قراءة في كتاب
طه جزّاع: السيّاب يلتقي طيفاً
تبتكر الكاتبة ميسون عوني نمطاً جديداً من الحوارات الصحفية والأدبية مع شعراء وأدباء رحلوا عن دنيانا منذ حقب وعقود طويلة، لكنها تبعثهم من جديد عبر طيف يحاورهم هو طيفها الذي يطرح الأسئلة حول تفاصيل متنوعة ومثيرة من سيرهم وابداعهم وحكاياتهم مع الأصدقاء والناس والحياة. وضمن هذه الفكرة المُبتكرة أصدرت خلال السنوات السبع الأخيرة كتاب " أبو العلاء يلتقي طيفاً "، و"محمود درويش يلتقي طيفاً "، و"جبران يلتقي طيفاً "، وآخرها "بدر شاكر السيّاب يلتقي طيفاً " وكلها صادرة عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع في عَمان وبغداد .
تحاول عوني في كتبها هذه أن تخرج من النسق التوثيقي الجامد للشخصيات التي تختارها، وتحرص على بث الحيوية والمتعة في حواراتها معها حتى لتبدو تلك الحوارات وكأنها أجريت في أيامنا الراهنة لما فيها من تدفق واثارة وتفاصيل قد لا تكون معروفة عن تلك الشخصيات، مثلما عززت كتابها الأخير عن السياب بتواصلها مع غيلان نجل الشاعر الذي قدم لها ملاحظات واضافات مهمة " أغنت صفحات الكتاب بما يتناسب والجهد المبذول لتحقيقه"، وفق تعبيرها. وكان لافتاً ان تهدي الكتاب الى الشاعر الكويتي علي السبتي الذي حمل ورافق نعش السياب من المستشفى الأميري حتى أوصله إلى مثواه الأخير في البصرة، ومن الأمور الجديدة ان غيلان بدر شاكر السياب قد صحح للمؤلفة تاريخ ميلاد والده وجعله 1927 بدلا من العام 1926 كما هو متداول في اغلب المراجع عن حياة الشاعر.
يبتدأ طيف ميسون عوني بمرافقة السيّاب ومحاورته وفق مراحل حياته، منذ اللقاء الأول في جيكور بالبصرة، وهو يتذكر بحزن أمّهُ: " وكان تعلّقي بها شديداً، وكنتُ أرافقها لزيارة جدّتي والدتها في جيكور، أو لتزور عمّةً لها تسكن عن نهر بويب أيضاً ولها على ضفتّه بستان جميل، فتشكَّل في قلبي عالمٌ حملته معي أينما ذهبت وكيفما حللت".
ينهي السياب دراسته الثانوية لينتقل إلى بغداد عام 1943 طالباً في دار المعلمين العالية، ويلاحقه الطيف وهو يتعرف على بغداد، وفراشات دار المعلمين، وفي مقهى الزهاوي، وعلى خفقات دجلة حيث لميعة تطل من الشرفة، وشارع أبي نواس، ولقاءات للطيف اقرب للهمسات مع شاذل طاقة، وخالد الشواف، وجبرا إبراهيم جبرا، وانتماء بدر للحزب الشيوعي العراقي : " وجاءت الشيوعيّة تنادي بالعمل للجميع والطعام للجميع والمساواة بين البشر، وكنتُ أحد المنتمين إلى هذا الشعار الأخّاذ الذي يطمح إليه الإنسان الحرّ للعيش الكريم"، ويكشف السيّاب أن عمه الأكبر كان من أقطاب حزب لا ديني تأسس في جيكور، وكان من الذين يترددون عليه في معتكفه بغرفة الضيوف الرفيق فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، كما يشير السياب إلى أن فصله من دار المعلمين العالية خلال الأشهر الأولى من عام 1946 اقترن بانتمائه للحزب.
يمضي طيف الكاتبة إلى محطات أخرى من حياة السياب ومراحل تطور شعره، ومنها زيارة لشارع المتنبي، وبين الجاحظ والسياب، ونازك الملائكة، وغريب على الخليج، وأنشودة المطر، والسفر إلى الكويت، وما بين هذا وذلك، زواج بدر، ومقابلة إنعام كجه جي مع لمعان البكري، وحوار مع السيدة إقبال السياب تقول فيه عن زوجها: " أقدر أن أصف فرحته بأولاده، وكانت ولادة غيلان هي الحد الفاصل في حياتنا، وكلمة بابا من أولاده لها وقعٌ كبيرٌ على قلبه". يصف علي السبتي ما جرى بعد وفاة السياب في المستشفى الاميري بالكويت: ثم باشرنا في تحضير الجثمان ووضعناه في سيارة، واتجهتُ مع الشاعر محمد الفايز لصوب البصرة لتسليم الأمانة وقد خيَّم الصمتُ علينا، غلبنا الحزن، وأضاع حتى كلمات المواساة، والسيارة تنهب بنا الأرض، وفجأة حدث مالا يخطر على البال .. رشَّ المطر مِزْنَة، ثم انهمر سيلاً جارفاً، كأن المزاريب شقت الدروب سواقي كأنها تعرف بأنها تودع ارتعاشة أنشودة المطر.
تعتمد ميسون عوني على مراجع ومصادر ومذكرات ومقابلات كثيرة عن الشخصيات التي يلتقيها طيفها، لا تفوتها في ذلك شاردة ولا واردة، تقدمها بنمط مغاير لا يشبه الدراسات الاكاديمية في قوالبها التقليدية. إنها تصنع كتابا مثيراً، وتجري حواراً ممتعاً، وتخلق طيفاً كأننا نعيش معه، ونشاركه الحوار مع شخصيات من العالم الآخر، مازالت تثير ألف سؤال وسؤال .
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي