قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: صديق على الورق..

بين يدي كتاب من أمتع ما قرأت.. منذ سنوات لم أقرأ عملاً بهذه الروح التي تشعر معها أن الذي يكتب إنما هو صديق قديم افتقدته ثم قرر أن يبعث إليك برسائله أخيراً يطمئنك على أحواله ويحكي لك أخباره.

 إنها سيرة ذاتية لفنان، كتبها كأنما يرسمها رسماً بألوان تبدو بسيطة سهلة، لكنها عميقة لها دلالات كثيرة موحية. إنني لا أبالغ مبالغة الأدباء، بل أصف شعوراً طغي على جوارحي بعد انتهائي من الكتاب، وشعرت في نهايته بخبيبة أمل؛ بعد أن اكتشفت أنه مجرد جزء أول لحياة لم يكمل صاحبها روايتها حتى لحظة السرد، بل اكتفي بوصف فترة حياته الأولي في مصر قبل ذهابه للدراسة في إسبانيا في نهاية السبعينيات.

 تلك رحلة حياة وسيرة ذاتية يرويها لنا الفنان التشكيلي العالمي محمد عبله في بساطة وبعبارات بليغة رغم انسيابها وتلقائيتها. تكتشف معها حياة الفنان التشكيلي الممتعة كيف هي؟ وتتأكد من هذا الشعور عندما يأتي الراوي على ذكر لقائه مع أديب نوبل نجيب محفوظ على مقهى الفيشاوي، وكان عبله يعمل ويسكن حينئذ بمرسم "المسافرخانة" بالجمالية. سأله نجيب محفوظ: ماذا تعمل؟ قال: أنا رسام. فقال: محظوظ! ثم أراه منظر شروق الشمس وهي تغمر ساحة مسجد سيدنا الحسين ثم قال: أقول إنك محظوظ لأنك بالألوان تستطيع أن تنقل هذا الجمال بسهولة وبساطة، بينما تلزمني عدة صفحات لأصف دفء هذه الشمس وجمالها.

 هذا كتاب من آخر إصدارات دار الشروق بعنوان: (مصر يا عبله- سنوات التكوين). كتبه محمد عبله، بقلم روائي بارع وكأنه يرسم لوحة تشكيلية من أبرع ما يكون.

في عيد مولده الواحد والسبعين

صدر الكتاب المفاجأة منذ أسابيع فقط، وهو يتزامن مع مناسبة عيد ميلاد الفنان الواحد والسبعين إذ ولد (محمد السيد محمود محمد يوسف إبراهيم عبله) في 27 سبتمبر عام 1953، في مدينة بلقاس بالدقهلية، وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة قسم تصوير من جامعة الإسكندرية عام 1977. قبل أن ينطلق لأوروبا ويصبح فناناً عالمياً من طراز رفيع، ليحصل منذ عامين فقط على ميدالية جوتة في الفنون التشكيلية. وننتظر له ميدالية مماثلة تهديها له مصر يوما ما؛ إذ أنه من جيل الوسط من الفنانين التشكيليين البارزين، ويعد رمزاً من رموزها المعاصرين.

الكتاب يكتفي بسرد فترة من أخصب فترات حياة الفنان، وهي فترة دراسته الجامعية منذ حصوله على الثانوية العامة والتحاقه، طبقاً للتنسيق بكلية الفنون التطبيقية التي أبغضها فأصر على التحويل لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وساعده على التحويل الفنان التشكيلي الكبير "سيف وانلي". تلك الفترة على صغرها النسبي، إلا أنها ضمت بين كفيها نهراً فياضاً من المواقف والأحداث والحوارات والشخصيات التي جعلت الحكاية كأنها جزء من أسطورة قديمة، أو حكاية من حكايات التراث والتاريخ.

 بدءاً من غلاف الكتاب تشعر أنك على وشك الدخول في عالم مختلف؛ إنها صورة نصفية لرجل يضم أصابع كفيه خلف رأٍسه ناظراً للوحة تبدو لأول وهلة كأنها كتلة من بقع لونية مختلفة الأحجام تتكاثثف عند منظورها القريب، ثم تتلاشي مع الأفق. وعندما تدقق النظر تتأكد أن الناظر الذي يعطينا ظهره في غموض، إنما يتأمل مصر بكل مكوناتها، وأن الزحام الذي يصدمك عند النظرة الأولي هو اندماج عناصر التكوين في أي شارع مصري؛ من بقع صفراء هي صحراؤها وبُنّية هي معمارها وجبالها وزرقاء هي ماؤها وألوان مختلطة هي الناس وتفاعلاتهم اليومية. فكأنها جلسة المتأمل لمصر بعد سنوات طويلة من الغياب والإياب المتقطع، لرجل لم يحب الزحام، وهجر صخب المدينة قبل سفره لأوروبا لائذاً بمرسمه المنعزل.

