قراءات نقدية

سهيل الزهاوي: قراءة في قصيدة "العمائم" للشاعر عبد الستار نور علي‬

مقدمة تحليل قصيدة "العمائم": الجندي، الهذيان، والخذلان الكبير

عند التوغل في أبعاد الصور الشعرية التي يصوغها شاعرنا الكبير، تظهر بوضوح مفارقة جوهرية تُعدّ أساساً لأعماله؛ إذ يتجلى فيها عشقه للحرية، ورفضه القاطع لكل مظاهر الاضطهاد والاستغلال. في نصوصه، لا تقتصر مهمة الكلمة على إبراز جمالها فقط، بل تتعدى ذلك لتغوص في أعماق الواقع المتصدع، فتستخرج رؤى مبتكرة مفعمة بالإبداع وتُجسّد تجارب شخصيته الاستثنائية.

ليس شعره مجرد لعبة لغوية، أو نزوة فكرية عابرة، بل يُمثل بيانًا أدبيًا وفكريًا محمّلًا برسائل تهدف إلى إيقاظ الوعي وتحفيز التأمل والإبداع. هذا ابن بغداد، الذي ترعرع على ضفاف دجلة، وحافظ على خيوط الأمل متماسكة رغم تجربة النفي والغربة، لم يتخلَّ عن بريق التفاؤل. كما عبّر عن ذلك قائلًا: لم أفقد الأمل بانتصار الأمل. فيتصور كشخصية الفارس الذي، رغم العواصف التي تلاحقه، يظل يحلق نحو النور.

تشغل قصيدة "العمائم" مكانة مميزة في تجربتها الأدبية، من خلال تناول آثار ما بعد الحرب؛ فتفتح أبوابها على مشهد مزدوج، يجمع بين نقد بنية القهر الجديدة، وكشف الجراح العميقة التي يتركها الصراع على أرواح وأجساد البشر. لا تُقدَّم الحرب على أنها لحظة عابرة أو مجرد حدث انتهى، بل تتحول إلى زمن داخلي يأكل من الروح، حتى بعد صمت المدافع. الجندي الذي يجد نفسه على عتبة الأسئلة لا يظهر كبطل منتصر ولا كضحية فقط، بل يصبح رمزًا لمعاناة شعوب بأكملها أُعيد تشكيلها قسرًا من دون أن يترك لها خيار أو اعتبار لرغبتها في تحمّل هذا الإرث الثقيل من الخذلان.

وفي هذا السياق، يتجلى الشاعر كمثقف عضوي نابض بالحيوية، بحسب رؤية غرامشي، لا يكتفي بتوثيق تشوهات الأنظمة، بل يسعى جاهدًا إلى إيقاظ الوعي وسط سبات الجماعات. قصيدة "العمائم" ليست مجرد تمرين جمالي محض، بل هي موقف وجودي وموقف مقاوم ضد التزييف والعنف المغلف بالرموز الزائفة. تتحدى القوى المهيمنة متسائلة: هل تتحول معاناة الحرب إلى وجه جديد أم أن السلطة تكتفي بتشكيلها تحت غطاء عمائم مصطنعة؟

عرض القصيدة

العمائم...

في الليلْ

حين ينام الكون

فوقَ فراش أصابعكَ

توقظُ تكتكةُ الساعةِ أحلامَكَ

المتعبةَ

من دوران نهار اليوم.

في الليلْ

حينَ تغرِّدُ أطيافُ الماضي

في رأسكَ

تُسلمُ عينيكَ للذةِ هذي الفكرةِ:

أنْ تنظرَ في الظلمةِ حواليكَ

فترى الأشباحَ الحائمةَ

أنهاراً من ذاكرةِ الشارعِ

والناس

هناكَ ....

حيثُ الحلمُ بقايا جثةِ نادلِ مقهى

(حسن عجمي) *.

في الليلْ

حينَ تنامُ

محتضناً دقاتِ القلبِ

وأسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ

ترى وجهَ الجندي العائدِ

من ساحاتِ الحربِ،

وغبارُ المعركةِ تنهشُ

بمساماتِ الجلدِ الأسمر

والعينان بلا أفقٍ

وشقوقُ يديهِ تتساءلُ

عن Nivia cream

في صدر امرأةٍ عاريةٍ

تتمدَّدُ فوق فراش الرغبةِ

في الأحلامْ .....

عندَ مساءٍ مظلمْ

في البارٍ الغافي

في حضنِ شارع الرشيدْ

بمقابل سينما الزوراءْ

جلسَ بجواركَ عندَ المائدةِ

ذاكَ الجنديُ،

وكؤوسُ البيرةِ (الدرافت) عامرةٌ

حتى آخر نبضٍ في الرأسْ،

أقراصُ الڤاليوم المستوردةُ

من شركاتِ بلادِ القاتلِ

ودهاليزِ تجار الحربْ

خارج صلاحيةِ النوم

بينَ أصابعهِ المرتعشة.

البيرةُ كانتْ باردةً،

الجو الخانقُ يقطعُ أنفاسَ محاربنا،

الروادُ زبائنُ خارجَ هذا العالم.

يعرقُ صاحبُكَ الجالسُ بجواركَ

يغنّي....

في هذيانٍ....

مثلَ هذيان المحمومِ

في مستشفى الأمراضِ الصدريةِ.

في الليلْ

حينَ ينامُ العالمُ ... ذاكَ .....

