قراءة في كتاب
محمود محمد علي: القرصنة الامريكية والاغتيال الاقتصادي للأمم (2)
تساءلنا في المقال السابق سؤالا مهما فقلنا: ما الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة في القرصنة على الدول الغنية؟.
يقول جون بركنز دعونا نوضح ذلك من خلال نموذج المملكة العربية السعودية، حيث تبدأ القصة منذ السادس من أكتوبر لعام 1973 وهو ذلك اليوم الذي أطلقت من خلاله مصر وسوريا هجومهم المتزامن على إسرائيل في سيناء والجولان من أجل تحرير ما اغتصبته إسرائيل من أراضيهم، وهذه الحرب رغم أنها كانت تمثل حرب إقليمية، إلا أن أثرها غير التاريخ الأوربي والأمريكي كله، حيث كان تأُثيرها العالمي كاسحا وما زال أثرها للآن كما يقول الكاتب .
ثم يقول جون بركنز بأنه في الوقت الذي كان الجنود المصريين والسوريين ينفذون واحدة من أعقد وأنجح خطط الخداع الاستراتيجي ضد العدو الإسرائيلي، فقد كانت هناك حرب تحدث على نطاق آخر، ولكن بشكل غير عسكري، حيث إن الرئيس المصري "أنور السادات" كان قد طلب من العاهل السعودي آنذاك من " الملك فيصل" مساعدة مصر وسوريا بالرد على الدعم الأمريكي لإسرائيل، وذلك باستخدام ما أطلق عليه السادات "اسم " سلاح البترول" .
وبالفعل حدث في السادس عشر من أكتور كما يقول جون بركنز أن أعلنت إيران ودول الخليج الخمس بما فيها المملكة العربية السعودية، زيادة سعر البترول بنسبة 70%، وهذ أول أثر عالمي كما يرى جون بركنز، لأن هذه الخطة كانت تمثل نهاية عصر النفط الرخيص والذي كان العالم يأخذه من دول الخليج تقريبا بسعر تكلفة الاستخراج وهامش ربح بسيط منذ سنوات وسنوات .
وزراء البترول اجتمعوا في الكويت العاصمة وتباحثوا سويا حيث فكروا في قرارات وإجراءات أشد قسوة، ويذكر جون بركنز مستشهدا من التاريخ كما يقول وهو أن المندوب العراقي كان متحمسا جدا في ردع الولايات المتحدة الأمريكية، ودعا ممثلي الدول العربية الأخرى إلى تأميم المؤسسات التجارية في العالم العربي، وفرض حظر كامل على بيع البترول للولايات المتحدة وكل الدول الأخرى الصديقة لإسرائيل، ودعا لإجراء أشد خطورة وهو سحب المدخرات العربية من البنوك الأمريكية، إلا أن الوزراء العرب الآخرين آنذاك لم يوافقوا على تلك الحماسة التي أبداها المندوب العراقي .
بيد أنه في السابع عشر من أكتوبر كما يقول جون بركنز أخذت دول الخليج خطوة إضافية في فرض المزيد من الحظر المحدود على النفط والذي بدأ بتخفيض الإنتاج من حوالي 5 % كل شهر كنوع من الضغط السياسي، إلا أن بعض الدول الحاضرة كما يذكر جون بركنز قالت أنها ستخفض الإنتاج بنسبة 10 % ومن ضمنهم العراق؛ لأنه كان يوجد اتفاق مبيت على معاقبة الولايات المتحدة عللا دعمها ومساندتها لإسرائيل.
وفي 19 أكتوبر من عام 1973 طلب الرئيس الأمريكي " ريتشارد نيكسون" من الكونجرس مبلغ 2.10 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل، وفي اليوم التالي من هذا القرار كما يقول جون بركنز فرضت الممكلة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية المنتجة للنفط حظر كامل على ناقلات البترول المتجهة للولايات المتحدة، وقد انتهى حظر في 18 مارس عام 1974، وقد كانت فترة الحظر كانت حوالي 5 شهور، ولكن تاثيرها كما يقول جون بركنز كان مفزعا، حيث تضاعف سعر البترول للبرميل الواحد حوالي 6 مرات بعد الحظر .
وهنا يؤكد جون بركنز أن رجال السياسة والاقتصاد الأمريكان أخذوا دراسا لا ينسى، وبناء على هذا الدرس ظهرت مواقف وسياسات جديدة وشديدة الأهمية، وهنا يقول جون بركنز إن إمريكا ذات القوى العظمى لن تتسامح مرة أخرى مع هذا النوع من الحظر، خاصة وان حماية مصادر أمريكا من البترول تمثل مسألة أمن قومي بالنسية لها وذلك منذ اكتشاف النفط في الخليج، ولكن بعد حرب السادس من أكتوبر تحولت حماية البترول إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة لأمريكا .
