قراءة في كتاب

عدنان حسين أحمد: "منحوتات بغداد بين الفن والسياسة" لميسون الدملوجي

البحث عن هُوية وطنية جامعة في عراق تعددي يعتمد الحداثة ولا يقدّس الماضي التليد

صدر عن دار "درج للنشر والتوزيع" كتاب "منحوتات بغداد بين الفن والسياسة" للمهندسة المعمارية الاستشارية ميسون الدملوجي، وثمة عنوان ثانوي شديد الأهمية تستدرك فيه المؤلفة ثيمة الكتاب الرئيسة وتكملها ولا تترك منها شيئًا لمخيلة المتلقي المُجنّحة حيث توضِّح بأنّ هذا البحث هو "دراسة الفن في الفضاء العام كوسيلة لتحفيز هُوية وطنية في مجتمع يعاني من صراعات" فهي توجّه عناية القارئ إلى "الفن في الفضاء العام" والسعي لخلق "هُوية وطنية" من دون أن تنسى الإشارة إلى خطورة الصراعات الطائفية التي أيقظتها العقول المريضة للبعض من أفراد الطبقة السياسية التي هيمنت على سُدة الحكم ومفاصل الدولة الأساسية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.

مَنْ يقرأ مقدمة هذا الكتاب سيجد أنّ الباحثة قد توسعت في الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية وذلك لارتباطها الوثيق بالجانب الفني المتعلّق بالعمارة والنُصُب والتماثيل والغرافيتي وما إلى ذلك. وقبل الخوض في هذه التفاصيل الدقيقة لابد من التنبيه إلى أنّ الدملوجي قد شغلت منصب وكيل وزارة الثقافة، وأصبحت نائبة في البرلمان العراقي لثلاث دورات متتالية، ومستشارة الرئيس لشؤون الثقافة، وناشطة في حقوق المرأة منذ 2004 وحتى الآن فلاغرابة إذًا في أن تتشعب في الحديث عن التاريخ والسياسة وهموم المجتمع وثقافته وحضارته المُوغلة في القدم.

تستغرب الباحثة أنّ "ميسوبوتيميا" أو بلاد ما بين النهرين التي أنجبت حضارات متعددة مثل السومرية والأكدية والبابلية والآشورية إلاّ أنّ الشعب الرافديني ما يزال يبحث عن هُوية وطنية جامعة في عراق تعددي من دون أن تُمسَخ فيه الهُويات الفرعية. فقد تشكّل العراق بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وكان "دولة تبحث عن أمة" بحسب توصيف ماغنوس ت. برنهاردسون المتخصص في شؤون الشرق الأوسط الحديث، وتحديدًا التاريخ السياسي والثقافي للعراق الهاشمي 1921 - 1958.1 baghdad

شهِد العراق في حقبة الخمسينات من القرن الماضي عصره الذهبي الذي تجاوز فيه الدول العربية المُحيطة به في الأقل لكن الانقلابات والأحداث الدرامية التي عصفت به منذ سنة 1958 وما تلاها من قمع، وحروب عبثية، وحصار ظالم، واحتلال أمريكي بغيض أفضى في خاتمة المطاف إلى تعثّر حركة التقدم وشلّ مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودفع آلافًا مؤلفة من العراقيين إلى الهجرة كلّما سقط نظام وجاء نظام جديد أسوأ من سابقه حتى بلغ عدد المهاجرين والمنفيين العراقيين قرابة أربعة ملايين أو يزيد، وقد رافق هذه التغيرات الدرامية محاولات يائسة لتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي المتماسك الذي يشبه سبيكة ذهبية إذا ما لفظنا منها المرضى، واللصوص، وضعاف النفوس.

