قراءة في كتاب
علي حكيم: الدين والظمأ الأنطولوجي

قراءة تأويلية تدمج بين العمق الفلسفي والروحانية
"الدين والظمأ الأنطولوجي" للدكتور عبد الجبار الرفاعي من الأعمال الفكرية الجريئة التي تسعى لاستكشاف العلاقة الجوهرية بين الدين والحاجة الوجودية للإنسان. ينطلق الرفاعي، المفكر العراقي المعروف بانشغاله بالفلسفة الدينية ونقد الخطاب التقليدي، من فكرة محورية تُعيد تعريف الدين ليس كمجرد منظومة عقائدية أو طقوسية، بل كاستجابة للعطش الوجودي العميق للمقدس الذي يختبره الإنسان في سعيه لفهم ذاته والعالم. فالدين، في تعريفه، هو "حياة في أفق المعنى تفرضها الحاجة الوجودية لمعنى روحي وأخلاقي وجمالي في حياة الإنسان الفردية والمجتمعية". كما يُعرِّف الرفاعي (الظمأ الأنطولوجي) على أنه ذلك الشعور بالحاجة المُلِحّة إلى المعنى، الذي يدفع الإنسان إلى التساؤل عن أصل وجوده ومصيره. إنه عطشٌ متأصل في البنية النفسية والروحية للإنسان، يجعل منه كائنًا لا يكتفي بالبُعد المادي للحياة، بل يبحث عمَّا يتجاوزه. هنا، يلتقي الرفاعي مع تيارات فلسفية وجودية، مثل تلك التي طرحها كيركغور وهيدغر، لكنه يربطها بإطار ديني يتجاوز الفردانية الغربية، ليؤكد أن الدين، حين يُفهم بعمق، يُقدِّم إجاباتٍ وجودية تُلامس هذا العطش. يرى الرفاعي أن الأديان، وخصوصًا الإسلام، لم تُخلَق لِتُفرض كقوانين صارمة، بل وُجدت لِتُشبع حاجة الإنسان إلى الانتماء والغاية. فالدين، في تصوُّره، ليس مجرد تشريعات، بل هو (فضاء روحي) يُعيد وصل الفرد بالكون وبالذات الإلهية، مما يمنح حياته معنى يتجاوز الزمني والعابر. ويُحذِّر الرفاعي من اختزال الدين في شكليات تبتعد عن جوهره الوجودي، مما يؤدي إلى أزمة إيمان في عصر يسيطر عليه القلق الوجودي والفردانية.
يناقش الكتاب أيضًا تأثيرات الحداثة على البُعد الروحي للإنسان، حيث أدت العقلانية المفرطة وتفكيك المقدس إلى تفاقم الشعور بالاغتراب الوجودي. في هذا السياق، يطرح الرفاعي سؤالًا جوهريًّا: كيف يمكن للدين أن يعيد بناء جسر بين الإنسان والمطلق في عصرٍ يُشكك في كل اليقينيات؟ الإجابة عنده تكمن في (تفعيل البُعد التعبُّدي الشخصي)، الذي يحوِّل الدين من طقوس جامدة إلى حوار حي مع الأسئلة الوجودية، كالموت والحرية والمسؤولية. يختتم الرفاعي كتابه بدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ليكون قادرًا على مواكبة أسئلة الإنسان المعاصر، دون أن يفقد جذوره الروحية. فالدين، بنظره، يجب أن يكون "ماءً للعطشان"، لا سجنًا لأفكاره. هذا التجديد يتطلب قراءةً تأويليةً تدمج بين العمق الفلسفي والروحانية، وتعيد الاعتبار للبُعد الإنساني في الدين. بهذا، يقدِّم كتاب (الدين والظمأ الأنطولوجي) رؤيةً ثريةً تفتح آفاقًا للحوار بين الدين والفلسفة، وتُعيد الاعتبار لدور الدين كملاذٍ روحي في عالمٍ يزداد تعقيدًا. إنه إسهامٌ مهمٌ في فكرنا المعاصر، يستحق القراءة والتمعُّن من كل باحثٍ عن إجاباتٍ لأسئلته الوجودية الأعمق. يحتوي الكتاب على لمحة من سيرة الرفاعي ومحطات حياته العديدة، بدءًا من قريته وصولاً إلى الإسلام السياسي والحوزة وغيرها. كما تحتوي هذه الطبعة على عدة مقالات نقدية للكتاب، مع ردود الدكتور عبد الجبار عليها. ملاحظة أخيرة، هذه مراجعة غير كافية لكتاب مهم مثل هذا الكتاب.
***
علي حكيم – كاتب عراقي