قراءة في كتاب
فؤاد الحبشي: جدلية الثقافة والمثقف

في زمن تزداد فيه الحاجة إلى إعادة التفكير في أدوار الفاعلين الثقافيين، يطلّ علينا الباحث والأستاذ سلمان الحبيب بكتابٍ نوعيّ يحمل عنوان "جدلية الثقافة والمثقف"، مقدّمًا قراءة نقدية عميقة وواعية للواقع الثقافي العربي، عبر عدسة فلسفية واجتماعية تنبض بأسئلة جوهرية قلّما تُطرح في سياقنا المعرفي العربي.
ابتداءً من الصفحات الأولى، يؤسس المؤلف لفهم مغاير لمفهوم الثقافة. فهي ليست - كما درج الكثيرون على تصورها - مجموعة نصوص أو تراكمات معرفية، بل هي منظومة حيّة تشمل القيم، والممارسات، والرموز، والعلاقات التي تشكّل نسيج الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات. الثقافة، في هذا المنظور، كائن حيّ، يخضع للتحوّل والتفاعل مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يجعلها أداة ديناميكية، قادرة على أن تكون حافزًا للتغيير أو عائقًا أمامه.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى تفكيك البنية الداخلية للثقافة، من خلال تقسيمها إلى أربعة أنماط: الثقافة العضوية، الثقافة الإنتاجية، الثقافة الانعزالية، والثقافة المحافظة. فالثقافة العضوية، كما ذكرها المؤلف، تنبع من المجتمع ذاته وتعكس روحه وهويته. أما الإنتاجية، فترتبط بالفعل الإبداعي والتجديدي، وتُعدّ شرطًا من شروط النهضة والتقدّم. في حين أنّ الثقافة الانعزالية - والمفارقة هنا عميقة - يربطها بنوع من الوعي الفردي العالي، مستشهدًا بقول دوستويفسكي "مختلفًا ولو صرت وحيدًا"، ليؤكد أنّ المثقف الحقيقي غالبًا ما يُدفع إلى هامش المجتمع بسبب تفكيره المختلف.
أما الثقافة المحافظة، فهي بحسب توصيف المؤلف، ثقافة تُدافع عن ثوابتها بشكل دوغمائي، وترفض النقد والتغيير، مما يجعلها غير قادرة على التجدد أو التفاعل مع العصر.
لكنّ ما يميّز الكتاب حقًا، هو اهتمامه البالغ بتحديد موقع المثقف من كلّ هذه التفاعلات. المثقف، ليس ناقلًا للمعرفة فقط، بل هو عنصر فاعل في المجتمع، مسؤول أخلاقيًا وفكريًا عن المساهمة في توجيه الوعي العام وصناعة التحولات. إنه ليس مَن يعيش في برجٍ عاجٍ، بل من يحتك بالواقع ويُبقي عينيه مفتوحتين على الجرح والأسئلة.
ويصل الكتاب إلى ذروته في فصله الثاني عشر الذي يحمل عنوان "جدلية ثقافة الحياة وثقافة الموت"، حيث يعيد مساءلة البنى الثقافية التي تكرّس العنف والجمود، مقابل تلك التي تحتفي بالحياة، بالحب، بالمعنى.
جدلية الثقافة والمثقف" لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يزرع الأسئلة في أرضٍ جافة عطشى إلى النقد والوعي. بأسلوبه الرصين، وتحليله المتّزن، ينضم هذا الكتاب إلى قائمة الأعمال الفكرية التي ينبغي أن تُقرأ بتمعّن، لا لأنّها تمنحنا مفاتيح الفهم فحسب، بل لأنها تستفزّنا لنفكر من جديد في أنفسنا، وفي أدوارنا كمثقفين أو كمستقبلين للثقافة.
***
فؤاد الحبشي