قراءة في كتاب
عباس علي مراد: عرض لكتاب بشارة مرهح "ما لم ترَ عين"

جذور الانهيار الاقتصادي في لبنان
في مجموعة من المقالات التي كتبها بين العامين 2008 و2024، والتي جمعها ونشرها في كتاب "ما لم تر عين" جذور الانهيار الاقتصادي في لبنان، الصادر في طبعته الاولى في مايو/ أيار عام 2024 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، والذي يقع في 351 صفحة من الحجم الوسط، الاخراج الفني د. لينا مرهج والذي يهديه الى المناضلات والمناضلين اللبنانيين الذين يقاومون نظام التسلط والفساد ويتشبثون براية الإصلاح بوجه التحالف المالي- الميليشيوي- المصرفي المستمر في غيّه وطغيانه.
يتعمق الكاتب بشارة مرهج النائب والوزير السابق في تشخيص الازمة البنوية التي ضربت لبنان، ويحمل الهم الوطني، ويسلط الضوء على من تسبب بتلك الازمات، خصوصاً التواطؤ بين السلطة والمصرف المركزي واصحاب المصارف، بعدما أصبح القرار المالي والنقدي يتحرك ضمن دائرة شبه مغلقة، وتديره جهة واحدة، بعد ان تسلم الرئيس رفيق الحريري وزارة المالية عام 1992، وعين مساعده فؤاد السنيورة وزيردولة للشؤون المالية، وعين صديقه رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان (ص30).
يتحدث عن دمج المصارف وكلفتها، وما رافقها من فساد وتعويضات مالية دفعها المصرف المركزي لصالح قلة، وفي الصفحة 35 وتحت عنوان فرعي " الوثيقة الدامغة" ينشر معلومات مفصلة عن تلك العمليات، واسماء البنوك التي حصلت على المال العام لتامين عملية دمجها وسيمي بنك (بيروت- الرياض). وفي الصفحة 61 يلقي الضوء على عمليات دمج 23 مصرفاً وبكلفة 1200 مليون دولار تحملتها الخزينة، والتي ذهب القسم الكبير منها الى جيوب المدراء واصحاب البنوك الذين تسببوا بالأزمة، بخروجهم عن اصول العمل المصرفي، واستهتارهم بقانون النقد والتسليف، واستخدام ودائع المواطنين للمضاربة وشراء القصور واليخوت والسيارات الفارهة.
يواصل الكاتب نشر المعلومات الكثيرة وعن دور لجنة الرقابة، ويتساءل في الصفحة 70" لجنة الرقابة على المصارف من يراقب من ؟ وفي الصفحة 73 يتحدث عن حصرية الأرباح واشتراكية الخسائر، وبخصوص استقلالية البنك المركزي التي كان يتلطى وراءها رياض سلامة حاكم البنك المركزي، وبعد عرض العديد من المواد القانونية حول أستقلالية "البنك المركزي" التي تجعل تلك الاستقلالية نسبية وليست مطلقة، كم تحاول بعض الاقلام والجهات التأكيد تلميحاً او تصريحاً (ص 76-78).
وفي الصفحة 84 ينقل كيف قدمت هدايا وعطاءات عبر ما سماه الحاكم الهندسة المالية والتي كانت كلفته 10 مليارات دولار وجرت دون علم الحكومة!
في مواقع اخرى من الكتاب يتوسع في الحديث عن سعدنات رياض سلامة (ص116) وتعويضه لخسارة البنوك المستثمِرة في تركيا، السعودية، فرنسا، جنوب أفريقيا وغيرها.. وإدارته الإعلامية للأزمة وتعميق الأزمة ومفاقمتها، لانه يعتبر نفسه حاكم يسأل (بفتح الياء) ولا يسأل (بضم الياء) (ص140) وتضليله الناس بدل إطلاعهم على الحقيقة (ص248)، والتهرب من التحقيق الجنائي (ص203).
وبعتبر مرهج ان الازمة نشأت لأسباب داخلية وعوامل خارجية، تضافرت مع بعضها البعض لتحاصر الإقتصاد البناني، وتضعه في مهب الريح منها: الاحتكار، سعر الصرف، حصون الفساد، الكهرباء، ومن العوامل الخارجية يتطرق الى الازمة المالية عام 2008، الأزمة السورية والنزوح السوري، حصار واشنطن لأقتصاد اللبناني من اجل إضعاف المقاومة واغلاق الحدود البرية امام الصادرات البنانية (ص89).
رغم تركيز الكاتب على دور حاكم البنك المركزي السابق رياض سلامة في تفاقم الازمة، لكنه لا ينسى دور القضاء، ومجلس النواب، والحكومة، ورجال الدين بسبب الاستهتار والتواطؤ مع سلامة، وعدم تحمل المسؤلية التي كلفهم بها الشعب اللبناني، مما أدى الى الاهتراء السياسي، التشريعي، القضائي، المالي، والنقدي والتوحش والفساد وغياب المساءلة، وانعدام المصداقية لدى الطبقة السياسية والإدارية والمصرفية والاستعانة بالمذهبية والطاىفية لتكريس نهج التفرقة واطالة عمر المنظومة.
ويخصص الكاتب مقالات حول ذلك وبشكل رسائل الى قضاة لبنان، يحثهم فيها الى المبادرة وإنقاذ بلدهم من الحالة المأساوية التي وصل اليها، بسبب عبث السلطة وفسادها لانه لهم الحق وحدهم في إصدار الاحكام باسم الشعب اللبناني، واقسموا اليمين للحفاظ على العدالة ويذكرهم بدور قضاة إيطاليا بتخليص بلدهم من حكم المافيات والعصابات (ص105-110).
ويتوجه الى المجلس النيابي معتبراً ان مصداقيته على المحك، لان معظم القوانين التي سنها، لا يؤخذ بها، وان معظم مؤسسات الدولة لا تعمل (312) وفي الصفحة 338 يعنون "صمت القبور"… أنا أتحدث عن البرلمان اللبنانيً ويقول : ان الحاجة ماسة لعقد جلسة عامة لمناقشة الزلزال الذي ضرب لبنان والقطاع المصرفي وجيوب المواطنين، ومعرفة حقيقة ما حصل لتطبيق العدالة والبدء في إسترجاع الاموال المنهوبة من سارقيها، ويردف الكاتب أن هذا التخلف ، لا بل هذا الامتناع ، يثير التساؤل، وأكثر إنه مثير للريبة والشك، إنه بالأحرى "صمت القبور". ويتطرق الى تقاعس المجلس النيابي عن إقرار قانون الكبيتال كونترول هذا التقاعس الذي ساعد في تحويل أموال اللبنانيين للخارج، لصالح الفاسدين من اصحاب المصارف والطبقة السياسية.
وفي رسالة الى البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي لم يرق له موقف رئيس الحكومة حسان ذياب من رياض سلامة يقول: هنا اسمح لنا يا صاحب الغبطة أن نعتبر بأن الخطة يجب حكماً أن تعتمد على الحسابات والأرقام التي طلبها رئيس الحكومة مراراً وتكراراً من الحكام دون جدوى.(ص138)
لا يكتفي الكاتب بعرض وشرح أسباب الأزمة، لكنه في أكثر من مكان في الكتاب، يطرح مجموعة من الحلول التي يعتقد انها تصب في اتجاه حل ازمات لبنان واللبنانيين سواء المالية والنقدية والاقتصادية والقانونية، الثقافية والاهم السياسية، ويشدد على استراجاع الاموال وإعادتها اللى أصحابها ويحذر من التلكؤ عن معالجة الازمة وتداعياتها المستقبلية (67).
ولا بد ان نشير الى أن الكاتب في مواقع كثيرة من الكتاب تحدث عن مخاطر المشروع الصهيوني الذي يستهدف المنطقة، لبنان البلد العربي الوحيد الذي هزم إسرائيل وأخرجها من معظم الاراضي التي احتلتها في إجتياحاتها للبنان.
يختم مرهج كتابه بمقال خاص بالصرح التعليمي الوطني، ويطالب بحماية النظام التعليمي الجامعي في لبنان، ويعنون "أرفعوا ايديكم عن الجامعة اللبنانية" التي تتحمل مسؤولية 80 الف طالب و5648 استاذاً، 4000 موظف لان الدولة تتصرف بإهمال نحوها والذي يتمثل في ميزانيتها المنخفضة التي بلغت 864 مليار ليرة، وهي مبالغ لا تؤمن رواتب الأساتذة. (ص344).
أخيراً، الكتاب يستحق القراءة لانه يطال كل مواطن لبناني مقيم أو مغترب، وغني ويزخر بكم كبير من المعلومات التي تلقي الضوء على تفاصيل كثيرة لللازمة في لبنان لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
ومع أن الكاتب لا يفقد الأمل بنهوض لبنان ويقول: إن لبنان رغم كل ما أصابه من سهام، لا زالت حعبته غنية بالوسائل والإمكانات التي تؤمن له الحصانة الاستراتيجية، وتكفل نهوضه من بين الأشلاء والأنقاض(ص335).
وعلى الرغم من ذلك فإن الكاتب رغم الحقائق الدامغة والصادمة، لا يستخف بقدرة هذه المنظومة الفاسدة ويلفت مرهج إلى مقدرة هذه الطبقة على الافلات عبر تلفيقات تعيد إنتاجها في الانتخابات للأفلات من المحاسبة، وخداع الداخل والخارج عبر وضع قوانين انتخاب غير عصرية وعلى مقاس اهل السلطة وتعميم ثقافة الجهل وتمجيد الذات وشيطنة الآخر.
***
عباس علي مراد