قراءة في كتاب

مرتضى السلامي: النقد الثلاثي كمنهج لفهم الذات والعالم في الفكر العربي

نواصل رحلتنا في استكشاف رؤى الدكتور عبد الإله بلقزيز، ونتعمق في شخصية تمثل علامة فارقة في تاريخ ثقافتنا الحديثة: أحمد فارس الشدياق. ففي الفصل السادس من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة"، لا يقدم المؤلف عرض لسيرة الشدياق، بل يحلل بعمق منهجه النقدي الفريد في تعامله مع إشكالية "الأنا والآخر". إن الشدياق، في هذا التحليل، لم يكن مجرد ناقل أو منبهر، بل كان مفكراً يمتلك بصيرة نقدية ثلاثية الأبعاد، استخدمها لفحص الذات والآخر والعلاقة بينهما.

فرادة الشدياق: ما وراء الانبهار والرفض

يستهل بلقزيز بتأكيد "فرادة الشدياق" مقارنة برفاق دربه من النهضويين. فبينما اشترك معهم في الاهتمام بأوروبا ووصف مجتمعاتها، تميز عنهم بقدرته على تجاوز "الاندهاش الدراماتيكي" الذي طبع نظرة الكثيرين، بمن فيهم رفاعة الطهطاوي. يوضح بلقزيز أن الشدياق كان "أقل انبهاراً بمعطيات المدينة الغربية من الطهطاوي، وأكثر نقدية تجاهها". هذا الاستعداد النفسي والثقافي، المدعوم بتجربة معايشة أطول وأوسع في أوروبا، مكّنه من تفعيل حاسة نقدية أعمق وأكثر توازناً.

ولعل أبرز تجليات هذه الفرادة تكمن في علاقته الجدلية بالموروث الثقافي العربي. فهذا الحداثي بامتياز، لم يتردد في إظهار شغفه العميق بالتراث، خاصة اللغوي والأدبي، بل وسعى لبيان وجوه الحداثة "فيما عُدَّ تقليداً". هذا الجمع بين الاندفاع نحو الحداثة والولع بالقديم، يفسره بلقزيز ليس بازدواجية في الشخصية، بل بـ"نزعته النقدية الحادة" التي أخضع بها كل شيء، تراثاً كان أم حداثة، للتمحيص والمساءلة. وقد سمح له هذا "النقد المزدوج (للتراث والحداثة)... بإنتاج مقالة ثقافية متوازنة نَدَرَ أن كان لها نظائر في الثقافة العربية المعاصرة التي حَكَمَها التوتر بين خطابين انبهاريين غير نقديين: خطاب النرجسية الذاتية الأصالي وخطاب الانشداه الاتباعي الحداثي". ولا ننسى هنا إشارة بلقزيز إلى قدرة الشدياق اللغوية الفذة، التي جعلت مارون عبود يقول: "إن من شاء أن يؤلّف في اللغة بعد الشدياق فليستح".

النقد الثلاثي: منهج الشدياق في استجلاء الحقائق

إن جوهر مساهمة الشدياق، كما يراها بلقزيز، تتجلى في ممارسته لما يمكن أن نسميه "نقداً ثلاثي الأبعاد" في مقاربته لجدلية الأنا والآخر. هذا النقد لم يكن أحادي الاتجاه أو منطلقاً من موقف أيديولوجي مسبق، بل كان حركة دائرية تتنقل بين الذات والآخر، وتفحص كليهما من زوايا متعددة.

نقد الأنا في مرآة الآخر

لم يتورع الشدياق، وهو العاشق للغته وتراثه، عن استخدام أوروبا كمرآة تعكس مواطن الضعف والتقصير في الذات العربية. فمن خلال المقارنة الصريحة أحياناً، والضمنية أحياناً أخرى، كشف بمرارة عن حجم التخلف في مجالات كالتعليم، والأمن، ومعاملة المرأة، والقيم الاجتماعية كالأمانة والصدق واحترام الوقت والمسؤولية. لم يكن هدفه مجرد جلد الذات، بل كان هذا النقد، الصادر عن حسرة عميقة، بمثابة جرس إنذار، ودعوة لاستنهاض الهمم وتدارك ما فات. إن اعترافه الصريح بسبق الأوروبيين وتفوقهم في تنظيم الدولة والحرية والصناعة والعلم، وحتى في منظومة القيم الاجتماعية، كان جزءاً من هذه الوظيفة التنويرية التي أرادها لكتاباته.