فوق سرير الأمنِ

يسهرُ ذاتُ الجندي

في جوفِ صريفتهِ المبنيةِ*

بمخالبِ الجوعِ

وهديرِ اللاأمن

يتساءلُ:

- هل أستبدلُ ثوبَ الحربِ الماضيةِ

بعمائمِهم؟

تحليل الأبيات الرئيسية في النص:

العتبة، العنوان: "العمائم" كمفتاح تأويلي

يُعدّ عنوان "العمائم" مفتاحًا تأويليًا يكشف التحولات السياسية والرمزية في القصيدة؛ فهو لا يخدم وظيفة جمالية فقط، بل يشكك أيضًا في استخدام الرموز الدينية لتبرير منظومة سلطوية جديدة بعد الاحتلال. فقد تحولت العمائم من رمز ديني نمطي إلى استعارة سياسية تُشير إلى سلطة تخفي وراءها وجه المقدّس آليات إعادة إنتاج القمع والفساد باسم الهوية والدين.

إن صياغة العنوان بصيغة الجمع تبرز انتشار هذه الظاهرة واتساع مدارها، مما يمنح العنوان دلالة تتجاوز الفرد لتطال بنية السلطة بأكملها. ويتجلى هذا الأمر بوضوح في تساؤل الجندي الختامي، الذي يُظهر تحوّلًا من قمع عسكري مباشر إلى قمع مؤدلج ديني، فيصبح العنوان بذلك بوابة لفهم التوتر بين الماضي والحاضر—وبحث عن هوية يُخفيها خطاب زائف تُزيّفه العمائم

المقطع الأول: استدعاء الذاكرة في ليل الذات

في الليلْ

حين ينام الكون

فوقَ فراش أصابعكَ

توقظُ تكتكةُ الساعةِ

أحلامَكَ المتعبةَ

 من دوران نهار اليوم

يقدّم الشاعر تصويرًا للّيل على أنه أكثر من مجرد فترة هدوء، حيث يتجلى كزمن تتبدى فيه التوترات الداخلية بوضوح، لتصبح العزلة انعكاسًا يعكس الإنهاك المتراكم من واقع مضطرب ومليء بالتحديات. ففي العبارة "حين ينام الكون فوق فراش أصابعك"، يوحي المشهد الظاهري بالهدوء، إلا أن أصابع الشاعر تحمل في طيّاتها عبء العالم بأسره. هذا التصوير الرمزي يشير إلى وعيٍ مثقل بمزيج من العجز والحذر المستمر. وليس الليل هنا محطة للراحة أو الاستشفاء، بل هو مساحة يعري فيها استمرار الألم الكامن، حيث يتحوّل السكون الخارجي إلى معترك داخلي دائم. وفي هذا المشهد، يلتقي الإحساس العميق بالحنين مع وعي مأزوم يعي حضوره ويتأمل ذاته، لكنه يبقى عاجزًا عن الفعل المباشر.

تُعتبر تكتكة الساعة في النص رمزًا ذا دلالة مزدوجة؛ فهي من ناحية تمثل صوت الزمن المستمر في تسجيله، الذي يكشف عن ثقل تعاقب الأيام، ويوقظ الأحلام لا كمهرب بل كأعباء مرهقة تحكمها قسوة الواقع، حيث يمتد دوران النهار إلى أعماق ليل الذات. ومن ناحية أخرى، تعكس هذه التكتكة نبضًا يحمل في طياته ذاكرة مفعمة بندوب الحرب، ما يجعلها رمزًا للصمود في وجه الرتابة وسجلًا داخليًا للآلام المتراكمة.

إن ربط "الأحلام" بـ"التعب" و"النهار" يشير إلى أن التجربة اليومية للذات لا تُفارقها حتى في أكثر لحظات الهدوء المفترض. فالنهار الذي قد يُحيل إلى السلطة والواقع الاجتماعي المتغير في القصيدة، لا يترك مجالًا للراحة، بل يُخلف أثرًا نفسيًا يتجلّى ليلًا في شكل وعي قلق وأفكار متعبة.

المقطع الثاني: الليل كفضاء للاستعادة والإنصات: جدلية الحضور الغائب

"في الليل،

 حينَ تغرِّدُ أطيافُ الماضي

 في رأسكَ،

 تُسلِّمُ عينيكَ للذّةِ هذه الفكرة:"

"أنْ تنظرَ في الظلمةِ حواليكَ

 فترى الأشباحَ الحائمةَ

 أنهاراً من ذاكرةِ الشارعِ."

يمهّد الشاعر من خلال هذا المقطع لمشهدٍ تأملي عميق تنفتح فيه الذات على استعادة الماضي، لا بوصفه حدثًا مضى، بل كحالة تأملية مستمرة تعيد تشكيل الإدراك في لحظة السكون الليلي. الليل هنا لا يُقدّم كمجرد زمن خارجي، بل كفضاء داخلي، تتجلّى فيه الذكرى عبر "تغريد أطياف الماضي"، في مفارقة شعرية تربط بين الجمال (التغريد) والألم (الطيف).

هذا التوظيف ينقل الذكرى من كونها عبئًا إلى مصدر لذّة تأملية؛ إذ يتخلى الشاعر عن مقاومة الذكرى ويُسلّم عينيه للفكرة، كما لو أن الألم ذاته بات مألوفًا، وربما مرغوبًا، لما يحمله من حضور يُعيد تثبيت هوية الذات في مواجهة النسيان.

"أن تنظر في الظلمة حواليك" لا تعني فقط النظر الحسي، بل التوجه بالبصيرة نحو الغياب، فيتحول الظلام من عتمة صامتة إلى مجال بصري داخلي تظهر فيه "الأشباح الحائمة". هذه الأشباح ليست مرعبة، بل شاهدة، تمثل حضورًا غيابيًا لمن عبروا، وتشير إلى أن الأمكنة، مثل "الشارع"، لا تخلو من ذاكرة، بل تجري فيها "أنهار" من الذكرى، كما تجري الحياة في العروق.

