قراءة في كتاب

موسى فرج: كتب وذكريات.. ثورة الزنج للدكتور فيصل السّامر (3)

العبودية والإقطاع صنعت بنصوص الشريعة خلاف الشريعة

بدأت فكرة منح الإقطاعيات في عهد النبي "ص" وكانت تنطلق من نوايا سليمة تصب في الصالح العام، وتستهدف إحياء الأراضي الموات وتنشيط الزراعة، وتشجيع الاستقرار، فقال النبي "ص": "مَن أحيا أرضًا مواتًا فهي له"، والنبي في حياته أقطع بلالًا من الحارث المزني أرضًا ظهرت فيها بعض المعادن، وأقطع الزبير أرضًا بخيبر فيها نخل وشجر، وأقطع فرات بن حيان أرضًا باليمامة، وعلي بن أبي طالب أربع أرضين، وأقطع أبو بكر الزبير وادٍ يأتي من الطائف ويصب في أحد، وأقطع عمر العقيق ما بين أعلاه إلى أسفله لنفر من الصحابة، أما في عهد عثمان فقد كثر الإقطاع بشكل كبير، وقد نسب خليج بنات نائلة إلى زوجته.

في البصرة أقطع عمر بن الخطاب إلى أبي بكرة ونافع بن الحارث، وأقطع عثمان فيها عمران بن حصين وابن عامر وحمران مولى عثمان، وعثمان بن أبي العاص الذي أعطي القطيعة المعروفة بشط عثمان قبالة الأبله.

وفي العصر الأموي، وفي عهد عبد الملك خصوصًا ازداد الإقطاع بشكل واسع، ومن أصحاب الإقطاعات الواسعة في العصر الأموي زياد بن أبيه، ومكحول بن عبيد الله الأصمعي، وحفص بن العاص، وأبو أميه بن أبي العاص، والمغيرة بن العاص ...وغيرهم كثيرون.

وبعد قيام الحكم العباسي أصبحت أراضي البصرة وقراها مقسمة بين عدد من الملاكين الكبار في مقدمتهم الخلفاء الذين أخرجوا لأنفسهم ضياعًا في البطيحه.

الشريعة الإسلامية لا تقر اغتصاب الأرض لكن الرغبة في إعمار الأراضي التي كانت تعود للملك الفارسي أو تلك التي هجرها أصحابها بعد الفتح، فقد تمّ منحها لمن يحييها وإحياء الأرض.

على أنْ يدفعوا مقابل ذلك لبيت المال خراجًا وهو العشر، وتمّ تنظيم ذلك بأحكام من بينها:

أنّ الأرض الموات التي يقوم الأشخاص باستصلاحها يمكن أنْ تورث، في حين أنّ التي تمنح لرجال الجيش تستغل ولكن لا تورث.

وحكم الشريعة يقول بعدم السماح باستغلال الأرض إلا من خلال صاحبها أو عن طرائق المؤاجرة مقابل مال أو طعام، والشريعة لا تعترف في حالة الأراضي التي تسقى ديمًا "بالمطر وحده"، بخضوعها لصيغة العقود التي تنص على أنّ الأرض تبذر من جانب صاحبها ثم تعهد للفلاح بالمزارعة، أو تبذر وتحصد من جانب الفلاح وهذه هي المخابرة.

لكن المسلمين وبمجرد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى بات البعض منهم يملك ثروات طائلة حتى أنْ البعض بات يملك آلاف الخيول والبعض الآخر لديه الذهب يكسر بالفؤوس...

أمر آخر حصل فإنّ حكام المسلمين باتوا يهبون الإقطاعات إلى حواشيهم بمجرد أنْ يحفر بئرًا فيها أو يشق قناة، وهذه القضية مع تكدس الثروات لدى بعضهم باتت سهلة ومتيسرة، والحكام المسلمون باتوا يشقون الأنهار من بيت مال المسلمين، ويمنحون الأراضي المحيطة بها إلى الأقارب والمتنفذين، سارع الموسرون والأثرياء من المتنفذين بالاستيلاء على الأراضي لمجرد أنهم حفروا بها بئرًا أو شقوا فيها قناة وعندها لا يترتب عليهم سوى العشر، وهذا النوع من الإقطاع يخوّل صاحبه أنْ يزرعه ويزارعه ويؤجره بل إنه يورثه، ولا يستطيع أنْ ينتزعه أحد منه ... ولم تراعى أي من أحكام الشريعة في ذلك.

وببلوغ الأمر إلى العباسيين تطور الاقتصاد بشكل لافت، فانتقال المجتمع من الزراعة الضيقة إلى الواسعة والتجارة الرابحة أدى ذلك إلى قيام طبقة من الأثرياء وأصحاب الأراضي الواسعة، وباتوا يحتاجون إلى أعداد هائلة من المستخدمين.

فوجد الملاك الزراعيين الحل بتوسيع تجارة الرقيق فابتدعوا طريقة جديدة لا تقرها الشريعة وهي النخاسة، فازدهرت تجارة الرقيق، وقد تطور هذا النوع من التجارة حتى ابتنى المسلمون مدنًا شملت معظم الساحل الشرقي لأفريقيا لغرض شراء العبيد من آسريهم وشيوخ عشائرهم، يجلبونها لغرض العمل في زراعة الأراضي المملوكة للإقطاعيين من أثرياء وأقارب وحواشي السلطة.

والنخاسة هو نوع من الرق لم تقرّه الشريعة التي اشترطت أنْ يستعبد الأسرى في الحروب ولكن في هذه المرة وجد الأثرياء الحاجة إلى مستخدمين وبأعداد هائلة، فازدهرت تجارة الرق، وكان المصدر الأساس لها هو الرقيق الأسود الذي جلبه النخاسون.

البصرة بالذات، وبسبب تكرار الفيضانات فيها تحولت إلى ملحية يلزمها قشع السبخ من على وجهها بصورة مستمرة، وهكذا صار العمل الرئيس الذي استخدم فيه الزنوج في البصرة هو إزالة الطبقة الملحية "السباخ" التي تغطي التربة لإظهار التربة الخصبة الصالحة للزراعة، وكانت أكوام الملح معروفة في البصرة تبدو كالجبال.

وكانت أراضي المستنقعات التي تسمى البطيحة، والتي تمتد من البصرة إلى واسط وكذلك الأهواز، مغطاة بالبردي والقصب، وتشكل بؤرة للأوبئة والأمراض.

وكان الزنوج يشتغلون في مجموعات بلغ عدد إحداها 15 ألف شخص، وقد جردوا من جميع الحقوق وباتوا ملكًا صرفًا لسيدهم، له الحق بالتصرف بهم كيفما شاء بوصفهم جزءًا من ثروته، ولا يتم دفع أية أجور لهم بالمرّه .  

وهم لا يعيشون في البيوت بل في العراء، وكان التعامل معهم يتم على وفق مبدأ يقول: "العبد إذا جاع نام وإذا شبع زنى".

فقامت طبقة ثرية إلى جانب طبقة من المعدمين الفقراء.

ومن جراء التعامل معهم بقسوة وإذلال وسوء المعاملة، فقد بدأت ثوراتهم مبكرة في العراق ضد مستعبديهم في البصرة أيام مصعب بن الزبير.

وبهذا، فإنّ الثورة مختمرة في أذهان العبيد لا بسبب لون بشرتهم بل بسبب التعامل معهم، وثورتهم ليست عنصرية بل طبقية، وهم بانتظار مَن يقودهم.

في تلك الفترة ظهر علي بن محمد، والذي عرف لاحقًا بـ صاحب الزنج، بعضهم زعم أنه فارسي، ومنهم مَن يرد نسبه إلى أصل عربي، أما هو فقد زعم أنه علوي، وأنّ نسبه ينتهي إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

وأعلن عن نفسه محررًا للعبيد، ومصلحًا للدين، ومواجهًا للفساد على منهج علي والحسين "ع"، لكن الوقائع تدحض تلك الادعاءات لأنَّ:

فهل كان برنامج صاحب الزنج يهدف إلى إصلاح شامل للنظام الاجتماعي القائم أم مجرد حركة ترمي إلى تحسين أحوال طبقة اجتماعية معينة...؟

وهل كان شيعيًا أم أنه ادعى النسب العلوي لنفسه ليضفي على حركته سندًا شرعيًا عند العامة ...؟ ذلك أنّ الناس اعتقدوا في ذلك الزمان أنّ التغيير للأنظمة القائمة سياسيًا أو اجتماعيًا لن يقوم إلا على أيدي يد علوية تتصل بأهل البيت، ففي عام 260 شهد العالم الإسلامي غيبة الإمام المهدي، وهو الإمام المنتظر عند الشيعة الأمامية، وهم ينتظرون عودته ليملأ الأرض عدلًا بعد أنْ ملئت جورًا... وفي ذلك الوقت بالذات كانت الدعوة الشيعية في أوج انتشارها، فالدولة الفاطمية للشيعة الإسماعيلية في شمال أفريقيا، والصفارون يؤدون دورًا مهمًا في تقوية المذهب الشيعي في بلاد فارس وفي طبرستان الممتدة بين جبال البزر وساحل بحر قزوين الجنوبي تحت حكم الحسن بن زيد العلوي، والقرامطة يبثون مبادئهم بين العامة.