إن حظر البترول كما يقول جون بركنز قد رفع من مكانة المملكة العربية السعودية سياسيا، حيث حولها إلى لاعب أساسي في عالم السياسة، وواشنطن قد فهمت تلك الأهمية الاستراتيجية الجديدة والتي أضحت تمثلها السعودية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، حيث الكيانات الاقتصادية والبنوك والشركات التجارية العملاقة التي تقود الولايات المتحدة كانت لا تألوا جهدا في تعويض خسارتها، والسعودية في تلك المرحلة كانت لا تزال دولة ناشئة، وتعاني من نقص في الكوادر، وفي الهيكل التنظيمي والإداري .
نعم إن السعودية كما يقول جون بركنز لديها ثروة ضخمة جدا نتيجة لصادراتها النفطية والتي تضاعف بشكل مذهل، كما صار لها مكانة سياسية قوية أثبتتها أزمة البترول أثناء حرب السادس من أكتوبر، ولكن كما يقول جون بركنز ينقصها أمور كثيرة، وهذا النقص يمثل بالنسبة للإدارة الأمريكية يمثل فرصة واعدة، ولكونها كذلك فقد بدأت واشنطن كما يقول جون بركنز بعد انتهاء الحظر مباشرة في التفاوض مع السعودية، وقد أدت هذه المفاوضات إلى إنشاء اللجنة السعودية – الأمريكية المشتركة للتعاون الاقتصادي .
وهذا اللجنة كما يقول جون بركنز "قدمت مفهوما جديدا لبرامج المساعدة الأجنبية، حيث استعانت بالشركة التي كنت أعمل فيها لعمل دراسات، وهذه الدراسات كان غرضها هو وضع استراتيجية لتعزيز التعاون مع السعودية مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة من خلال الشركات الأمريكية الكبرى ".
وهنا يقول جون بركنز إن السعودية" هنا تمثل حالة مختلفة وليس من اللائق أن تثقل بالديون كما يحدث في الدول الفقيرة، ولكن المطلوب هو زيادة التشابك بينها وبين الاقتصادي الأمريكي، وهو أنه يتم تحويل السعودية لنموذج في المنطقة العربية للأِسلوب الغربي" .
وجون بركنز كان يري أنه من الفرص العظيمة تكمن في السعوديين لديهم مشكلة في التخلص من القمامة، وهذه كانت البداية لتحقيق الفوائد المتبادلة من خلال استحضار شركات أمريكية متخصصة لجمع القمامة والتخلص منها بأحدث الطرق التكنولوجية، وهذا سيجعل السعودية فخورة بتلك النقلة التكنولوجية ومن ثم تحقق الشركات الأمريكية أرباحا .
وهنا يقول جون بركنز بأن رجال الاقتصاد القائمين على منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك، كانوا دائما يؤكدون على حاجة الدول النفطية إلى إنتاج المزيد من المشتقات البترولية، وذلك لتعظيم القيمة المضافة، ويزيدوا من دخلهم المادي بدلا من التصدير فقط لبترول خام، وهذا يمثل تفكير منطقي جدا، إلا أن خطة بهذا الشكل لكي تطبق كما يقول جون بركنز تحتاج إلى شبكة طرق سريعة للنقل والتوزيع، ووخطوط أنابيب للبترول، ومحطات توليد كهرباء ضخمة جدا، وشبكات اتصال، ومطارات ومواني جديدة، ناهيك عن تطوير القديم من كل ذلك، وكذلك لا بد من استقطاب عدد ضخم من العمالة الأجنبية .
وبمعني أبسط كما يقول جون بركنز فإن الدول النفطية لكي تتحول من دول منتجة للبترول إلى دول مصنعة للبتروكيماويات تحتاج للبنية الأساسية للتحول نحو التصنيع، وهنا يذكر جون بركنز أن الأمريكيين نظروا إلى حصتهم من البنية التحيتية، وما يمكن أن تتحصل عليه الشركات الأمريكية من الاستثمارات الهائلة، وكانت لديهم طموحات كبيرة في أن هذه الخطة تحول السعودية كما يقول جون بركنز إلى أنموذج قياسي لما يجب أن يكون عليه الحال في دول الخليج .
وهنا يقول جون بركنز إن الأمريكيين توقعوا في أن السعوديين سيطوفون حول العالم وهم يلهجوا بالشكر لهم على دورهم في تحفيز الاقتصاد السعودي، وتخيلوا أن زوار السعودية من الدول الأخرى حين يرون تلك المنجزات الاقتصادية والتي حققها الأمريكيون في السعودية سينبهروا ويطالبوا المساعدة من الأمريكيين ويقدموا خطط مشابهة لبلادهم، وغالبا سيكونون زعماء لدول غير نفطية، أي دول تحتاج لقروض وهؤلاء من الطبيعي سيلجأون للبنك الدولي مباشرة والذين سيرتبوا معا إثقالهم بالديون وذلك لتمويل الخطط وتجعلهم شأنهم شأن المملكة العربية السعودية، وهذا بالتالي سيكون كما يقول جون بركنز في صالح الإمبراطورية الأمريكية العالمية .