"نصب الحرية" ورمزيته الكبيرة في نفوس العراقيين

تركِّز الدملوجي في هذه المقدمة المكثفة على بغداد تحديدًا بسبب تعدديتها الدينية والفكرية والثقافية كما أنها كانت عاصمة الدولة العباسية لعدة قرون وتضم في جنباتها مراقد أئمّة، وشيوخ التصوّف الأوائل، وأتباع الديانات التوراتية. وتستعرض لمسات الأحزاب القومية واليسارية التي كانت تتنافس على السلطة مثل البعث والحزب الشيوعي العراقي اللذين تناوبا على سدة الحكم لفترات من الزمن حتى احتلال العراق في عام 2003 حيث عادت الكثير من الأحزاب والقوى السياسية إلى العراق وانغمست في نشاط سياسي على وفق معايير طائفية باستثناء كتلة وطنية واحدة كانت تضم غالبية مكونات الشعب العراقي. ثم تعرّج الباحثة على انتفاضة تشرين التي انطلقت في عام 2019 في المحافظات الوسطى والجنوبية وأظهر فيها الشباب ميلًا كبيرًا نحو الوطنية العراقية التي تراجعت فيها الانتماءات الفرعية الضيقة لمصلحة الوطن ورفعوا شعار "نريد وطنًا" لكنهم تعرضوا للعنف والقسوة المفرطة التي راح ضحيتها نحو 700 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين. وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن بلورة هُوية وطنية يطمح فيها الشباب الثائر إلى تحقيق المواطنة والعدالة الاجتماعية. وقد أصرّ المتظاهرون على اختيار "نُصب الحرية" للفنان جواد سليم مكانًا للتظاهر لما له من رمزية كبيرة في نفوس العراقيين وقد نجحوا في ذلك على الرغم من محاولات السلطات الأمنية إبعاد المتظاهرين إلى أماكن أخرى مثل "ساحة الفردوس" لكنهم تشبثوا بساحة التحرير لما تتضمنهُ من قيم عراقية أصيلة.

يتألف هذا الكتاب من مقدمة شافية ووافية، وأربعة فصول يتبعها فهرس الأعلام وثبت بالمصادر العربية والأنجليزية إضافة إلى السيرة الذاتية والإبداعية في طيّة الغلاف الأول. يمكن اختصار مادة الفصل الأول بتأسيس مجلس الإعمار الذي شرّعه البرلمان العراقي سنة 1950 واعتماد مبدأ الحداثة في الطرز المعمارية للتحرر من قيود الماضي والابتعاد عن الصراعات التي يحفل بها التاريخ العراقي. فالملك فيصل الأول الذي كان منضويًا تحت لواء القومية العربية لكنه سرعان ما تأقلم مع الطبيعة التعددية للمجتمع العراقي حيث كرّس جهده لبناء دولة عصرية حديثة تضم بين طيّاتها مختلف القوميات والأديان والطوائف.

تشير الباحثة إلى أنّ العمارة العراقية اتخذت شكل الطراز الكولونيالي وقد أقلم المعماري البريطاني أدوين لويتنز الطرز المعمارية البريطانية مع الطقس الحار والمواد المحلية كما هو الحال في " جامعة أهل البيت" للمهندسين المعماريين  ولسون وميسن و "المحطة العالمية" في الكرخ للمعماري جيمز ويلسون التي تميزت بلمحات من طراز "الآرت ديكو" وهو فن زخرفي كان سائدًا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. ولعل تخصيص مجلس الإعمار نسبة 70% من عائدات النفط لمشاريع التنمية والإعمار هو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العراق حيث أسفر عن تنفيذ عدد كبير من المشاريع الاستراتيجية مثل المصانع، والمعامل، والمباني الحكومية، والمتاحف، والسدود، والطرق والجسور، ومشاريع الإسكان الكبرى. لقد أبعد المجلس واردات النفط عن الحكومة العراقية وبالتالي عن الحاكم الأمر الذي منعها من الذهاب إلى جيوب الفاسدين. لم يسلم مجلس الإعمار من الانتقادات والتُهم التي وُجهت إليه فقد أسماه البعض بـ "مجلس الاستعمار" واتهموه ببناء مطارات لخدمة الجيوش البريطانية وأعتبره البعض الآخر "دولة داخل دولة" لما يتوفر عليه من موازنات ضخمة وصلاحيات واسعة مكّنتهُ من التمدّد والهيمنة على وزارات الدولة ومؤسساتها. وقد نجحت هذه الدعاية المُضادة ووجدت لهاء أصداء واسعة مع أنّ المجلس هو الذي وظّف الوفرة المالية للعائدات النفطية لخدمة المصلحة العامة وهو الذي أنقذ العراق من المشاكل الطائفية المعقدة وكان يتدخل في أدقّ التفاصيل مثل تسمية "جسر الأئمة" الذي يربط بين الأعظمية والكاظمية بينما كان كل طرف يريد تسميته باسم الإمام الموجود في مدينته.