في الوقت نفسه، فإنَّ كل حركة قامت في العالم الإسلامي مهما كان نصيبها من الحق والصواب وصمت من قبل الحكم ووعاظ السلاطين وأتباعهم بأنها زيغ وزندقة وخروج على الدين والدولة.. وكل حركة إصلاحية لكي تحظى بقبول العامة ينبغي أنْ تستند إلى حجة دينية شرعية تبرر قيامها ضد النظام القائم ..

ولذلك؛ فإنّ جميع الحركات الاجتماعية التي سبقت ثورة الزنج أو تلتها طوال العصور الوسطى اتخذت الدين ستارًا لها يحجب أهدافها الاجتماعية والسياسية.

فالمنحى الأساس في ثورة الزنج أنها دعت إلى تحسين أحوال العبيد ومعاملتهم –كما أمر الله ورسوله- بالرفق والحسنى، والعمل على تحريرهم بأي وسيلة كانت، فخاطب صاحب الزنج ملّاك العبيد وأسيادهم قائلًا: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون لهؤلاء الغلمان –يعني الزنج- الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم أنْ تفعلوه بهم وجعلتم عليهم ما لا يطيقون ...

كانت ثورة الزنج حربًا اجتماعية ذات طابع طبقي؛ أي: أنها ثورة العبيد وأنصاف العبيد ضد الملاكين من أصحاب الأراضي، وهي لا تختلف عمّا شهدته روما من ثورة للرقيق قبل الميلاد، وفي العصر الحديث الحركة التي تزعمها توسين لوفيرتور في هاييتي، والعصيان الذي أثاره العمال الهنود في الناثال بزعامة غاندي ...

لكن برنامج صاحب الزنج السياسي لم يكن تقويض العبودية وهدمها كليةً بل إلى تحرير الزنج أنفسهم فحسب، ووعد أتباعه من الزنج أنْ يملكهم العبيد والإماء وفعل ذلك في الميدان في حروبه، واسترق أعداءه وعاملهم معاملة العبيد سواء بسواء، وعندما حاول ملاك العبيد أنْ يغروا صاحب الزنج بالمال ليطلق سراح عبيدهم أمر ببطح الملاك أو وكلاءهم ودعا غلمانهم لضربهم بجريد النخل فانتقم العبيد ولأول مرة من سادتهم الذين طالما اضطهدوهم وأهانوهم.

وعندما انتهت ثورة الزنج وجدوا في سجون مدينة المختارة التي أسسها صاحب الزنج آلاف الأسرى.

ومن ناحية المعتقد، فقد اعتنق صاحب الزنج مذهب الخوارج الأزارقة، وهو مذهب يبيح استرقاق أعدائهم من المسلمين، وقتل أطفالهم ونسائهم بوصفهم كفارًا مارقين ...

وبعد احتلال الزنج لمدن عبادان والأبله والأهواز أطبق حصاره على البصرة وقطع المواصلات عنها، وعزلها عن المناطق المجاورة لها عزلًا تامًا، وراح يحشد الأعراب ضدها في حين كان الخليفة العباسي الذي ابتنى مدينته الموفقية قبالة المختارة مدينة صاحب الزنج على الضفة الأخرى من شط العرب قد انشغل بإيصال الميرة إلى المدينة التي عضّها الجوع وأضرّ بأهلها، وشنّ هجومه عليها في يوم الجمعة 17 من شوال عام 257 "7 أيلول من عام 871"، فدخلها قادة جيوشه من ثلاث جهات، وأعملوا فيها القتل والحرق طوال يومي الجمعة والسبت، وألحقوهما بيوم الاثنين، وأعملوا وهم المتعطشون للثأر سيوفهم في جموع أهل البصرة وتحت صيحات: الله أكبر، قتل أهل الزنج كل مَن رأوه من أهل الثراء وأخذوا ماله، ولم تسلم النساء منهم وهم الذين عانوا من الحرمان الجنسي مذ حرموا من التجوال وممارسة الحب البريء ونصف البريء في مرابع صباهم في غابات أفريقيا وأحراشها ، وهكذا أحدقت النيران في المدينة من كل جانب، فالتهمت كل شيء مرّت به من إنسان أو بهيمة أو متاع...