المزج بين "الأشباح" و"أنهار من ذاكرة الشارع" يُنتج صورة مركبة تعبر عن الوعي الجمعي؛ الأشباح كمجاز للراحلين أو الضحايا، والشارع كحيّز للتجربة اليومية التي لم تَعُد محايدة، بل مشبعة بتاريخ خفي يُقيم في الجدران والأرصفة.

في هذا المقطع، يتحول الليل من مجرد خلفية شعرية إلى حالة ذهنية، تتكثف فيها الرؤى والحنين، ويصير الظلام حافزًا للتأمل لا للاختباء. إنه وعي يتجاوز الحاضر، ويستحضر التاريخ الشخصي والجمعي في آن، حيث الذكرى لا تُستعاد فقط، بل تُعاد صياغتها كحضور قائم بذاته

المقطع الثالث: الناس هناك: استدعاء الوطن من موقع المنفى وتفكيك حلم المثقف

"والناس هناك...

 حيثُ الحلمُ بقايا جثةِ نادلِ مقهى (حسن عجمي)"

في هذا المقطع، يستحضر الشاعر الوطن من موقع الاغتراب، مستخدمًا تعبير "الناس هناك" كإشارة مكانية مشبعة بدلالة الانفصال، تُحيل إلى أولئك الذين بقوا داخل جغرافيا الوطن، بينما الذات الشاعرة تعيش خارجه، في المنفى أو المنفى الرمزي. لا ترد العبارة بوصفها حيادية أو توصيفًا عاديًا للمكان، بل تنطوي على مسافة شعورية تتوزع بين الحنين والخذلان، إذ تتحول "هناك" إلى مكان مُتخيَّلٍ مفعم بالذاكرة والألم.

يرتكز المشهد الشعري على مقهى "حسن عجمي"، وهو أكثر من معلم واقعي، إذ يتجلّى بوصفه رمزًا للحراك الثقافي ومجتمع المثقفين، حيث كان التقاء المثقفين والأدباء في مثل هذه الفضاءات يمثّل بؤرًا للجدل الفكري والتعبير الحر. غير أن صورة "الحلم" في هذا السياق لا تأتي مشرقة أو حيّة، بل تُقدَّم في أقصى حالاتها انكسارًا، إذ يُختزل في "بقايا جثةِ نادل".

النادل، الشخصية الهامشية في المشهد اليومي، يُستدعى هنا كأيقونة للزمن الثقافي الذي مضى؛ فما كان يدور حوله من تفاعل حيوي صار الآن أثرًا بعد عين، مجسّدًا في "بقايا جثة". لا يشير الشاعر إلى النادل كشخص فحسب، بل كجزء من منظومة ثقافية بأكملها تآكلت، فتفكك الحلم الذي كان ذات يوم يرفرف في فضاء المقهى وارتبط بحيوية الكلمة والنقاش.

إن توصيف الحلم بأنه "جثة" لا يحمل فقط دلالة على الفقد، بل يكشف تحوّل الفضاء الثقافي إلى موقع مأساوي، يوحي بأنّ الحلم الجماعي الذي كان يربط الأدباء والمفكرين بالمكان قد انتهى نهاية مأساوية، بل مشوّهة. هذا ما يجعل المقطع يتجاوز الحنين إلى صيغة نقدية جارحة لواقع المثقف والوطن، حيث تحوّلت رموز الحياة الثقافية إلى شواهد على موت المعنى.

ويُلاحظ أن الشاعر لا يُصوّر الوطن في حالة مواجهة مباشرة، بل يُركّب صورة من خلال انعكاسات الذاكرة، حيث تتحوّل الأماكن إلى مقابر رمزية للأحلام، والمقهى، بكونه مركزًا ثقافيًا، يصبح رمزًا لما كان يمكن أن يكون ولم يتحقق.

الخلاصة:

تُعبّر هذه الصورة عن ثنائية الحنين والخذلان، وعن المفارقة بين وطنٍ محفوظ في الذاكرة بوصفه مساحة للأمل، ووطنٍ متلاشٍ في الواقع حيث تحوّلت الأحلام إلى أشلاء رمزية. بقايا جثة نادل المقهى ليست سوى استعارة عن انهيار المشروع الثقافي والجماعي الذي كان يحتضنه المكان، وتُصبح "الناس هناك" عبارة شحن شعوري موجّه من مغترب يواجه الوطن بوصفه ماضيًا منهارًا لا يستعاد. منها إلّا بقايا.

المقطع الرابع: الجندي كصورة عن شعبٍ أنهكته الحروب

في الليلْ

حينَ تنامُ

محتضناً دقاتِ القلبِ

وأسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ

ترى وجهَ الجندي العائدِ

من ساحاتِ الحربِ،

وغبارُ المعركةِ تنهشُ

بمساماتِ الجلدِ الأسمر

والعينان بلا أفقٍ

في هذا المقطع الشعري، تُبنى التجربة على ثنائية الليل/النهار بوصفها إطارًا زمنيًا وشعوريًا يعكس التوتر الداخلي الناتج عن الحرب. إذ يُقدّم الليل لا بوصفه فضاءً للسكينة فحسب، بل كمساحة تأمُّلٍ ذاتي، يُستدعى فيها المكبوت والمقموع، حيث "ينام" المتكلم ظاهريًا، لكنه "يحتضن دقات القلب"، بما يشير إلى يقظة وجدانية تُقاوم السكون الخارجي.