اعتماد الحداثة واستبعاد الماضي المثير للجدل

تُورد الدملوجي محاولة المعماري فرانك لويد رايت استلهام روحية قصص ومغامرات "ألف ليلة وليلة" لكن هذه المحاولة كانت تتعارض مع الرؤية الحداثية لمجلس الإعمار فلم يلقَ مشروعة الرضا أو القبول المعهودين لحرص المجلس على اعتماد الحداثة واستبعاد الماضي كوسيلة لترسيخ هوية وطنية لمجتمع يختلف كثيرًا في قراءة تاريخه البعيد والقريب على حد سواء. ومن بين الأعمال المُنجزة لمجلس الإعمار هي جامعة بغداد للمهندس المعماري والتر غروبيوس، ووزارة التخطيط لجيو بونتي، وقاعة الألعاب الداخلية للوكوربوزيه ومبنى مدينة الطب التي نُفذّت كلها بأسلوب حداثي يخلو من أية إشارة إلى الإرث العمراني في العراق أو المنطقة. جدير ذكره بأنّ العهد الجمهوري اعتمد على الطاقات الوطنية وفي مقدمتها الهندسة والفنون، كما تم انشاء قسم العمارة أول مرة في كلية الهندسة برئاسة د. محمد مكية. لم يستمر مجلس الإعمار طويلاً فبعد ثماني سنوات من تأسيسه أُلغي هذا المجلس وتمّ تشكيل مجلس جديد من عدد من الوزراء وسُحبت منه نسبة الـ 70% من عائدات العراق النفطية الأمر الذي أضعف المجلس وحدّ من قدرته على تنفيذ مشاريع إستراتيجية واقتصر عمله على استكمال بعض مشاريع مجلس الإعمار. فقد أُلغي مشروع دار الأوبرا، ومشاريع الإسكان، وتخطيط بغداد لدوكسيادس، ومتحف الفنون لألفر ألتو. كما استمر العمل بمشاريع أخرى تنضوي تحت عنوان الحداثة ومواكبة روح العصر وتطوراته.

الركائز الثلاث للنظام الملكي في العراق

يتمحور الفصل الثاني على ثلاثة تماثيل و "نافورة ساحة السباع" و "نصب الحرية" حيث تؤكد الباحثة أنّ تقاطعات بغداد وشوارعها وساحاتها العامة قبل ثورة 14 تموز 1958 لم تعرف إلّا ثلاثة تماثيل لشخصيات عامة وهي الجنرال ستانلي مود، قائد الجيش البريطاني الذي احتلّ بغداد عام 1917، وتمثال الملك فيصل الأول الذي تولّى عرش العراق (1921-1933)، وعبدالمحسن السعدون، رئيس وزراء العراق الذي انتحر برصاصة في الرأس احتجاجًا على بعض أعضاء مجلس النواب الذين اتهموه بالعمالة لبريطانيا. وهذه التماثيل الثلاثة نحتها الفنان الإيطالي بيترو كانونيكا، أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في فنيسيا وروما الذي يعتبر "أمهر نحّاتي الفروسية". ويذكر الدكتور خالد السلطاني أنّ التماثيل الثلاثة الأولى التي عرفتها ساحات بغداد ترمز إلى الركائز الثلاث التي استند عليها النظام الملكي في العراق وهي "النفوذ البريطاني، والعائلة المالكة، وقوة العشائر" على اعتبار أنّ عبدالمحسن السعدون ينتمي إلى عشيرة كبيرة واسعة النفوذ.

تركز الدملوجي على "نافورة ساحة السباع" التي أنجزها في الأربعينات النحات إسكندر الروسي وقد استلهم شكلها من الموروث الأندلسي الذي اشتهر بالحدائق الغنّاء التي تتخللها نافورات المياه. وقد تضاربت الآراء بشأن انحدار الفنان إسكندر، فهناك من يقول إنه جاء مهاجرًا من أرمينيا أو جورجيا وأنه حصل على الجنسية وأصبح مواطنًا عراقيًا.

