قراءة في كتاب
عبد السلام فاروق: الحداثة والدين.. هدم الأوهام وبناء اليقين النقدي

"ليس المهم أن نقرأ التاريخ، بل أن نعيشه كجرح نازف في حاضرنا" - هذه العبارة التي خطرت لي وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من كتاب "جدل الدين والحداثة" لصلاح سالم، عمل لا يشبه الكتب، بل يشبه المغامرة التي تقلب موازين الوعي رأساً على عقب. إنه ليس كتاباً يُقرأ، بل تجربة تعاش، ندبة في جبين الزمن، لكنها ندبة تشع نوراً يكشف تناقضاتنا المزمنة.
الحداثة كتأويل متطرف للدين
يفجر سالم في كتابه فكرة تقلب الطاولة على السرديات التقليدية: الحداثة الغربية لم تكن قطيعة مع الدين، بل كانت "تأويلاً متطرفاً" له! إنها محاولة لاستعادة المقدس من سطوة المؤسسات الدينية التي حولته إلى سلعة سياسية. هنا يتحول نيوتن من عدو للدين إلى متصوف جديد، يبحث عن الله ليس في نصوص الكنيسة، بل في معادلات الحركة الكونية. العلم الحديث لم يلغِ الغيب، بل نقله من سماء الأساطير إلى فضاء المنطق.
المفارقة التي يكشفها الكتاب تكاد تكون مأساوية: الغرب الذي أعلن "موت الإله" كان في الحقيقة يعيد اكتشافه في قوانين الطبيعة، بينما نحن – الذين نرفع شعار "الله أكبر" – نتعامل مع الكون كساعة توقفت منذ قرون!. لقد حوّل الغرب المسيحي الإله من حارس للتقليد إلى محرك للعقل، فصار الله عند ديكارت سؤالاً فلسفياً، وعند نيوتن معادلة رياضية، وعند كانط قيمة أخلاقية. أما نحن فما زلنا نعتقد أن الإله يسكن تفاصيل ملابسنا وطعامنا، بينما غاب عنا في كوارث الفقر والجهل والاستبداد!.
العقل الإسلامي المغدور
في فصل مزلزل يعود سالم إلى لحظة مفصلية في التاريخ الإسلامي: عندما تحوّل الفكر المعتزلي من منهج لتحرير العقل إلى "بدعة" يحاربها الحكام. هنا تكمن الكارثة: لقد تم اختطاف التراث الإسلامي من قبل من يخافون العقل أكثر مما يخافون الكفر!.
الكتاب يسأل أسئلةً وجودية: ماذا لو انتصر ابن رشد على الغزالي؟ ماذا لو صارت "الجدلية" طريقة لقراءة النص بدلاً من "التلقين"؟ في مكتبة قرطبة القديمة، حيث كان ابن رشد يقرأ أرسطو تحت ضوء القمر، لم يكن هناك تناقض بين العقل والوحي. لقد فهم ذلك الفيلسوف أن الحكمة هي ضالة المؤمن، أينما وجدها فهي له. لكن التراث اليوم صار كالطائر المحنط.. نضعه في صالون منازلنا لنتباهى به، بينما فقد منذ زمن قدرته على التحليق!.
العلمانية كروحانية جديدة
يقلب الكتاب الطاولة على الفهم السائد للعلمانية: ليست عدواً للدين، بل هي ابنة شرعية لروحه الأعمق! حين فصل الغرب بين الدين والدولة، لم يكن يرفض الروحانية، بل كان يحميها من تدنيس السياسة. المفارقة أن العلمانية الغربية حققت ما فشل فيه المتصوفة: جعلت الإيمان علاقة شخصية بين الإنسان والكون، بعيداً عن وسطاء السلطة.
لكن سالم لا يقدم العلمانية كحل سحري، بل يحذر من تحولها إلى دين جديد. بعض النخب العربية، بعد أن حررت نفسها من تابوهات الدين، وقعت في فخ تبجيل "الحداثة" كدين جديد، حيث يرفض أي نقد لها تحت شعار "معاداة التقدم".
النفاق الحضاري العربي
في تحليل لاذع، يكشف الكتاب عن تناقضنا المميت: نحن نستهلك iPhone بجنون، لكننا نرفض العقلية التي صنعته! نعشق الطب الغربي، لكننا نحارب المنهج العلمي الذي أفرزه. المشكلة ليست في "التغريب"، بل في "النفاق الحضاري": نأخذ ثمار الحداثة ونرمي بذورها في سلة المهملات!.
الغرب الذي نرفضه اليوم هو نفسه الذي استقى من بحر علومنا حين كنا نعرف كيف نصنع الحياة من تراب التاريخ. والشرق الذي نتباكى عليه هو نفسه الذي خان روح الإسلام عندما حول الدين إلى طقوس جوفاء. في مكتبات إسطنبول ودمشق وبغداد، تقبع مخطوطات لو قرأها الغربيون اليوم لظنوها من نتاج عصر التنوير! بينما نحن نمر عليها كالعميان، نبحث عن المستقبل في كتب لم نفتحها منذ قرون.
نحو حداثة أصيلة
صلاح سالم لا يقدم وصفة جاهزة، لكنه يطرح سؤالاً وجودياً: هل نستطيع أن نبتكر "حداثة بأصالة" كما فعل اليابانيون؟ أن نصنع توليفة بين عقلانية ابن سينا وروحانية ابن عربي؟ الخطر كل الخطر أن تتحول نهضتنا إلى مجرد "فولكلور تكنولوجي" - نلبس عباءة التراث فوق جسد مستعار من الغرب!.
الحل ليس في الاختيار بين الدين والحداثة، بل في اكتشاف الحداثة في صميم ديننا، والدين في عمق حداثتنا. النهضة تبدأ عندما نتعلم من ابن خلدون كيف نقرأ التاريخ لا كحكايات للأجداد، بل كخريطة للمستقبل. عندما نستعيد روح المعتزلة في التساؤل، وقلب المتصوفة في التسامح، وعقل العلماء المسلمين في النقد.. حينها فقط سنفهم أن الحداثة ليست قطيعة مع الماضي، بل هي الابن الشرعي لأعمق تقاليدنا.
التراث ليس تابوتاً
الكتاب في النهاية ليس بحثاً أكاديمياً، بل هو "ندبة في جبين الزمن". ندبة تذكرنا أن الحضارة تُبنى بالجرأة على كسر التابوهات، لا بتكرارها. الدين الذي يخاف من العقل ليس ديناً، والحداثة التي تحتقر الروح ليست حداثة. البشر يتسابقون إلى المريخ، بينما ما زلنا نجادل: هل الأرض تدور حول الشمس أم لا؟! السؤال ليس فلكياً بل وجودياً: هل نريد أن نكون في التاريخ، أم أن نكون مجرد هامش عليه؟.
التراث ليس تابوتاً يُحمل على الأكتاف، بل هو بوصلة في يد حائر يبحث عن ذاته بين النجوم. هذا ما علمنا إياه صلاح سالم في كتابه الذي يشبه الزلزال: كفى نوستالجيا! الماضي لم يكن دائماً جميلاً، والمستقبل لن ينتظر الحائرين.
***
د. عبد السلام فاروق