قراءة في كتاب
سعاد الراعي: قراءة تحليلية نقدية لكتاب عقيدة الصدمة (2)

حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب
القسمُ الثاني: حــالاتُ الصَّــدمــة
في هذا المنعطف من عقيدة الصدمة لا تكتفي نعومي كلاين بأن تزيح الغطاء عن اقتصاد السوق المتوحّش؛ بل تقتحم، بجرأة العالم الذي تُحاك فيه المؤامرات وراء ستار «الإصلاح» و«إعادة الإعمار». إنّنا إزاء سردٍ موثَّق يَخفق بحرارة الألم الإنساني، كأنّه شهادةٌ دامغة على العنف الذي مارسته الرأسماليّة المتطرّفة ضدّ جسد الشعوب وذاكرتها على السواء.
هنا لا نقرأ بحثًا اقتصاديًّا فحسب، بل نسمع صرخةً فكريةً وأخلاقيّةً تُعرّي طبقات القسوة المواربة خلف خطاب «الحُرّية الاقتصاديّة». تقول كلاين بعبارة حاسمة:
«كان الهدفُ محوَ التاريخ، ثمّ البدءُ من الصفر؛ فلن يتحقّق الصفاء الطهرانيّ للسوق إلاّ حين تُقمَع الذاكرةُ الجمعيّة ويُزال البناءُ القَديم من جذوره».
1. تشريحُ الصدمة: الكارثةُ فرصةٌ استثماريّة
تتمحور فصول هذا القسم حول النظرية التي ابتدَعها ميلتون فريدمان، مهندس «اقتصاد الصدمة»: الأزمات ليست نُدوبًا عابرة، بل لحظاتٌ ذهبيّة لإعادة ترتيب البُنى السياسيّة والاجتماعيّة وفق مقاسات السوق الحرّ.
فمن انقلاب بينوشيه في تشيلي إلى غزو العراق، ومن إعصار كاترينا إلى تسونامي المحيط الهندي، تلاحق كلاين خيطًا ناظمًا: كلّ كارثةٍ تُصاغُ مسبقًا بوصفها «ورشةَ عمل» لبناء نظامٍ أكثر انفتاحًا على رأس المال، وأقلّ رحمةً بالإنسان.
وليس سَرْدُها مجرّد تأريخٍ متسلسل، بل تشريحٌ دقيق لجسد النظام العالميّ الحديث؛ الإنسان فيه حقلُ تجارب، والوطن منصّةً لمدرسة شيكاغو التي لا تعرف وَجْلًا ولا شفقة. تصوغ المؤلِّفةُ هذه العملية بثلاث مفرداتٍ مُقتبسة من قاموس التعذيب النفسيّ: الصدمة – التفكيك – إعادة البناء. يكسر الأفرادُ والدولُ على السواء حتى يرضخوا لإملاءاتٍ ما كانوا ليقبلوها في حال الصحو.
«كانت الخطة دائماً هي انتظار اللحظة المناسبة، حين يكون الناس مرتبكين أو مذعورين أو عاجزين، لتمرير التغييرات الجذرية دون مقاومة».
2. من صفحات الكتاب إلى مرآة الواقع
أهمّية هذا القسم لا تكمن فقط في كشف آليّات الاستغلال، بل في طرح السؤال الحَرِج: أين ينتهي الإصلاحُ ويبدأ التدميرُ المنظَّم؟ شبح «عقيدة الصدمة» لا يزال يخيّم على كلّ بقعةٍ مضطربةٍ اليوم في العالم؛ فما إن تقع او تُفتعل أزمةٌ سياسيّةٌ أو طبيعيّةٌ حتى تُرفَع وصفةُ «التحرير» ممهورةً بتوقيع المؤسسات الماليّة العابرة للحدود. يتكرّر المشهد على نحوٍ يُكسب الكتاب طابعًا نبوئيًّا: كلّما ارتفعت رايةُ الانفتاح، تساءلنا ـ مُرغمين ـ عمّن سيتحرّر حقًّا: الأسواقُ أم المواطنين؟ رأسُ المال أم كرامةُ العيش؟
3. حين تغدو الديمقراطيّةُ ديكورًا
يحذّرنا النصُّ، بصوتٍ ساخنٍ ومتماسك، من أنّ الآلة النيوليبراليّة لا تتنفّس إلّا بالاضطرابات؛ فإذا خمدت النيرانُ افتعلتْ شرارةً أخرى لتبرير خصخصةٍ أعمق وتقليصٍ أشدّ للدور الاجتماعيّ للدولة.
«ما مِن شيءٍ يُضاهي الصدمة في جعل الناس يَقبَلون ما كان مرفوضًا قبلها».
هنا، تؤكّد كلاين، مشرِّحةً العلاقة الوطيدة بين الهلع الجمعيّ وسرعة تمرير القوانين التي تُعيد توزيع الثروة صعودًا.