تشير عبارة "أسوارَ نهارٍ مُرٍّ مَـرَّ" إلى النهار بوصفه معادلاً للمعاناة اليومية، حيث يتحول الزمن إلى بنية مغلقة تحاصر الذات. فـ"الأسوار" لا تُمثّل هنا مجرد بُنية مكانية، بل دلالة على آثار التجربة المُعاشة، أي أن الشاعر يعكس أثر الزمن المؤلم على البنية النفسية للشخصية الشعرية.

في هذا السياق، يُستدعى "وجه الجندي العائد من ساحات الحرب" ليشكّل صورةً رمزية للذات المجروحة، سواء أكانت ذاتًا فردية أم جمعية. فـ"العودة" هنا لا تُمثّل نهاية الصراع أو الانعتاق من الحرب، بل على العكس، تشير إلى استمرارية أثرها. إذ يظهر "الجندي" وقد التصق به غبار المعركة حتى بعد عودته، حيث يقول:

 "وغبارُ المعركةِ تنهشُ بمساماتِ الجلدِ الأسمر".

هذه الصورة تتجاوز الطابع الفيزيائي للغبار لتُحيله إلى رمز للذاكرة القتالية، تلك التي تتسلل إلى مسامات الجسد وتستقر فيه. فالـ "غبار" لا يمثّل هنا أثرًا خارجيًا عابرًا، بل حالة من الالتصاق الوجودي، إذ تنهش الحرب الجسد وتُعيد تشكيله بوصفه شاهداً دائمًا على عنفها.

أما عبارة "والعينان بلا أفق" فتُكثّف البعد النفسي للمشهد، إذ تُعلن انهيار القدرة على التطلّع إلى المستقبل. فـ"العينان" اللتان تُعدان رمزًا للرؤية والرجاء، تتحوّلان إلى مرآة للفراغ، ما يشي بحالة من الانكسار العميق وفقدان الإيمان بإمكانية التغيير أو النجاة.

خلاصة:

تقوم هذه الأبيات على ترسيم معمار شعري تُنقل فيه آثار الحرب من حيز الزمان والمكان إلى داخل الجسد والوعي. إنها تجربة لا تنتهي بانتهاء المعركة، بل تظل تنهش النفس والجسد معًا، كما في استعارة "الغبار" و"العينان بلا أفق". هنا تتجلى الحرب لا كحدث تاريخي، بل كزمن داخلي مستمر، يُحوّل الإنسان العائد ذاتًا تُصارع ماضيها في كل لحظة ليل.

المقطع الخامس: تمازج الواقعية بالرمزية السريالية:

وشقوقُ يديهِ تتساءلُ

عن Nivia cream

في صدر امرأةٍ عاريةٍ

تتمدَّدُ فوق فراش الرغبةِ

في الأحلامْ .....

يمكن تأويل هذا المشهد الشعري بوصفه مثالًا مركّبًا على تمازج الواقعية بالرمزية السريالية، حيث يخلق الشاعر توتّرًا شعريًا يعبّر عن الهوة بين الرغبة والحرمان، ويعيد مساءلة بنى القيم الجمالية والاجتماعية ضمن سياقٍ معاصر. النص يشتغل على ثنائية الجسد/الرغبة والحرمان/القهر، محوّلاً الرموز اليومية إلى أدوات تفكيك للواقع الاجتماعي.

1- "شقوق اليدين" – رمز العمل والحرمان: يمثل تعبير "شقوق اليدين" بعدًا واقعيًا يحيل إلى المعاناة الجسدية الناتجة عن الفقر والعمل اليدوي القاسي. غير أن هذه الصورة لا تكتفي بالإشارة إلى البعد الفيزيائي، بل تتحول إلى أثر رمزي يدلّ على جراح أعمق في الكرامة الإنسانية، وعلى ماضيٍ مثقل بالتجربة القهرية. تتحول اليد – أداة الفعل والإنتاج – إلى وثيقة مرئية للخذلان الاجتماعي، حيث الجسد يصبح حاملًا لتاريخ الاضطهاد الطبقي.

2- عن Nivia cream

– ترف مستحيل ورغبة مقموعة: إن استحضار منتج تجميلي غربي مثل "Nivia cream" داخل نص شعري عربي تقليدي التكوين، يمثّل خرقًا متعمدًا لأفق التوقّع وكسرًا لتراتبية الصور الشعرية المعتادة. هنا، لا يُذكر الكريم بوصفه غرضًا ماديًا فقط، بل يتحوّل إلى رمز للرغبة المؤجلة، بل ربما إلى استعارة عن الحلم بالراحة، بالترف، بالأنوثة كما تُسوّق في الثقافة الغربية. حضور هذه العلامة التجارية في سياق الفقر يمنحها دلالة عبثية: الرغبة غير موجهة إلى المرأة ذاتها، بل إلى "الكريم" الذي يعبر عن بُعد استهلاكي غير متاح، مما يُنتج انزياحًا في مركز الرغبة من الجسد إلى الرمز.

3. "في صدر امرأة عارية" – التوتر بين الجسد والرمز: يقدّم الشاعر جسد المرأة – عاريًا – لا بوصفه موضوعًا للرغبة بحد ذاته، بل كفضاء يتم فيه تموضع الحلم. المفارقة أن الرغبة لا تتجه نحو الجسد مباشرة، بل إلى شيء ثانوي موجود عليه: الكريم. بهذا التوجيه، تتحوّل المرأة إلى مرآة تعكس حاجة الشاعر لا إلى العلاقة، بل إلى التعويض؛ التعويض عن الفقر والخذلان والتشييء. الجسد الأنثوي هنا ليس بؤرة الشبق، بل إطارًا لرغبة ضائعة في منتجٍ استهلاكي يعجز الإنسان عن بلوغه.

