قراءة في كتاب
نزار الديراني: صراع القادة ومأساة الشعب.. للأستاذ منصور صادق يوسف
صراع القادة ومأساة الشعب – الحزب الشوعي العراقي نموذجا
منذ الوهلة الاولى وقبل تصفّحك لمضمون الكتاب تحيلك عتبته - بعنوانه ولوحته المتخم بالإيحاءات والألوان الداكنة بوصفها العتبة النصية الأولى، فهي مفتاحًا تأويليًا يفتح أفق التلقي من خلال ما يضعه الكاتب منصور صادق (ناصر عجمايا) بين يدي قارئه مضامين ودلالات ومفاتيح كثيرة لعالم السياسة و خصوصا في العراق، ثم يحيلك الى تأويل يدفعك للسير فيه عبر مسيرة طويلة تمتد لعشرات السنين وانت تجد نفسك أمام أبواباً مستعصية على الفتح رغم أنه حاول أن يكون كاشفا من خلال كشفه عن تداخل ذاته مع العالم المحيط بها فيستحضر من عصارة ذاكرته موضوعات العزلة والتحول النفسي وعن معانات شريحة سياسية دفعت ثمنا غاليا بسبب سياسة الحزب الشيوعي المنتمي اليه والتي كان يرسمها قادته المنغمسون في الصراع بينهم (اليمين واليسار – كما سماهم) وصراعهم مع قادة حزب البعث تارة وفي الاخرى مع قادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني.. ومن الجهة الاخرى الصراع بين قادة حزب البعث والديمقراطي الكوردستاني ومن نتائجها كم هائل من الشهداء ومأساة شعب بأكمله.
ولآن لوحة الغلاف هي جزء من العتبة كونها من النماذج الحاوية للرؤى والمضمرات الدلالية فهي تحفز القارئ باتجاه الفعل التأويلي لذا نقول استطاعت الفنانة مريم الحصري أن تجسد هذا الصراع بجدارة من خلال لوحة الغلاف المتجسدة في شاب شيوعي واقف بشموخ حاملا علمه (الحزب الشيوعي) وعلامات وجهه توحي الى مستقبل الحزب وهو ينظر بعيداً ويجسد علامات الغضب والتعب الذي يعانيه والى جانبه يقف شخصان بهدوء يتأملان المستقبل.
في الوقت الذي أشكر صديقي منصور صادق (ناصر عجمايا) اهداءه لي كتابه هذا الصادر عن (دار همسة للنشر والتوزيع) والذي يضم بين دفتيه 545 صفحة قياس B5 أحييه لجرأته وصدقه في وضع النقاط على الحروف بدءً من المقدمة مرورا ببقية صفحات الكتاب من خلال مسيرته ومعايشته لتنظيم الحزب الشيوعي العراقي سواء من خلال مرافقة والده، الذي كان هو الآخر من أنصار الحزب أو من خلال عمله في الحزب سواء في التنظيم الطلابي أو المحلي، حيث استطاع ان ينقلنا في جولة ممتعة لمعايشة مسيرة الحزب والصراعات التي أدت به الى التراجع رغم جماهيره الواسعة كما حمل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي جزء من المسؤولية.
الكاتب في كثير من الاحيان يستشهد بمذكرات رفاق كبار في الحزب كالرفيق توما توماس، الرفيق وردة البيلاتي، الرفيق فخري بطرس، الرفيق شمال عادل، الرفيق د. مهند البراك، الرفيق قادر رشيد، وآخرون كثيرون الذين كانوا في مواقع متقدمة في النظال السري والعلني. ساردا للكثير من الاحداث التي كان الأنصار يقومون بها كاستيلائهم على مخفر شرطة في تلسقف ومصادرة الاسلحة وكذلك استيلائهم على أدوية المستوصف للاستفادة منها في معالجة رفاقهم في الجبل المصابين بمرض الملاريا وغير ذلك. كما حاول تبرئة الساحة الشيوعية من المجازر التي حصلت في ثورة الشواف، إلا أنه دائما يحاول لصق الاخفاقات في الحزب والصراع الداخلي يالجناح اليمين المتطرف في الحزب (كما يسميهم).
كما ان الكتاب يحوي على معلومات مهمة في مسيرة السياسة في العراق كما في النهج الذي أراد الحزب الديمقراطي الكوردستاني تطبيقه فيما يخص الأقليات أسوة بالبعث، ففي الوقت الذي أراد البعث تعريب كل القوميات الصغيرة لصالحه ومن بينها تسجيلهم ضمن القومية العربية مع ابقاء الاختلاف في الدين ولم ينجح، أراد الديمقراطي الكوردستاني تطبيق نفس النهج حين عرض المرحوم مصطفى البارزاني على القائد الشيوعي توما توماس لاقناع (الكلدان والاشوريين) أن يقبلوا كونهم اكراد مسيحيين (كما يقول في ص145).