4. انعكاساتٌ معاصرةٌ صارخة
هل نستطيع قراءة هذه الصفحات دون أن يتقافز إلى أذهاننا ما يحدث اليوم في فلسطين أو أوكرانيا أو السودان؟ المأساةُ تتحوّل إلى مشروعٍ استثماريّ، وقوائمُ الإعمار تُوزَّع كما تُوزَّع أسهمُ الشركات العابرة للأوطان.
«بعد كلّ كارثةٍ ثمّة «منقذون» يُعيدون البناء؛ غيرَ أنّ هؤلاء هم عينُهم مَن يستعدّون للكارثة أكثر من استعدادهم للحياة المشتركة».
إنها رؤية جذرية ومُفزعة، لكنها شديدة الواقعية. نحن نعيش عالمًا تُدار فيه الأزمات كاستراتيجيات مخططة، لا كوقائع عارضة.
5. دعوةٌ إلى المساءلة والمقاومة
يسطع هذا القسم بوصفه نداءً لإيقاظ الوعي: فالصدمة ليست قدرًا سماويًّا، ولا الحروبُ قضاءً مُنَزّلاً؛ إنّها اختياراتٌ تُتَّخذ في كواليس السلطة والمال. والوعيُ الذي تدعو إليه كلاين ليس ترفًا فكريًّا، بل شرطُ صمودٍ وحُسنِ بقاء لشعوبٍ تتعرّض لسلسلةٍ لا تنقطع من «العلاجات» الصادمة.
«لن نعرف أبدًا إلى أي مدى يمكن أن نكون أحرارًا، إذا قبلنا كل ما يُعرض علينا ونحن في لحظات ضعفنا».
القسمُ الثالث: طَبيـبُ الصَّـدْمـة ـ الأزمــةُ النّــاجعــة
يكشف هذا الجزءُ الحاسم من الكتاب أقسى أوجه النيوليبراليّة وأدْهاها؛ إذ يدرس مفهوم «الأزمة الناجعة» بصفته أداةً لتحقيق انقلابٍ جذريّ في بنية المجتمعات من دون إقناعٍ أو حوار، بل بالصدمة ـ اقتصاديّةً كانت أو سياسيّةً أو عسكريّة. فالكارثة عند مهندسي السوق ليست نكبةً تستدعي التعافي، بل سانحةً استراتيجيّة لاستحداث نظامٍ يلائم مصالح القلّة المهيمنة. وكما تكتب كلاين
«إن الكارثة، بالنسبة لهؤلاء المهندسين الاقتصاديين، هي فرصة لا تعوّض. حين تكون الشعوب في حالة صدمة، يمكن تمرير أي شيء». (ص. 192).
1. منهجيّةُ التدمير: حين يصبح العلاجُ هو الداء
ترصد كلاين الاستخدامَ المنظّم للصدمات ـ طبيعيّةً ومُصطنَعة ـ لفرض أجنداتٍ اقتصاديّةٍ متطرّفة. يشهد على ذلك المثالُ الروسيّ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عُمِّمت سياسة «أكبرِ قدرٍ من التغيير في أقصرِ مدّة»، لأنّ الصدمة السريعة، في زعم المنظّرين، تُعطّل القدرةَ على المقاومة. يشبّه النصُّ تلك الوصفة بالعلاج بالصدمات الكهربائيّة: قاسٍ، متواتر، وموجَّهٌ إلى جسد مجتمعٍ مُنهَك.
2. بنيةُ النصّ ورسائلُه المضمرَة
يتكئ القسم على ثلاثة أعمدةٍ متداخلة:
أ. توثيقٌ دقيق لحالاتٍ عالميّةٍ شهدت العلاج بالصدمة؛
ب. تفكيكٌ بلاغيّ لخطاب النيوليبراليّة الذي يُجَمِّل الخراب باسم الإصلاح؛
ج. تحليلٌ نفسيّ جمعيّ لحالة الشعوب بعد وقوع الكارثة.
واللازمةُ التي تتردّد خافتةً ثمّ ترتفع صاخبةً: «حين يَعُمُّ الهلع، لا أحد يفتح العقود، ولا أحد يقرأ البنود.» إنّه توصيفٌ باردٌ لمناخٍ يُختطَف فيه التشريع والموازنة العامة، ويُعاد تشكيلهما على مرأى من شعبٍ مذهول.
من خلال هذه البنية، لا تنقل الكاتبة وقائع فحسب، بل ترسم خريطة ذهنية لمخططات تُحاك بدمٍ بارد، حيث تُستغل الفوضى لزرع نظام جديد، غالبًا ما يكون أكثر قسوة ولامبالاة من سابقه.
3. الانعكاسُ على حاضرنا المتشظّي
لسنا اليوم بمنأى عن منطق الصدمة؛ فالحروبُ الأخيرة، وتهاوي الأنظمةِ الصحيّة، وارتفاع الأسعار وبشكل خاص اسعار الطاقة، كلها ترسم مسارًا قديمًا جديدًا لإحلال هيمنة السوق محلَّ أيّ رؤيةٍ تضامنيّة. تتكرّر وصفة الطبيب: تحريرٌ عاجل للأسواق، تقليصٌ صارمٌ للدعم، بيعُ القطاع العام؛ لإعادة تشكيل المجتمع، للترويج للتقشف، ولتحويل الخوف إلى طاعة.
كلّ ذلك يُسوَّق بوصفه دواءً ناجعًا فيما هو تعميقٌ للنزف الاجتماعيّ.
ويكفي التذكير بما يجري في غزّة اليوم من تحويل القتل والتدمير والركام إلى «فرصة استثمار» مغلّفةٍ بخطاب إعادة الإعمار؛ لأجل تحويلها الى منتجع سياحي للنخبة "الرڤيرا" كما يريدها ترامب او محمية أمريكية على غرار المنطقة الخضراء، وبهذا تُستنسَخ تجربة «المنطقة الخضراء» في العراق على ضفاف المتوسّط.
4. بلاغةُ المأساة: حين تكون الكلمةُ مقاومةً
أبرز ما يُّميز كلاين، أنّها تحوِّل التحليل إلى فعلٍ ثقافة مُقاومة. كلُّ فقرةٍ لائحةُ اتّهام، وكلّ سطرٍ محاكمةٌ تُرسَمُ فيها خطوطُ دمٍ على دفاتر حسابات عبارتها اللاذعة:
«إنّهم لا ينتظرون الكارثة… إنّهم يصنعونها، ويُتقنون ترتيب المسرح، لأنّهم يَعلمون أنّ اللحظةَ الوحيدةَ التي يمكنهم فيها تغييرُ كلّ شيء هي لحظةُ الانهيار».
هذه اللغة ليست فقط وصفًا للواقع، بل دعوة للاستيقاظ. دعوة لرفض من يُقدّمون أنفسهم كمنقذين بينما هم حفارو قبور السيادة.
5. نحو يقظةٍ تكتُبُ مصيرَها
إنّ «طبيبَ الصدمة» ليس شخصًا بعينه؛ إنّه تجسيدٌ لشبكة السلطة حين تحتكر الحقيقة، وللإعلام حين يُجمِّل الدمار.
تأتي قيمة هذا القسم ـ بل الكتاب كلّه ـ من كونه مرآةً للحاضر يطالعنا فيها مستقبلٌ يُراد له أن يُصاغ بأيدي من لا تردعهم أخلاقٌ ولا تشدّهم وشائجُ الانتماء الانساني.
ولهذا يظلّ درس عقيدة الصدمة صارخًا: الوعيُ درعٌ لا غنى عنه، والمساءلةُ فعلُ بقاء؛ فلا ننجو من الصدمات بالتقبّل، بل بتفكيكها، وكشف مساراتها، وصياغة مسارٍ بديلٍ يُعيد للإنسان مركزيّتَه في معادلة التنمية والحياة.
ملاحظة للقارئ الكريم:
قد يُخيَّل إليك، وأنت تتوغّل في صفحات هذا الكتاب، أن الأفكار تتكرر، وأن الكاتبة تُعيد ذات المقولات بصيغ متشابهة. غير أن هذا الظنّ، وإن بدا وجيهًا في وهلة القراءة الأولى، سرعان ما يتبدّد إذا ما أنصتّ إلى الإيقاع العميق للنص، وتمعّنت في النسق البنيوي لفصوله.
فما يبدو تكرارًا ليس إلا تنقيبًا واعيًا، ونبشًا دؤوبًا في طبقات الحقيقة، حيث لا تُطرح الفكرة من باب الإعادة، بل تُضاء من زوايا متعددة، وتُروى بأمثلة نابضة، وتُفكك في سياقات متجددة، وكل ذلك في إطار محكم من البناء والتحليل، يدور حول محور جوهري لا تحيد عنه كاتبة: عقيدة الصدمة.
إن هذا التكرار الظاهري، في جوهره، منهج ترسيخ لا تكرار سرد، يهدف إلى تعميق الوعي بالفكرة، لا إغراق القارئ فيها. هو كضربات النحات على الصخر، تتوالى لتُشكّل الملامح، وتُظهر ما خفي من تعرجات الذاكرة والسياسة والاقتصاد.
فالفهم لا يُولد من الطرح المجرد، بل من المعاودة الصبورة، من طرق الفكرة من جهاتها المختلفة، حتى تستقر في الوجدان والعقل، وتُصبح عدسة نُبصر بها ما يدور حولنا، ونقرأ بها واقعنا الممزق، العام والخاص، المعلن والمضمر.
هي ليست إعادة، بل إنضاج للفكرة حتى تنضج في وعي القارئ، وتثمر فهمًا يقظًا، وموقفًا يتجاوز التلقي إلى الفعل.
***
سعاد الراعي
......................
رابط القسم الأول
https://www.almothaqaf.com/readings-2/981610