قراءة شمولية:

يُشكّل هذا المقطع نموذجًا لما يمكن تسميته "سريالية الحرمان"، حيث تُمزَج مفردات الواقع القاسي بعناصر سوريالية متخيلة، فتُنتج حالة من المفارقة التجربة الذاتية العميقة. يتقاطع النقد الطبقي مع النقد الثقافي في هذا المقطع، حيث يظهر المنتج الغربي بوصفه رمزًا للمُحال في واقع عربي مسكون بالعوز والذل. واللافت أن الرغبة، في هذا السياق، لم تعد غريزية بحتة، بل غدت مشوّهة، مَرضيّة، تائهة، تبحث عن تجسدٍ رمزيٍ للكرامة ولو في منتج تجميلي.

المقطع السادس: يظل الماضي جرحًا مفتوحًا يلاحق من عاشه.

عندَ مساءٍ مظلمْ

في البارٍ الغافي

في حضنِ شارع الرشيدْ

بمقابل سينما الزوراءْ

جلسَ بجواركَ عندَ المائدةِ

ذاكَ الجنديُ،

وكؤوسُ البيرةِ (الدرافت) عامرةٌ

حتى آخر نبضٍ في الرأسْ،

أقراصُ الڤاليوم المستوردةُ

من شركاتِ بلادِ القاتلِ

ودهاليزِ تجار الحربْ

خارج صلاحيةِ النوم

في هذه الأبيات، يرسم الشاعر مشهدًا شديد الواقعية والمرارة، مشبعًا بالرموز التي تُلامس وجدان الإنسان في زمن الخيبة، حيث تختلط تفاصيل المكان واللحظة بحمولة تاريخية ونفسية كثيفة.

"عند مساءٍ مظلم": الافتتاح الزمني هنا ليس توصيفًا للوقت فحسب، بل إيحاء لحالة الاغتراب النفسي يتراجع فيها الضوء، وتطفو على السطح مشاعر الوحدة والانطفاء الداخلي. هو المساء الذي لا يهب الراحة، بل يُغرق النفس في قتامتها.

"في البار الغافي": البار ليس ملهى، بل محطة إنسانية للهروب المؤقت من واقعٍ خانق؛ إنه ملاذ المرتجفين من الحروب والقلق، مكان لا يزدهر بالضوء بل يغفو على أنين المتعبين.

"في حضن شارع الرشيد بمقابل سينما الزوراء": يُسند المشهد إلى ذاكرة المدينة؛ شارع الرشيد ليس مجرد عنوان، بل ذاكرة معمّدة بالمجد والتاريخ. وسينما الزوراء هنا تمثل الحنين إلى زمن ثقافي كانت فيه الصورة تعني شيئًا، وكان للفن دور في تشكيل الوعي. هذا التحديد المكاني يُحمّل القصيدة طابعًا شجيًّا، يربط الحاضر المنكسر بماضٍ لا يزال يُقاوم النسيان.

"جلس بجوارك عند المائدة ذاك الجندي": هذا الجندي ليس شخصية محددة، بل صورة جامعة لأرواح أُحرقت في أتون الحروب. لا يحمل وجهًا بعينه، لأن وجهه وجه كل من نجا ولم ينجُ، كل من عاد ولم يعد كما كان. يجلس عند المائدة ليشاركك لحظة صامتة تُحاكي مرارة العيش بعد العاصفة.

"وكؤوس البيرة (الدرافت) عامرة حتى آخر نبض في الرأس":هنا تظهر محاولة يائسة للانغماس في النسيان؛ البيرة لا تُسكر بقدر ما تُحاول أن تضع حاجزًا شفافًا بين المرء وذاكرته، ولكن "حتى آخر نبض" توحي بأن الألم مستمر، وأن كل رشفة ليست هروبًا بل تأكيدًا على عمق الخسارة.

"أقراص الڤاليوم المستوردة من شركات بلاد القاتل": في هذا السطر تتكثف المفارقة المأساوية: فالعلاج يأتي من الجهة نفسها التي صنعت الألم. الفاليوم – رمز الهروب الكيميائي – يُنتج من قبل أولئك الذين يراكمون أرباحهم من خراب أرواح الآخرين. إنها سلعة الهدوء في عالمٍ لا يعرف السكينة.

"ودهاليز تجار الحرب خارج صلاحية النوم": الخاتمة تلقي بكامل الثقل: من يحكم هذا المشهد هم تجار الدم، أولئك الذين لا ينامون لأنهم يستثمرون في استمرار القلق. أما الإنسان العادي، فخارج صلاحية النوم؛ لا أحلام له، فقط سهرٌ يقظٌ يحرس جراحه المفتوحة.

خلاصة وتأمل

في هذه اللوحة الشعرية، يلتقط الشاعر لحظة إنسانية جامعة، حيث يتحوّل المكان العادي – بار وشارع وسينما – إلى مسرح للوجع الإنساني الممتد. لا حاجة إلى الكلمات الثقيلة أو الشعارات، لأن الجندي المرهق، والدواء المُسَكِّن، والكأس الممتلئة، كلها كافية لتقول ما لا يُقال.

القصيدة لا تُدين شخصًا بعينه، بل ترسم ملامح نظام عبثي تُصنع فيه المخدرات الروحية من نفس المواد التي صيغ منها العنف. إنها قصيدة عن الذين لا يملكون صوتًا، فيُشاركونك الطاولة والشراب والخذلان ذاته.

المقطع السابع (الذروة): البحث المضني عن متنفس وسط ضباب الضغوط.

بينَ أصابعهِ المرتعشهْ.

البيرةُ كانتْ باردةً،

الجو الخانقُ يقطعُ أنفاسَ محاربنا،

الروادُ زبائنُ خارجَ هذا العالم.

يعرقُ صاحبُكَ الجالسُ بجواركَ

يغنّي....

في هذيانٍ....

مثلَ هذيان المحمومِ

في مستشفى الأمراضِ الصدريةِ.

يُبرز هذا المقطع مشهدًا شعريًا غنيًا بالصور الحسية والرموز التي تكشف عن حالة نفسية وجودية معقدة، تتمثل في توتر داخلي واغتراب نفسي وسط أجواء حياتية يومية تفرض ضغوطًا خانقة على الذات الإنسانية.

1- "الأصابع المرتعشة " تجسيد للتوتر النفسي والجسدي. يبدأ المقطع بتفصيل جسدي بسيط، لكنه يحمل دلالة عميقة؛ إذ تُبرز الأصابع المرتعشة حالة من القلق والخوف، وهو توتر جسدي يعكس اضطرابًا نفسيًا داخليًا، وكأنه صرخة صامتة تعبّر عن اضطراب روحي مستمر.

2- "البيرةُ كانتْ باردةً،" برودة البيرة فقدان الدفء العاطفي. يتحول مشروب مألوف إلى رمز لانعدام الحنان والراحة النفسية. وصف "البيرة كانت باردة" لا يعبر فقط عن حالة حرارية، بل عن برودة عاطفية وانقطاع التواصل الإنساني، مما يعكس حالة من العزلة والاغتراب في وسط مألوف لكنه فاقد للحياة.

3- "الجو الخانق وقطع الأنفاس" تصوير رمزي للضغوط والتوتر النفسي. تُعبّر عبارة "الجو الخانق يقطع أنفاس محاربنا" عن شعور الاختناق، ليس فقط الجسدي، بل الوجودي. الشخص "المحارب" لا يرمز إلى نصر، بل إلى صراع مستمر ومتعب ينهك الروح، حيث تتحول أبسط الحقوق الإنسانية مثل التنفس إلى معركة.

4- "الرواد كزبائن خارج" العالم الاغتراب في الفضاء الاجتماعي. تشبيه الرواد بـ"زبائن خارج هذا العالم" ينقل إحساسًا بالغربة والانعزال الاجتماعي. الأشخاص في هذا الفضاء لا ينتمون إليه، بل يمرون من خلاله كزائرين أو مستهلكين بلا جذور، مما يعكس شحة التواصل الإنساني والدفء في العلاقات.

5- "عرق الجالس بجانبك تجسيد مرئي للضغط و التعب. عرق الشخص الجالس بجانب المتحدث يرمز إلى إجهاد نفسي وجسدي مزمن، علامة على الضغط المستمر الذي يثقل كاهل الإنسان، حتى في لحظات السكون والراحة الظاهرية، ما يدل على استحالة الهروب من هذا العبء.

6- الغناء في هذيان التعبير عن حالة نفسية مختلطة. الغناء هنا لا يعبر عن الفرح أو الاستقرار، بل هو تصدّر صوتي لحالة هذيان ذهني، كأنّه محاولة لتفجير مشاعر متراكمة أو تحرر من ضغوط نفسية، ما يمنح الغناء بعدًا غامضًا ومتناقضًا.

7- الهذيان الطبي استعارة للحالة النفسية الجسدية المنهارة. المقارنة بين هذيان الجندي وهذيان المريض المحموم في مستشفى الأمراض الصدرية تجمع بين الضعف الجسدي والنفسي، وتُبرز مدى انهيار الذات وافتقادها للسيطرة على الذات والتنفس، مما يشي بفقدان عميق للقدرة على الصمود.

خلاصة:

تشكل الأبيات سردًا شعريًا يعكس التوترات الداخلية التي يعيشها الإنسان في زمن يغلب عليه الاغتراب والبرودة العاطفية. تلتقي التفاصيل اليومية الدقيقة مع معاناة عميقة، مما يصنع حالة متشابكة من الألم النفسي والاغتراب الاجتماعي. كما أن اللغة التصويرية تغوص في مشهد إنساني هشّ يتصارع مع قيد الاختناق الروحي والجسدي، بينما الغناء في خضم الهذيان يظهر كصوت وحيد يعبّر عن الألم المستمر والبحث المضني عن متنفس وسط ضباب الضغوط.

في الليلْ

حينَ ينامُ العالمُ ... ذاكَ .....

فوق سرير الأمنِ

يسهرُ ذاتُ الجندي

في جوفِ صريفتهِ المبنيةِ*

بمخالبِ الجوعِ

وهديرِ اللاأمن

يتساءلُ:

- هل أستبدلُ ثوبَ الحربِ الماضيةِ

بعمائمِهم؟

المقطع الثامن- الأبعاد الداخلية والشعورية للذات: الشاعر بعد الحرب. لا يُقدَّم الجندي هنا كبطل منتصر، بل كإنسان يعيش على هامش الأمن، محاصرًا بأسئلة الهوية والجدوى، وسط عالم يغطّ في نوم جماعي لا يُبالي.