ثم تقرأ الإهداء الذي يمنحه لزوجته وعائلته وإلى رجلين أحدهما هو الشاعر جمال القصاص، والثاني هو صديقي المرحوم الدكتور شاكر عبد الحميد رحمه الله، وكان قد وعد عبله بكتابة مقدمة الكتاب حين صدوره لكنه قضي قبل أن يفعل.

 وبينما الإهداء كُتب بألفاظ عامية بسيطة، جاء المتن بليغاً بارع الأسلوب سهل العبارة، فما تكاد تبدأ في سطوره الأولي حتى تجد نفسك مشدوداً بجاذبية غامضة تشدك باستمرار، فلا تطيق أن تترك الكتاب من يديك حتى تتمه وتأتي على آخر سطوره، ثم تتحسر أن الكتاب له جزء ثاني، فتكاد تقرر أن تكتب رسالة استعطاف للراوي صاحب السيرة أن يسارع بإصدار الجزء الثاني على عجل!

اعترافات آكل قلب الذئب!

يقول محمد عبله في حكاياته التي يذخر بها كتابه الماتع: أنه أحب حكايات جدته لأبيه وكانت بارعة في تصوير القصص المرعبة. وكانت معجبة بمحمد حفيدها وتؤثره بالحكايات وتراه جريئاً لا يخاف، لهذا قالت إنها سوف تطبخ له قلب ذئب فإذا أكله فلن يراوده الخوف طوال حياته. وبالفعل جاء له أحد أقاربه بقلب ذئب وطبخته له فوق سطح البيت فأكله، وبات يردد دائماً: أنا لا أخاف. أنا أكلت قلب ذئب! وكان حينئذ لا يزال تلميذاً في الصف الخامس الابتدائي!

كان على خلاف مع أبيه الذي أراد له أن يلتحق بالكلية الحربية، فإذا به يفاجأ بالتحاقه بكلية الفنون الجميلة فيطرده من البيت، ويظل محمد عبله متشبثاً باختياره للكلية الوحيدة التي أحبها، وتخرج منها بعد خمس سنوات بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف وكان الأول على دفعته.

 اضطر للسفر للأقصر بحثاً عن مادة مناسبة لمشروع التخرج بين الآثار والمعابد، وشعر بالضآلة كفنان أمام الفن المصري القديم الفريد، لهذا لم يجد موضوعاً مناسباً إلا بين أهالي الأقصر أنفسهم، ونال بهذه الرسوم المستوحاة من رحلة الأقصر إعجاب كل أساتذته من أكابر الفنانين التشكيليين.

 فترة دراسته لم تكن نزهة سهلة، بل كان عليه أن يوفر مصاريف دراسته ومعيشته بنفسه بسبب الخلاف الذي دب بينه وبين أبيه، وأن يحافظ على تفوقه للحصول على المنحة السنوية من الكلية. فاضطر للاشتغال بمختلف المهن التي تمت للتلوين، كالنقاشة وتصميم لوحات المدارس، وعمل أثناء فترة التجنيد بتجارة قطع غيار السيارات، وكان ناجحاً في كل هذه المهن. لكنه قابل بالصدفة أستاذه في اللغة الإسبانية الأستاذ "أدريان" وأخبره بأنه يعمل كتاجر وأنه يكسب جيداً، فامتعض أدريان وقال: لا يا محمد أنت فنان فقط. وعرض عليه أن يقيم له معرضاً في المركز الإسباني وكان مديراً له.

 هكذا أقام محمد عبله أول معرض فني بالمركز الإسباني وهو لا يزال مجنداً في الجيش، وأعلنت جريدة الأهرام عن المعرض في صفحتها الأخيرة بإشراف كمال الملاخ. وعندما ذهب إليه عبله ليشكره وجد عنده المخرج سمير عبد العظيم وعدد من الفنانين والصحفيين، فصوروا أعماله. وحضر المعرض كبار الفنانين على رأسهم الفنان حسين بيكار الذي صار صديقاً له بعد ذلك. وبعد أن كان عبله يفرح بالجنيهات التي يحصّلها من بيع قطع غيار السيارات باع أول لوحة له بمبلغ 120 جنيهاً وكان مبلغاً كبيراً!

 سافر عبله إلى بغداد في إجازة السنة الأخيرة من دراسته، وأقام هناك مرسماً صارت له شهرة في منطقة مميزة، وارتبط هناك بأناس أحبهم وأحبوه، لكنه اضطر للعودة على مضض لإتمام مشروع التخرج، وبدلاً من العودة بدولارات كما يفعل كل المغتربين، عاد محملاً بمجموعة كتب أهداها له وزير الثقافة العراقي سعدون حمادي!

 لن أستطيع في هذه المساحة المحدودة سرد جزء من الحكايات الممتعة الواردة في الكتاب، ولا نقل العاطفة المشعة بين سطوره، لكنني أؤكد أنك ستخرج من قراءته بشعورٍ طاغٍ أن صاحب هذه السيرة صديق قديم تعرفه وإن لم يعرفك!

***

د.عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم