قراءة في كتاب

عبد المجيب رحمون: "حبابي د المدرسة" نموذج بيداغوجي من الزمن الماضي

يتحدث "عبدالقادر الزكاري" في كتابه «تطاون التي في خاطري»  عن تاريخ مدينة تطوان المغربية الحديث من خلال سرد الأحداث التي عايشها والكثير من التقاليد والأعراف التي ميزت المدينة أواخر القرن العشرين كالأعراس، والأعياد، والجنائز، والتدريس، والاصطياف.... ومن بين الظواهر التي شدتني في هذا الكتاب ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدرسة  حيث كانت تتكفل بهذه المهمة امرأةٌ تعرف بصرامتها ووفائها اصطلح عليها داخل المجتمع التطواني في فترة الستينيات و السبعينيات ب "حبابي د المدرسة" . و"حبابي" كلمة يُنادى بها على المرأة الكبيرة من طرف من يصغرها بسنوات كثيرة؛ فتيان وفتيات وتحمل الكلمة قدراً كبيراً من العطف، واللين، والمحبة، والتقدير، وهي لفظ دارج في المجتمع الشمالي المغربي عامة؛ غير أنه بدأ في الاندثار وعُوض بخالتي، أو الشريفة، أو الوالدة ....

لقد شكل هذا اللفظ علاقة قوية متينة بين المنادى، والمنادى عليه، وأتذكر بفخر واعتزاز وأنا طفل دون العاشرة من عمري، في حينا الشعبي بمدينة طنجة المغربية؛ وظفت هذا المصطلح كثيراً، ولا زلت؛ فعندما أعود إلى مكان تنشئتي، وصقل شخصيتي بنفس الحي، ألتقي بجاراتنا اللواتي هن في عمر والدتي، أقبِّلُ رأسهن بأدب قائلا لهن "حبابي حبيبة" «ما أحوال صحتك؟ ما أخبار أولادك ؟» هي نفسها كنت أقول لها في طفولتي "حبابي حبيبة" «قالت لك يـْمَّـا عطيها واحد نص الخبز ديالنا باقا مخمرت»،( قال لك أمي أقرضيها قطعة من الخبز، ريثما يتخمر العجين)، وجارة لنا أخرى كنت أقول لها "حبابي أم كلثوم" «سيفطتني يـْمَّـا عندك تخرج معايا التمارين ». (أرسلتني أمي لتساعدني في إنجاز الواجبات المدرسية). هي استعمالات كثيرة لهذا المصطلح أشرنا إلى بعضها، للدلالة القوية بين اللفظ، والشعور، بين الكلمة وسياقتها، ولقد تطرق إلى هذا الموضوع اللسانيون، واللغويون؛ وهم يؤسسون للعلاقة بين الدال  والمدلول، واللغة والبنية الشعورية .

ارتباطا بسياق هذا المصطلح لم أعش ظاهرة اصطحاب الأطفال إلى المدارس لكني انتشيت بلفظ "حبابي" لما يحمله من عطف وحب. عبارة "حبابي د المدرسة" يعبر ويمثل بيداغوجيا تربوية تقليدية آتت أكلها حينا من الدهر لم يكن الهاتف شيئا مذكوراً. لعل القارئ الكريم يتساءل عن العلاقة بين الهاتف ودور "حبابي د المدرسة"، سأجيبه بالقول بأن الهاتف حوَّل وعي المتعلمين من التربية الوالدية الأسرية، إلى سلطة الصورة وتأثيراتها على التفكير .

لقد مارست "حبابي د المدرسة" نموذجاً تربوياً فريداً دون أن تعي ذلك، وإذا شئنا استحضار مقولة الأسرة شريكة في إصلاح المدرسة؛ سنقول بأن هذا النموذج خير مثال لتلك المقولة لاعتبارات كثيرة منها:

- الحمولة الاجتماعية لدور الجيران، وهو ما مثلنا له بنوستالجيا الطفولة؛

- دور المرأة المصاحبة (حبابي) في تنشئة المتعلمين على التربية الصالحة والتشبع بالقيم، والأخلاق؛

- أهمية العلاقة العاطفية بين المرأة المصاحبة، والأطفال، ودرجة الثقة التي يمنحها لها أولياء الأمور.

يقول "عبدالقادر الزكاري": «كانت "حبابي د المدرسة" هاته [...] تحدد لنفسها خريطة الطريق التي ستسلكها من أول بيت حتى آخره لتصل عبره رفقة صف من التلميذات اللائي تقودهن نحو المدرسة، ثم نحو بيوتهن[...] وكانت تتميز بشدتها وصرامتها [...] ومن جهة ثانية كانت تتسم بوجه آخر لها وهو صفة المحبة والإخلاص والوفاء» .

لا شك أن منهاج التربية والتعليم اعتمد على الأسرة في بنائه وتطوره منذ العصور الأولى، وإلى عهد قريب كانت الأسرة إلى جانب المُدرس يؤطرون التلميذ، ويوجهونه بشكل يقدر قيمة الأستاذ، ويحترم دور الوالدين، وبمعنى آخر ساهمت الأسرة في التربية وتحسين جودة التعلمات من خلال ما اصطلح عليه حديثا ب"التربية الوالدية"، بعد أن تقلص دورها حديثاً لأن التلميذ انسلَّ من عباءة الأسرة، ليلج جحر العولمة التكنولوجية حيث تم استلابه، وتضليله، وتحنيطه من خلال انصهاره في وسائط التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو.

إن النموذج التربوي الذي نقوم بتحليله اعتمد بشكل أساس على الحديث النبوي الشريف: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه» . ترحم "احبابي د المدرسة" الصغار، وتعطف عليهم، في حين يوقرونها الصغار. هكذا يمكن القول إن التربية كانت تنطلق من البيت إلى الشارع فالمدرسة؛ حيث يصل المتعلم إلى الفصل الدراسي متشبعا بالقيم والأخلاق والانضباط، ليأتي صقل هذه القيم عبر المعارف، والمهارات التواصلية من خلال نماذج بيداغوجية تستدعي المقاربة السلوكية، والنفسية، والاجتماعية، كما تستحضر نظرية الذكاءات المتعددة.

***

د. عبد المجيب رحمون

في المثقف اليوم