ظهرت الحاجة بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى تماثيل ونصب جديدة تحل محل تماثيل العهد البائد وتعكس الواقع الجديد بثالوث معاكس يُنهي الاستعمار، ويلغي العرش الملكي، ويضع حدًا للعشائرية فقفز إلى ذهن رفعة الجادرجي "نُصب الحرية" الذي يأخذ شكل لافتة كبيرة مصنوعة من جدار كونكريتي بعرض 50م، وارتفاع 10 م، وترتفع اللافتة عن الأرض 6م، وتُكسى بالرخام، وتحمل جدارية تروي قصة العراق قبل وبعد الثورة. وقد طلب الجادرجي من الفنان جواد سليم أن يُصمم الجدارية، واشترط أن يكون السرد من اليمين إلى اليسار على أن يكون الجندي مركز العمل وقلبه النابض. تتألف الجدارية من 14 جزء، ويمثل كل جزء رمزًا أو عدة رموز يستطيع حتى المتلقي العادي أن يفهمها من دون عناء كبير. وقد بذلت الباحثة جهدًا كبيرًا في تفسير الأجزاء الأربع عشرة بالتفصيل الذي لا يهمل شاردة أو واردة ويستطيع القارئ الكريم أن يعود إلى الكتاب ليستمتع برؤيتها النقدية الفاحصة التي لم يفتها شيئًا من المعاني والمضامين التي ترمز إليها شخوص الجدارية. وقد رُفع الستار عن "نصب الحرية" بشكل رسمي عام 1961 في غياب الفنان جواد سليم والمهندس المعماري رفعة الجادرجي. فقد كان الاثنان يتهربان من رغبة الزعيم الذي يريد أن يضع صورته في النصب وتكون هذه الصورة سببًا في تدميره إذا ما تغيّر النظام لاحقًا. تذكر الباحثة في معرض حديثها عن السياق التاريخي لنُصب الحرية أنّ رفعة الجادرجي أبلغها بأنه سمع أنّ الزعيم عبد السلام عارف كان يتحدث عن تهديم النصب لأنه يحتوي على أصنام ولكنه سرعان ما تراجع أمام الضغط الكبير لمثقفي بغداد. كما تجد الخزعبلات طريقها المباشر إلى زرع الخرافات والأكاذيب والتلميحات الغيبية حيث تنبأ أحد فتّاحي الفال بأنّ النصب منحوس وأنّ العراق لن يستقر إلاّ بتدمير هذا النصب وإزالته. يُعنى قسم غير قليل من هذا الكتاب بانتفاضة تشرين التي ارتبطت رمزيًا بنصب الحرية وقد تتبعث الباحثة مسارات هذه الانتفاضة منذ 14 شباط 2011، وتراجعها بعد اغتيال الناشط المدني والإعلامي هادي المهدي حتى عودتها مجددًا في تشرين الأول 2019 التي تميزت حجمًا ونوعًا عن سابقاتها. جدير ذكره بأن لافتة النصب الكونكريتية تنتمي إلى أسلوب الحداثة الذي أشرنا إليه سابقًا ولا يكون سببًا في إثارة الخلافات التاريخية والانقسامات الطائفية التي قَبَرها الشباب في واحدة من أروع فعّالياتهم الوطنية.

النُصب والتماثيل تُولد وتعيش وتُفارق الحياة أيضًا

يتناول الفصل الثالث، وهو أطول فصول الكتاب، مراحل متعددة تبدأ بالستينات والسبعينات التي تميزت بوفرة إنتاج الأعمال الفنية في الشوارع والتقاطعات، مرورًا بالثمانينات أو مرحلة الحرب العراقية - الإيرانية، وانتهاءً بالنُصب والتماثيل التي شُيّدت بعد 2003، والرسم على جدران نفق التحرير. وما تخلل هذه المراحل من تهديم وإزالة للعديد من الأعمال النحتية لأسباب سياسية أو فنية. فالأعمال الفنية حالها حال البشر تُولَد وتعيش وتفارق الحياة قبل أن تشيخ في بعض الأحيان. فبعد سقوط النظام الملكي في صبيحة 14 تموز 1958 أزالت الجماهير تمثاليّ الجنرال مود  والملك فيصل الأول بينما أبقت تمثال عبدالمحسن السعدون كما هو عليه ربما لتعاطفها معه بسبب انتحاره المأساوي. وحينما استتب الحكم للنظام الجمهوري طلب الزعيم عبدالكريم قاسم من رفعة الجادرجي إقامة ثلاثة نُصب وهي "نصب الحرية" و "الجندي المجهول" و "جدارية 14 تموز" حيث قام الفنان فائق حسن بإنجاز العمل الأخير فيما نفّذ الجادرجي نصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس على شكل قوس مدبب بإيحاء من طاق كسرى الذي يعود بناءه للحضارة الساسانية. كما نفّذ "نُصب الحرية" في ساحة التحرير وسوف يرتبط هذا النصب بروح الأمة العراقية وذاكرتها الحية. كما تشير الدملوجي إلى نُصبين آخرين في أوائل الستينات وهما نُصب" الأم" للفنان خالد الرحال و نصب" 14 تموز" للفنان ميران السعدي. أما حقبة السبعينات فقد أنجز النحاتون العراقيون العديد من التماثيل والنصب الفنية نذكر منهم محمد غني حكمت وخالد الرحال وميران السعدي وإسماعيل فتاح الترك وقد تعرضت بعض الأعمال الفنية لانتقادات لاذعة من قبل بعض الصحف والشخصيات المعمارية وعلى رأسها المهندس المعماري محمد مكية الذي انتقد تمثاليّ "الرصافي" لاسماعيل فتّاح الترك و "المتنبي" لمحمد غني حكمت، و نصب "الجندي المجهول" لرفعة الجادرجي غير أنّ انتقاداته كانت سطحية ولا تخرج عن إطار التوصيفات العابرة التي لا تقنع المتلقي ألبتة.