نقد الآخر في مرآة الأنا

لم يكن الشدياق مجرد معجب سلبي بالغرب أو ناقد عدمي لذاته. بل مارس أيضاً الوجه الآخر للمقارنة، حيث انتقد جوانب من الحضارة الأوروبية، وأحياناً بمقارنتها بما يراه من قيم إيجابية في التراث العربي أو الذات الشرقية. هذه "المفاخرة" لم تكن مجرد مكابرة نهضوية ضد الاعتراف بالهزيمة، بل كانت أيضاً محاولة لتقديم صورة أكثر توازناً للغرب، وللتأكيد على أن للحضارة العربية الإسلامية إسهاماتها وقيمها التي لا يجوز طمسها. انتقد الشدياق مظاهر كالتحلل الأخلاقي في بعض المدن الأوروبية، وجهل العامة، ودور بعض المؤسسات في التجهيل، والفقر، وبعض القيم المتخلفة. يرى بلقزيز أن هدف الشدياق من هذا النقد لم يكن رفض الحداثة الأوروبية، بل "تقديم أوروبا كما هي، بتناقضاتها وبعجرِها وبجرها، من دون تبشير أو أَسْطَرَة". والأهم، كان يهدف إلى بيان أن تلك الحداثة هي ثمرة جهد إنساني عام كان للعرب فيه كبير نصيب، مما يجعل الأخذ بمعطياتها فعلاً أصيلاً ومشروعاً.

نقد الآخر في مرآة نفسه

لعل هذا هو البعد الأكثر عمقاً ودلالة على موضوعية الشدياق ونزعته النقدية الشاملة. فهو لم يكتف بمقارنة الشرق بالغرب، بل مارس نقداً داخلياً للآخر الأوروبي، بمقارنة مجتمعاته ببعضها البعض. هذا "النقد لأوروبا من داخل منظومتها"، كما يشير بلقزيز، هو ما يدحض أي اتهام للشدياق بالتحيز المسبق أو الانطلاق من عقدة المقارنة مع الذات الشرقية فقط.

فعندما يضع مالطة في ميزان المقارنة مع إنكلترا، يرتفع مقام الأخيرة ويهبط رصيد الأولى. ولكن صورة إنكلترا نفسها، رغم إعجابه بها، "سرعان ما تهتز فتصاب بالشروخ حين يقرأ ملامحها في مرآة فرنسا". فقد بدت له فرنسا أرقى وأكثر مدنية وتحضراً في معظم عناصر المقارنة، من فن الطبخ إلى الأناقة المدينية والمعمارية، ومن أدب النساء وكياسة العامة إلى الغناء، مقابل ما رآه من "بلادة" لدى الإنكليز وتقليدهم للفرنسيين في بعض الجوانب. هذا التفضيل لفرنسا لم يكن هوىً ذاتياً، بل نتيجة لتأمل مقارن، يرى فيه الشدياق النموذج الفرنسي أكثر تحقيقاً لمُثُل الحداثة.

خلاصة رؤية الشدياق: نحو وعي نقدي مركب

إن أهم ما يستحق استنتاجه من تحليل بلقزيز لتجربة الشدياق، هو أن "صورة أوروبا (الآخر) في وعي أحمد فارس الشدياق ما كانت نمطية على أي نحو من الأنحاء... كانت هذا وذاك، متعددة، مكتنزة بالتناقض وأحياناً بما يبعث على الشعور بالمفارقة". لقد تطورت رؤيته عبر تجربته المديدة، وكانت دائماً رؤية نقدية ديناميكية، تقوم على المقارنة المستمرة.

فالشدياق، من خلال هذا النقد الثلاثي الأبعاد، قدم نموذجاً للوعي النهضوي الذي يتجاوز الاستقطابات الحادة. هو لم يسقط في فخ تمجيد الذات بشكل أعمى، ولم يستسلم للانبهار المطلق بالآخر. بل استطاع، بفضل نزعته النقدية الأصيلة، أن يرى مواطن القوة والضعف في "الأنا" و"الآخر" على السواء، وأن يقدم صورة مركبة للواقع، تدعو إلى فهم أعمق وتفاعل أكثر نضجاً مع تحديات العصر. إنه يمثل، في قراءة بلقزيز، إمكانية حداثة عربية نقدية، قادرة على الانفتاح دون ذوبان، وعلى التمسك بالذات دون انغلاق، وهي الإمكانية التي ربما افتقدتها أو أهدرتها الكثير من التيارات الفكرية التي جاءت بعده.

***

مرتضى السلامي

.......................

ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (7)

في المثقف اليوم