ثمة نقطة أخرى مهمة وجديرة بالإشارة نبرزها هنا وهي أن السعوديين لم يكن لديهم نية في مواطنيهم سيعملون في الأعمال الشاقة كما يقول جون بركنز، سواء العمل في المرافق الصناعية، أو في المقاولات، أو في أي مشروعات أخرى مشابهة، وهذا أمر له علة، وهذه العلة جعلت السعودية تسقطب عدد هائل من الدول العربية والدول الإفريقية والأسيوية لاستقطاب عمالة كبيرة، وهذه العمالة في حاجة إلى تنمية وذلك من خلال بناء مساكن لهؤلاء العمال، ومرافق أخري كبيرة للأسواق والمستشفيات والمطافي وأقسام الشرطة وخطط كبيرة جدا لمعالجة المياة والمجاري والكهرباء، والاتصالات ووسائل النقل، وكل ذلك سيزيد من الإستعانة بالشركات الأمريكية في مجال الهندسة والمعمار.
ونتيجة هذا الاستيعاب كما يقول جون بركنز ستكون نتيجته تحول الصحراء في السعودية إلى مدن حديثة، وما أن تنشأ المدن الحديثة إلا وتنشأ معها فرص اقتصادية مضاعفة، حيث إن المدن الحديثة كما يقول جون بركنز تحتاج إلى مشروعات ضخمة لتشغيل مرافقها مثل محطات المياه وأنظمة الاتصال والمنشأت الصحية والتعليمية، بل إنها في حاجة إلى إمداد لا يتقطع لمنتجات تكنولوجية وعلى رأسها الكمبيوتر، وعلى أرضية هذه المشروعات تحولت السعودية إلى جنة للعاملين في التخطيط الاقتصادي وفي الإنشاءات الهندسية لأنها كانت عبارة عن مشروع إعمار هو الأكبر في التاريخ .
ومن وجهة نظرر جون بركنز فإن عملية البناء التي جرت في السعودية كانت تمثل طريقة لاستنساخ الولايات المتحدة نفسها، ولكن على نطاق أصغر، وهو أن الولايات المتحدة كانت تبني ولايات متحدة أخري في الشرق الأوسط على الأقل من الناحية التنموية، كذلك يؤكد جون بركنز أن كل هذه الخطط ستحتاج أيضا لعقود صيانة طويلة الأجل وهذا سيزيد من أرباح الشركات الأمريكية العاملة داخل السعودية خاصة مع استخدام التكنولوجيا المعقدة والتي من المفترض أنها ستكون في حاجة إلى خبراء من شركات أمريكية متخصصة، وهذا يؤدي بلا شك لمكاسب مستديمة أيضا للشركات الأمريكية .
لكن هناك بعد آخر لا يقل أهمية ينوه إليه جون بركنز وهو تحديث السعودية الغنية سيتبعه مجموعة من الأفعال وردود الأفعال، على سبيل المثال إسرائيل وغيرها من الدول المجاورة سيسشعرون بالتهديد من تنامي القوى السعودية، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى نمو صناعة الأمن في منطقة الخليج العربي، والشركات المدنية المتخصصة في الصناعات العسكرية والهيئات والشركات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي ستحصل على عقود سخية للمبيعات العسكرية، وبعدها مباشرة عقود أكثر سخاء للصيانة والإدارة طويلة الأجل، وستحدث مرحلة جديدة كما يقول جون بركنز من مشروعات الهندسة والبناء، حيث سيتم احتياج مطارات حربية، قواعد عسكرية، وإدرات للموارد البشرية، وكل مشروعات البنية التحتية المرتبطة ببناء الجيش، وهذا النوع من الشراكة الاقتصادية في الإجمال كان هدفه الأهم من وجهة نظر الحكومة الأمريكية هو محاولة منع السعودية في المستقبل من حظر البترول طالما أن اقتصادها قد تشابك بهذه الدرجة مع الاقتصاد الأمريكي، وفي هذا السياق وافقت السعودية على التعاون مع الولايات المتحدة لتبدأ السعودية حالة التحول لقوة صناعية كبرى .
***
د. محمود محمد علي - كاتب مصري
............................
المراجع:
1- جون بركنز: الاغتيال الاقتصادي للأمم اعترافات قرصان اقتصادي، ترجمة ومراجعة مصطفي الطائي وعاطف معتمد، تقديم د. شريف دلاور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة .
2- إبراهيم الجارجي: الولايات المتحدة والاغتيال الاقتصادي للأمم | كيف تهدم أمريكا اقتصاد بلادك لتبني امبراطوريتها، يوتيوب .