تتوقف الباحثة عند جداريات الفنان غازي السعودي التي أنجزها عند البوابات الرئيسة لمتنزه الزوراء، كما تشير إلى بعض التماثيل والمنحوتات التي نُقلت إلى الفضاءات العامة للمتنزه وتُشيد بتمثال "الفارابي" لاسماعيل فتاح الترك وتعتبره العمل الأكثر أهمية في ذلك الفضاء المفتوح.

"نُصب الشهيد" تتزاحم فيه الرموز الفنية العميقة

ومع بدء الحرب العراقية - الإيرانية أُزيل "نصب الجندي المجهول" وحلّ محله تمثال لصدام حسين وتعتقد الباحثة أنّ "علاقة شكل النصب بطاق كسرى أمرًا غير مريح للدولة التي تخوض حربًا ضد إيران" وهو تبرير صحيح ولا تستبعِد بساطة هذا النصب الذي أُستبدل بنصب باذخ تتزاحم فيه الرموز والإشارات الفنية العميقة. وفي عام 1983 شيّدت الدولة نصبًا جديدًا للجندي المجهول صممه الفنان خالد الرحال ويمثل درعًا يحمي البلاد من المعتدين. وفي العام ذاته صمم الفنان إسماعيل فتاح الترك "نصب الشهيد" إلى جانب المعماري سامان كمال والمعمارية وجدان نعمان ماهر وهو عبارة عن قبة مُدببة باللون الأزرق الشذري منشطرة إلى نصفين بارتفاع 40 مترًا وعرض 44مترًا وبكلفة 131 مليون دولار أمريكي وهو استذكار لآلاف الشباب الذين فقدوا أرواحهم في الحرب العراقية - الإيرانية وقد دخل النصب في وجدان الأمة، وأصبح إلى جانب نصب "الحرية" أهم مَعْلمين فنيين وحضاريين منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن.

أثار نصب "قوس النصر" 1989 جدلًا واسعًا بعد أن قام الفنان خالد الرحال بصب قالب لذراع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وسوف تكون هذه الذراع حاملة لسيفين متقاطعين يمثلان قوس النصر. وبعد 8 / 8 / 1988 أُعيد تمثال الملك فيصل الأول إلى موقعه الأصلي بعد أن أعادت مؤسسة الفنان بيتر كانونيكا صناعته من جديد. لم يجد العراقيون حرجًا في أن يسندوا مهمة صناعة النصب والتماثيل لفنانين أجانب كما هو الحال مع نصب "المقاتل العراقي"  1989 الذي فاز في المسابقة ونفذ النصب الذي يتكون من عشرات الجنود ومعهم دبابة وأسلحة بينما يقف جندي في أعلاه رافعًا البندقية بيده اليمنى وراية النصر بيده اليسرى.

تعتبر الدملوجي جدارية "الجسر المعلّق" 1992 للفنان عزّام البزاز أهم عمل في تلك الفترة يجسّد إصرار العراقيين على ترميم ما دمّرته الحرب. أنجز الفنان علاء بشير نُصبيّ "اللقاء" 2000 وهو عبارة عن جسدين يوحيان بالعناق، و "الصرخة" 2002 الذي استذكر فيه جريمة قصف ملجأ العامرية 1991 الذي راح ضحيته 480 مدنيًا كانوا يحتمون بالملجأ خوفًا من الغارات الجوية الأمريكية. يصور العمل صرخة جامدة لضحية مختبئة تحت الصخور المتهاوية.

