قراءة في كتاب
جمال العتابي: كن شاسعاً كالهواء...

قراءة د. حاتم الصگر في دفاتر الفنان غسان غائب
هذا الامتلاك القوي لأدوات التعبير عن تجربة فنان تشكيلي عراقي، إنما هو الإشارة إلى اللغة الرفيعة والتمكن من الأداء النقدي لدى الأكاديمي الدكتور حاتم الصگر وهو يطلّ علينا من نافذة أخرى تمثل وعيه الفني وثقافته الرؤيوية الجديدة التي تنامت داخل هواء المعرفة ـ سبق أن صدر له كتاب "المرئي والمكتوب" دراسات في التشكيل العربي ـ في قراءته الجديدة لـ "دفاتر غسان غائب" الصادرة عن مطابع دار الأديب في عمّان عام 2021 بطباعة في غاية الأناقة.
يؤكد لنا الصگر دفق عواطفه المستجيبة لكل منظور جميل يثير في النفس هوى الفن، وهو في هذه القراءة يقدم شهادة امتداداً لمنهجه النقدي الرصين، بإضافات جديدة مبدعة، ملهمة.
حاتم الصگر عبر مقدمته التي تصدرت كتاب (كن شاسعاً كالهواء) يؤلف إيقاعاً ينسجم مع ذات المبدع حين يواجه زمناً تسارعياً لابد أن يتخطاه. هؤلاء الفنانون العشاق هم الذين يرفعون شعلة الفن الخالدة، وقد ترددت أسماؤهم في هذا الامتداد اللانهائي للفن، قد تحلق اليوم أوغداً بأجنحة للجمال كظاهرة تشكيلية تفردت بالموقف وأصرّت عليه.
لقد أدرك هؤلاء الفنانون منذ أول وهلة أنهم يجب أن يبدعوا صوتهم الحقيقي، وهكذا فقد نظروا إلى ما وراء الأفق، واستعاروا كثيراً من مفردات الأساليب الفنية في العالم حين لم يجدوا ضالتهم المنشودة فيما هو مطروح في ساحة الفن العراقي.. ولا ضير في ذلك، لأنهم سيجدون أنفسهم يوماً، على أية أرض يقفون، وأية من قضايا الفكر والفن هي التي تجذبهم إلى أحضانها؟
الفنان غسان غائب من مواليد بغداد 1964 تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد 1997، أقام عدة معارض شخصية في خارج العراق، كما شارك في عشرات المعارض المحلية والعربية والدولية، ونال عدة جوائز، كانت الأخيرة جائزة الإبداع عام 2000 في بغداد. تميزت مسيرة غائب الفنية بالتنوع والتجدد حيث جمع بين التجريد الهندسي والفن التركيبي، والفن المفاهيمي، معبراً عن قضايا انسانية وبيئية وفلسفية عميقة. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، انشغل بالتجريب الفني وقدّم أعمالاً تتغير فيها الصياغات الشكلية بتقنيات ومواد مختلفة، يلجأ فيها إلى الخشب والأسلاك والكرتون ليخلق أعمالاً تفاعلية تحمل رسائل فلسفية وبيئية وتثير تساؤلات عديدة.
يكشف لنا الدكتور الصگر الممكنات التي أوصلت الفنان التشكيلي غسان غائب إلى تجاربه الأسلوبية التي تثيرها معاينة مجموعة من دفاتره الشعرية التي قام بتنفيذها في السنوات الأخيرة بأشكال خاصة، يتصدى لها الصگر بالتحليل أنها تنتمي لتقنية الكتب، وتلازم القصائد المختارة بأشكال من التعالق.
ان أبرز الممكنات التي تعد مهيمنات أسلوبية ورؤيوية معاً في أعمال غسان كما يشير اليها الدكتور حاتم هي تفاعل الفنان مع المناهج والمقترحات الحديثة في الفن التشكيلي، تعزز ذلك ثقافته المتنوعة في الأدب والثقافة والنصوص الشعرية والفلسفية لاسيما الاشراقية منها، والمتصوفة بوجه خاص، ويبدو من ذلك ان النزعة الثقافية في أعماله، تعود إلى بداياته أيضاً، فهي تربية فنية وجمالية دأب عليها، وتغذت منها منجزاته الفنية، وعقدت تلك الصحبة مع النتاج الشعري والثقافي عامة، وتطورت إلى التعالق بين الكلمة والصورة البصرية.
قد تفيض التجربة، فتلامس حدود المألوف، أو تتعداه إلى مواطن الكشف التي تمنحها بعداً زمنياً من الممارسة والتجربة والاختبار، يؤلف نسيجاً من الإضافات الذاتية الخلاقة. الحقائق التي تناولها الاستاذ الصكر تقودنا إلى النظر والتأمل في عالم مفتوح تنبسط عليه محاولة الفنان غائب التي توحي ان الفن التشكيلي بقدر ما يحمل من حرية في التعبير، فان الابتهاج الاعمق ان تصبح المحاولة الى ممارسة جمالية واعية، تؤكد الفرق بين المبدعين في الفن، وبين اللاهين بأدواته.
أعمال غائب كما يصفها الأستاذ حاتم لا تخلو من غرابة ما على مألوف التلقي البصري، ثمة إشكالات في رؤيتها معروضة كما في المعارض التقليدية، هي لاتستند إلى جدار ولا تلجأ إلى إلى فضاء متحفي، هي معروضة للمعاينة الفردية. يدمج بين الشعر والفن التشكيلي، مستلهماً نصوصاً لجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، والجواهري، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري، ومحمود البريكان، ورشدي العامل. لخلق لغة بصرية تحمل رسائل جمالية وفكرية. أو كما يعبر عنها الأستاذ حاتم الصگر بحالة التماهي بين الشكل والمهمة البصرية لا التشكيلية، وهذا يفسر الأشكال المتدرجة والصفحات والدوائر وغيرها، مما يتحدى المعاينة البصرية السالفة بالخبرات التي ورثها المتلقي وتعامل بها مع المنجز الفني. الشعر هنا يقرأ ولا يسمع البتة، وعالم اللوحة ينبثق من عنصر الصمت الذي سيطوح بنا في مجهول، ليست المصادفة خلقت هذا التعالق، إنما هناك شيئ ضائع لانعرفه، بيد أنه مختزن فينا، الفنان "غائب" هو الضوء الكاشف لأعماق المسارات العذبة الشجية التي تأتينا مع الصمت وانهمار التداعيات. ليس لأننا لا نملك القدرة على الإمساك بكل معاني تجربته بكل ما فيها من شفرات ورموز واحالات ودلالات، بل لأنه أودع فينا الرسالة التي يريد الفنان أن يوصلها لا بمفردات نصية على السطوح فحسب كتعالق مع الشعري، بل بموقف متكامل من الحياة وما يتصل بها.
***
د. جمال العتابي