إيفان كارامازوف على خشبة المسرح. وصرح كامو عن دوره كإيفان: "لقد لعبته، ربما، بشكل سيئ، لكن بدا لي أنني فهمته تمامًا".  واستذكر في عام ١٩٥٥، في حديث إذاعي بعنوان " من أجل دوستويفسكي"، قائلاً: "تعرفت على أعمال دوستويفسكي وأنا في العشرين من عمري، ولا تزال الصدمة التي شعرتُ بها عند ذلك اللقاء حيةً في وجداني حتى اليوم، بأي عد عشرين عاما.ً في البداية، اعجبني إن دوستويفسكي كشف لي الطبيعة البشرية، كشفها بكل معنى الكلمة، لأنه يُعلّمنا ما قد عرفناه نحن، بيد أننا نرفض الاعتراف به. علاوةً على ذلك، فقد دارى إحدى نقاط ضعفي الذي تمثل بشغفي بالوضوح من اجل الوضوح. ولكن مع تفاقم مأساة عصرنا، سرعان ما احببت في دوستويفسكي، ذلك الاديب الذي فهم وصوَّرَ مصيرنا التاريخي بعمقٍ بالغ" .

ولم يخفِ كامو اهتمامه بأعمال دوستويفسكي. وقد ردد هذا في أغلب أعماله. ويذكر مراراً إن أعمالاً مثل "الإخوة كارامازوف"، و"الشياطين"، و"مذكرات من الاعماق"، و"مذكرات كاتب" (وخاصة مقال "الحْكم")، و"الجريمة والعقاب". إن أعمال دوستويفسكي أثارت من دون شك اهتمام كامو من الناحية النفسية، وذلك بفضل التصوير الحي لمشاعر الشخصيات التي أدركت عبثية الحياة؛ ومن منظور ميتافيزيقي   فيما يتعلق بقضايا الحياة والموت والأخلاق والحرية.

ويركز كامو، مثل دوستويفسكي، على دراسة الإنسان ككائن. فكامو من الفلاسفة الوجودين، رغم نفيه انتماؤه لهم، اللذن ركزوا اهتمامهم على الإنسان وتجربته الحياتية. وكتب في عام 1943: "ينبغي الاتفاق على أن العالم غير قابل للمعرفة ودراسة لغز الإنسان". وينطبق الأمر نفسه على دوستويفسكي. فقد حدد، وهو في الثامنة عشرة من عمره، أثناء دراسته في كلية الهندسة بسانت بطرسبرغ، هدفه واهتمامه الرئيسي طوال حياته وأعماله اللاحقة: "الإنسان لغز! يجب حله". وكتب الفيلسوف  الوجودي/ الديني الروسي نيكولاي برديايف عن دوستويفسكي: "يفتح دوستويفسكي عوالم جديدة. هذه العوالم في حالة حركة متسارعة. ومن خلال هذه العوالم وحركتها، تتكشف مصائر الإنسان". وسوف يركز هذا العمل، بدوره، أيضاً على القضايا الأساسية المتعلقة بالوجود الإنساني.

ورصد البحاثة تشابه واضح عند دراسة مقاربات الاديبين/  المفكرين لمشاكل العبث، والانتحار، والدين، والعدمية، والتمرد: وتأكدت هذه التشابهات في المقالات الفلسفية والأعمال الفنية للاديبين. ومن المهم أن نلاحظ أن دراسة فلسفة دوستويفسكي وكامو من هذا المنظور اتاحت بالتوصل إلى فهم أعمق لهما،

من خلال رواياته "الشياطين"، و"الإخوة كارامازوف" ومقالته "الحْكم"،  لقد طرح دوستويفسكي الأسئلة التي حفزت لاحقا تفكير كامو. إن وصف دوستويفسكي للعبث الذي تتسم به بعض شخصياته، أثر بلا ريب بصورة كبيرة على فهم ألبير كامو للعبث. علاوة على ذلك، فإن استنتاج كامو في اسطورة سيزيف  بأن إدراك العبث لا يؤدي بالضرورة إلى الانتحار تطوير لحوارات كيريلوف في " الشيطان، ومقالة "الحْكم". وعلى الأرجح أن هذه الحجج لم تكن لتظهر على الإطلاق لو لم يكن الاديب / الفيلسوف الفرنسي مطلعاً ومستوعبا لأعمال دوستويفسكي. علاوة على ذلك، نجد تأثير دوستويفسكي في موقف كامو تجاه الدين، رغم أن النتيجة النهائية مختلفة بصورة لافتة، إذ توصل دستويفسكي إلى الخلاص بالإيمان، في حين لم يقبل كامو الخالق مطلقا. إن هذا الرفض كان متأثرا إلى حد كبير بالمنطق الذي وضعه دوستويفسكي على لسان إيفان كارامازوف. وأما بالنسبة لمشكلة التمرد، فإن صياغة فهمها أيضاً تمرعبر تفكير دوستويفسكي. عندما تعرض كامو للعديد من أفكار دوستويفسكي، كان إما يوافق عليها أو يرد عليها بالنقد - لكنه لم يظل غير مبالٍ أبدًا حيالها. الحوار مع دوستويفسكي هو سمة مميزة ثابتة لأعمال كامو - سواء المقالات الفلسفية أو الروايات والمسرحيات والمقالات والخطب وما إلى ذلك. لقد حفز إبداع المفكر الروسي إلى حد كبير وحدد تشكيل فلسفة كامو.

***

د. فالح الحمراني

 

في المثقف اليوم