ومن المعلومات الخطيرة التي أزاح عنها الستار عدم نزاهة الديمقراطية التي استخدمها الحزب الشيوعي في اتخاذه لقرار التحالف الجبهوي مع البعث الحاكم في الاجتماع المصغر للقيادة الذي عقد. حيث عارض 8 أعضاء القرار لصالح 7 أعضاء أيدوا القرار، ولكن بسبب دور المجموعة الكوردية في الحزب (دور السكرتير عزيز محمد – كما يقول) بدفع العضو الكوردي الرفيق أحمد باني ليغير رأيه أعيد التصويت فيما بعد ليحسم القرار لصالح التحالف ب 8عضو مؤيد مقابل 7 معارض متجاهلين رأي القاعدة وحبث قرار كهذا كان يتطلب المزيد من النقاش بدءً من القاعدة ص167.
صراع القادة... الكاتب يسلط عدسته الذاكراتية عبر مسيرته في التنظيم وهو ينتقد خطوات هذا التنظيم الذي يبدو قد عجز (بموجب الكتاب) أن يوفق في مسيرته عن أختيار منهجه التنظيمي من خلال التساؤل هل يبقى معارضا سريا أم أن يقبل بالسير وراء الحزب الحاكم ؟ فتارة يمد الحزب الحاكم أمامه البساط الأخضر وفي الآخرى يشهر سيفه لينال منه، وهذا ما يجسد حقيقة قيادة الحزب حيث انشغلت كثيرا في الصراع الداخلي الى حد (نقلا من قول أحد قادة الحزب – زكي خيري ص245) وجود تيار في اللجنة المركزية موالي للبعث مما دفع اليه صدام حسين ليقول أننا نتحالف مع أعضاء وليس مع الحزب... لذا لم تستطع القيادة (حسب رأيه) من اتخاذ قرار جماعي صائب إما لكونها مسيرة من قبل الاتحاد السوفيتي بما يخدم مصالحه في العراق أو من قبل أحزاب أخرى للشيوعي في سوريا ولبنان وفلسطين و... بتوجيه من الاول أو أن قادته كانوا يقبلون بالتنازل عن حقوقهم من أجل البقاء في مناصبهم من جهة ومن جهة أخرى تقليل الأضرار مقابل شراسة الحزب الحاكم. وهذا الاحتمال يجسده من خلال ص246.
صراع القادة.. يجعلك تعيش حياة الجبل ومعانات الانصار في هذه الجبال متنقلين هنا وهناك، يزرعون الارض ليسدوا رمق جوعهم ويخيطون ملابسهم لتقليل نفقاتهم.. أبطال يتسلقون الجبال ويمشون في الوديان في الليل، يدافعون عن أنفسهم من الكمائن المنصوبة أمامهم... والادوية والأغذية الفاسدة والتي كان الجهاو الأمني يرسلها اليهم عبر عملائه في التنظيم.
هذا الكتاب يكشف لنا ما كان يجري في الجبل من صراعات داخلية بين الفرقاء، وهذا ما انعكس على الحزب الشيوعي، حيث اضطر أن يتصارع مع نفسه لتحديد الجبهة التي عليه ان ينتمي اليها، أعليهم التحالف مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني أم مع الاتحاد الوطني الكوردستاني ؟ أعليهم ان يكونوا مع الفريق الداعي للتفاوض مع السلطة الحاكمة أم أن يكونوا مع الكفاح المسلح ؟؟؟ اتخاذ القرار في هكذا أجواء ليس سهلا....
وختاما نقول : كان كتابه هذا شهادة حيّة عن رحلة روحية ونفسية مليئة بالتأملات السياسية مستفيدا مما دونوه رفاقه بالحزب ممن كانوا يتبؤون مراكز متقدمة لذا كانوا أكثر قربا منه لمعرفة ما كان يجري، فجاء الكتاب كمدخل أسلوبي يعكس التوتر والتداخل بين العمل السياسي السري والعلني عاكسا لحالة وجودية تربط بين الحاضر والماضي، بين الاستقرار والاضطراب.
هذا الكتاب يقدم لك زبدة تجربته وشهادته وأفكار العديد من الرفاق الذين واصلوا المسيرة ودونوا شهاداتهم لذا الكتاب هو مزيج ما بين المذكرات والرؤية الناتجة من طرح وتحليل آراء غيره ممن سبقوه في كتابة مذكراتهم.
فعلا تمتعت بقراءة الكتاب كونه كان رحلة جميلة عشت معه (الكتاب) النظال السري والكفاح المسلح... لم يبقى لي الا أن أشكر صديقي على الجهد الذي بذله ليقدم لنا تجربة حزب امتاز بالعمل السري والكفاح المسلح.
***
نزار حنا الديراني