لم تكن فكرة إسقاط التماثيل أو إزالتها غريبة على العراقيين فبعد ثورة 14 تموز أسقطت الحشود الجماهيرية تمثاليّ الجنرال مود والملك فيصل الأول. وبعد انقلاب 8 شباط 1963 أزالت ميلشيات الحرس القومي بعض الحمامات من جدارية فائق حسن على اعتبار أنها ترمز للشيوعية. وفي عام 1982 أزالت الجرافات نصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس واستبدلته بتمثال لصدام حسين أنجزه النحات خالد عزت، وسوف يُزال هذا التمثال في 9 نيسان 2003 كإشارة صريحة على انتهاء نظام البعث وبداية احتلال العراق. كما أزيل نصب "المسيرة" لخالد الرحال وهو لا يحمل  أية دلالة مباشرة للبعث وإنما يروي سفر الحضارات العراقية. ولم يسلم نصب "اللقاء" لعلاء بشير من التقويض من دون أن يرتكب إثمًا سياسيًا، فمضمونه إنساني بالكامل. وقائمة الهدم والتقويض والإزالة طويلة ويمكن للقارئ الكريم أن يعود للفصل الثالث من الكتاب ليقرأ فيه ما يحزن القلب من محاولات الطمس والتغييب النهائي لأعمال فنية ذنبها الوحيد أنها أُنجزت في حقبة البعث مثل تمثال "الأسير العراقي" وجدارية "التأميم"، وتمثال "أبو جعفر المنصور"، ونصب "العائلة" وما سواها من الأعمال الفنية الراسخة في العقل الجمعي العراقي.

عودة تماثيل الزعيم الذي ناصَر الفقراء والمهمشين

ظهرت مجموعة تماثيل للزعيم عبدالكريم قاسم بعد مرور 40 سنة على مقتله ونُصبت في أماكن متفرقة من بغداد كنوع من الوفاء لما قام هذا الرجل من أجل دعم الفقراء والمهمشين.

كُلف الفنان محمد غني حكمت بإنجاز أربعة نصب لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية وهي "إنقاذ الحضارة" و "الفانوس السحري" و "أشعار بغداد" و "سيدة بغداد" وقد احتل النصب الأول مكانة مميزة بين المواطنين وأصبح عنصرًا من عناصر الهوية الوطنية والفنية والحضارية لبغداد. وفي السياق ذاته رُفعت بعض التماثيل لأنها تفتقر إلى الجودة والنسب الجسدية الصحيحة وقلة التشابه، وفي الوقت ذاته انتشر الغرافيتي أو الرسم على الجدران وطلبت العديد من الجهات الرسمية والبعثات الدبلوماسية من الفنانين العراقيين تلوين الجدران الكونكريتية الكئيبة برسوم زاهية ومشرقة كما فعلت الفنانة منى مرعي بطلب من السفارة الألمانية وأحاطتها بعدد كبير من الرسوم الجميلة المبهجة. كما رسم الغرافيتيون العراقيون جدران النفق الكائن أسفل ساحة التحرير.

تسلّط الدملوجي في الفصل الرابع والأخير الضوء على البعد الاجتماعي والديني للنصب والتماثيل العراقية في الفضاء العام وتعتبرها وسيلة لإعادة بناء الهوية العراقية، وتفرّق بين التمثال والنصب وما ينطوي عليهما من رسائل سياسية واجتماعية وروحانية من أجل استنطاق الماضي أو الحاضر بهدف تثقيف المتلقي أو تحذيره من مخاطر جدية يمكن أن تهدد وجوده وصيرورته التي جُبل عليها. وتتوقف الباحثة عند عدد من النصب والجداريات أبرزها جدارية "يوم الغدير" لمحمد حسن النقّاش المثيرة للجدل، ونصب "أبطال آسيا" للنحاتين إيهاب أحمد وهادي حمزة وهادي الشمري والمعماري حسن مدّب التي تحتفي بأسود الرافدين في أثناء فوزهم بكأس آسيا سنة 2007 حيث خرج ملايين الشباب العراقيين إلى الشوارع من مختلف الخلفيات الدينية والمذهبية وهم يرقصون فرحين بفوز منتخبهم العراقي وكأنهم يعلنون بالفم الملآن أنهم ليسوا طرفًا في الاقتتال الطائفي والانتماءات الفرعية الضيقة وإنما هم ضحايا له. أمّا رمزية الكرة فهي تسند الجدار وتمنعه من السقوط. فالفن الحقيقي يجب أن يبني الهُوية الوطنية ويؤازرها لا أن يكرس الخلافات الطائفية والإثنية والعِرقية.

***

عدنان حسين أحمد

في المثقف اليوم