في هذا المقطع، يرسم الشاعر لوحة ليلية خافتة، لكنها مكتظة بالتوتر الداخلي والاغتراب النفسي، من خلال صورة "الجندي أولًا: زمن الصمت وصوت اليقظة

"في الليل، حين ينام العالم" — هي لحظة فارقة لا تنتمي إلى الزمن الكوني المعتاد، بل إلى منطقة خارجة عن الإيقاع العام، حيث يتوقف ضجيج الخارج ليبدأ صخب الداخل. العالم ينام؛ أي أن المجتمعات اختارت النسيان أو الاستسلام، بينما تبقى الذات الفردية، ممثَّلة بالجندي، يقظة في مواجهة الذاكرة والتاريخ.

ثانيًا: سرير الأمن: خديعة الاستقرار: "فوق سرير الأمن" ليست عبارة تُعبّر عن الطمأنينة، بل عن المفارقة؛ فبينما يُفترض أن يكون "السرير" موضع راحة، يصبح رمزًا مقلوبًا لاستقرارٍ مزيّف. إنه الأمان الذي يُبنى على هشاشة، ويُقدَّم كتعويض رمزي لأولئك الذين فقدوا كل شيء. أما الجندي، فلا ينام عليه، بل يسهر فوقه، كما لو أنه حارسٌ لوهمٍ جماعي.

ثالثًا: الصريفة والجوع واللا أمن: الواقع المادي العاري: يصف الشاعر "صريفةً" لا تُبنى بالإسمنت أو الطين، بل بـ"مخالب الجوع" و"هدير اللاأمن". الصريفة ليست مأوى فحسب، بل شهادة على واقع القهر الاقتصادي والاجتماعي. الجوع ليس حالة طارئة، بل بُنية داخلية للمكان. أما اللاأمن، فهو ليس غياب النظام فحسب، بل صوت داخلي دائم يشبه هديرًا لا ينقطع، يُعكر على الجندي أي احتمال للاستقرار.

رابعًا: "هل أستبدل ثوب الحرب الماضية بعمائمهم؟" السؤال المصيري: هوية الجندي وموقعه من السلطة: "هنا، يبلغ الصراع ذروته. "ثوب الحرب" ليس لباسًا عسكريًا، بل كناية عن تجربة وجودية قاسية شكّلت وعي الجندي وجرّحته. في المقابل، تُحيل "العمائم" إلى رمز ثقافي-اجتماعي يشير إلى سلطة جديدة تسعى لفرض شكل من أشكال الامتثال أو إعادة تشكيل الهوية الفردية ضمن قالبها الخاص.

 السؤال ليس عن مجرد تبديل مظهر، بل عن مصير: هل يتخلى الإنسان عن تاريخه الشخصي ليذوب في شكل من أشكال التماهي الجماعي الذي قد يمنحه الأمان لكنه يسلبه ذاته؟

إسقاط على الواقع العراقي: الجندي كصورة عن شعبٍ أنهكته الحروب: يأخذ هذا النص أبعادًا أوسع إذا ما قرأناه ضمن سياق العراق المعاصر. فـ"الجندي الساهر" ليس فردًا معزولًا، بل مرآة لشعبٍ بكامله عاش في ظل الحروب، كثيرًا ما وجد نفسه مجرد وقودٍ لصراعات لم يخترها، ولا ناقة له فيها ولا جمل.

الصريفة المبنية بالجوع هي استعارة دقيقة لحياة ملايين العراقيين في أطراف المدن، ممن دُفعوا دفعًا إلى حروب لم تكن لهم يد في إشعالها، ثم تُركوا في مواجهة تبعاتها وحدهم.

أما "العمائم"، فليست بالضرورة رمزًا دينيًا، بل قد تشير إلى سلطات ما بعد الحرب، التي رفعت شعارات العدالة لكنها أسست لنظام جديد من التبعية والانقسام، وسعت لإعادة تشكيل الوعي الجمعي على أسس طائفية أو فئوية. وهنا يطرح النص تساؤلًا حادًا:

 هل المطلوب من الإنسان أن ينسى الحرب، بكل مرارتها، ليقبل نظامًا جديدًا يُجبره على الصمت والامتثال مقابل فتات الأمان؟

الخلاصة الأدبية الواقعية

في هذا المقطع، لا يقدّم الشاعر موقفًا سياسيًا مباشرًا، بل يرسم مشهدًا إنسانيًا عميقًا لجندي يقف عند حافة الأسئلة. النص يُدين الحرب، لكنه لا يبرئ ما بعدها. ينتقد الغفلة الجماعية، لكنه لا يلوم الفرد على حيرته. هو نصٌّ عن التمزق، عن شعبٍ كامل مثّلته ذات الجندي، يجد نفسه كل مرة يُعاد تشكيله من جديد، دون أن يُسأل: هل ترغب أن تكون جزءًا من هذا المشهد تكتسي القصيدة بعدًا بلاغيًا ولغويًا متكاملاً يتجاوز مجرد الإخبار؛ فهي مشبعة بالاستعارات و الانزياحات الدلالية التي تكشف عن صراعات داخلية وعلاقة معقدة بين الفرد والواقع. تتنقل لغة القصيدة بسلاسة بين النبرة التقريرية والموسيقية، مما يضفي عليها قوة هجائية وتعبيرية مبهرة.

التحليل البلاغي واللغوي والانزياحات الدلالية في قصيدة "العمائم"

تتسم قصيدة "العمائم" بكثافة لغوية تتجاوز مجرد نقل المعلومات، فتغوص في أبعاد بلاغية مركبة يمزج فيها الشاعر بين الحداثة والسياسية وبين الذات والجماعة. يستعمل الشاعر لغة تتحرر من القيود العادية لتبني خطابًا مفعمًا بالاستعارات والانزياحات الدلالية، مما يعكس حالة اغتراب ذات حائرة في زمن ما بعد الحرب.

الاستعارات المحورية:

"هذيان المحموم": استعارة تُعبّر عن اضطراب داخلي عنيف كأن الذات تعاني من حمى مستمرة، في تجسيد للتوتر النفسي والانقسام بين الذاكرة والواقع؛ لغة الألم الذي يستحيل كتمّه.

"صريفة مبنية بمخالب الجوع":

صورة تصويرية تختزل قوة الفقر الذي يتجاوز الإيذاء الجسدي ليعيد تشكيل المكان ذاته؛ إذ تُبنى الصريفة هنا ليس بالحجارة، وإنما بألم الجوع ورمزيه القاسية.

"هدير اللاأمن":

تعبير يصور حالة القلق المستمر كضجيج داخلي لا ينقطع، حتى في لحظات السكون، مما يُبرز توتر الوجود الذي يعتري النفس.

"تغريد الأطياف":

مفارقة شعرية يمنحها الشاعر صوتًا غير معتاد؛ حيث تتردد أصوات الماضي في الحاضر كأنها همسات متلاطمة بين الذكرى والحقيقة، لا تنبع من واقع مادي مُحدد.

الهيكل النصي وبنيته:

الشكل الحر والانتقال الليلي: يعتمد الشاعر على نمط الشعر الحر الذي يتحرر من قيود الوزن والقافية التقليدية، مما يُضفي إحساسًا بحرية السيرورة والانفلات. يتكرر افتتاح البيت بعبارة "في الليل" لتوليد زمن متمدد يعيد إحياء الذكريات المختلطة بين الجنون والحنين.

التنقل الزمني والمكاني: تنتقل القصيدة بسلاسة بين أزمنة الماضي والحاضر، من مشاهد الحرب إلى صخب الحياة اليومية، ومن أماكن محفورة في الذاكرة مثل مقهى حسن عجمي وشارع الرشيد وسينما الزوراء. هذا الانتقال يُشعر القارئ بتلاشي الثبات ليصبح المكان شاهدًا على آلام ومعاناة مجتمع مفكك الهرم.

البنية السلطوية:

تظهر السلطة في القصيدة كمفهوم مهيمن سواء كانت عسكرية أم دينية، حيث يُباع الفرد على أنه مجرد كيان مسحوق تحت نفوذها. يظهر الجندي كرمز لشخص فقد صوته الحر، متوارٍ في خطاب الهيمنة الذي يعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء لتبرير القمع.

البنية الكلية:

من خلال هذا البناء العميق، تُمارس القصيدة نقدًا صارمًا للغة السائدة بفك تشفيرها وبناء لغة بديلة تستمد قوتها من الألم والتجربة الفردية المركبة. تتحرر الكلمات من معانيها التقليدية لتلامس واقعًا جديدًا يفوق القدرة على الاستيعاب في ظل لغة مألوفة ومعلبة. إنها رسالة تُشعل التساؤلات دون تقديم إجابات حاسمة، متنقلة بعمق بين صراع الإنسان وآثار العنف على اللغة والحياة.

الخاتمة:

تمثل قصيدة "العمائم" نصًا احتجاجيًا يتجاوز البنية التقليدية للرثاء أو الحنين، إذ تقدم قراءة شعرية نقدية لتحولات السلطة والهوية في العراق. فهي تطرح تساؤلًا وجوديًا مركزًا يكشف مأساة ما بعد الحرب، ويتساءل: «هل أستبدل ثوب الحرب الماضية بعمائمهم؟"، فيكشف بذلك عن انتقال القهر من سطوة العسكر إلى قناع ديني مؤدلج.

من خلال صورها المكثفة، وانزياحاتها الدلالية ورموزها المركبة، تتقصى القصيدة أثر السلطة المتلبسة بالدين في تشويه الوعي الجمعي، وتحويل "التحرير" إلى شكلٍ آخر من القهر المقنن. ليست مجرد وثيقة أسيرة لخيبة فردية، بل هي مرآة تُعرّي الانكسار الجماعي وتُعيد تشكيل الهوية تحت وطأة نظام يفرض أقنعة رمزية زائفة. وترصد القصيدة لحظة الانكسار، وفي الوقت نفسه تُبدع مقاومة عبر اللغة؛ تتحول الكلمات إلى أدوات فعل، مما يجعل القصيدة مساحة افتكاك رمزي من سطوة الماضي والحاضر المزيف.

وفي خضم هذا الخراب، لا ينهض المعنى تلقائيًا من الركام؛ بل يحتاج إلى من "يوقظه" – إلى شاعر أو مثقف قادر على مواجهة الصمت والإنكار، حاملًا صوت كل نفس منهكة وكل ضمير حيّ. هكذا تُثبت "العمائم" أن الشعر لا يزال قادرًا على استدعاء المعنى من تحت الركام، وإعادة تعريف الحرية بوصفها موقفًا لا يُشترى ولا يُفَوَّت.

وبهذا، تُشكّل القصيدة دعوة نقدية وجوهرية لمقاومة كل منظومة قهر مهما ارتدت من أثواب رمزية متجددة، مما يجعلها خطابًا ثريًا يتمرد على أنظمة الهيمنة من خلال إعادة إحياء الوعي الجمعي واستنهاض المعنى الحقيقي للحرية.

***

سهيل الزهاوي – أديب وناقد

في المثقف اليوم