لقد كان عدد القتلى في تلك المجزرة 300 ألف شخص على أقل تقدير، وكانت تمثل كارثة مؤلمة للخلافة، فالبصرة كانت عين العراق ميناه النهري الوحيد السيطرة عليه، تعني السيطرة على التجارة العباسية الصادرة والواردة، وقد أسهبت المراجع في وصف المآسي التي لحقت بالبصرة حتى ليبدو أنها تخربت وفقدت معالمها العمرانية في ذلك اليوم، ومازال السائر "بعد خراب البصرة " حيًا في ذاكرة البصريين.

ومنذ ذلك اليوم المؤلم في حياة البصرة والبصريين ظهر مصطلح جديد في لغة الناطقين بالضاد من المحيط إلى الخليج في نكاتهم ومناقشاتهم الجادة، في كتبهم أو مسلسلاتهم التلفزيونية، في أسواقهم أو جلسات مجالس حكمهم ..ذلك هو: بعد خراب البصرة...

هذا ما تقوله المراجع واستخلصه دكتور فيصل السامر في مؤلفه "ثورة الزنج"، أما عني فأقول:

العبودية والإقطاع ممارستان عامتان عرفتهما البشرية منذ أقدم العصور ...لكنهما في عالمنا الإسلامي طبختا في مطبخ الشريعة الإسلامية، وتمّ تأكيدهما بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وبدأت ممارستهما على عهد النبي، ولكن تلك البدايات منها مَن ارتبط بوصايا قرآنية ونبوية للمسلمين بتخفيف الوطأة إلى أدنى حد ممكن، سواء بعديد الحالات التي رسمت لعتق العبيد أو الإحسان إليهم، واعتبار ذلك من أعمال الإحسان التي يُثاب المرء عليها أو بحصر الرقيق كنتيجة للحروب وحدها ... لكن المسلمين بفسادهم المبكر وأتباع الديانة الإسلامية قد ضربوا تلك الوصايا بعرض الحائط، وبالغوا في غيّهم وفسادهم يقودهم في تلك الدروب قادتهم وخلفاءهم وحكامهم فاستنبطوا طرائق غير مطروقة في استعباد الناس عندما راحوا يمارسون حرب التجارة بالبشر ضد الأقوام التي دخلت في دينهم، فجهزوا السفن وأقاموا المدن لشراء مجاميع بشرية بالتواطؤ مع حكام تلك المناطق وشيوخ العشائر فيها من أجل جلب أعداد هائلة من الرقيق تحت مسمى نخاسة، وهو غير معترف به في الشريعة الإسلامية التي تشترط أنْ يكون الرقيق من أسرى الحروب ضد الكفار، وهؤلاء ليسوا أسرى حروب ولا كفارًا...

من ناحية أخرى، فإن الإقطاع أيضًا ممارسة إسلامية نشأت في مطبخ الشريعة وبدأت ممارستها على عهد النبي، ولكن الغاية منها كانت غير النتيجة التي آلت إليها لاحقًا – وأيضًا بسبب الفساد- من استيلاء على أثمن ما تمتلكه الشعوب أراضيها ومصدر معيشتها إلى جانب قوة عملها واقتسامه بين المتنفذين من أثرياء وملّاك وحواشي السلطان ومحظياته وأزلامه...

وتداخلت الظاهرتان معًا العبودية والإقطاع في سفاح لينجبا حالة تركز الثروة عند نفر منهم مقابل أغلبية ساحقة يلفها البؤس والحرمان والفقر والظلم والقسوة، حتى إذا نضجت الثورة في ضمائر المغلوبين تصدى لها مَن يحاول خطفها وتجييرها لدوافعه في بلوغ السلطة والحكم، وأضفى على نفسه صفات الإصلاح والتقوى والقداسة مستغلًا ظروفهم الملجئة للثورة والجهل المتفشي بينهم، تفشي الجوع والحرمان ليفرض رؤى لا تختلف عن تلك التي ثاروا ضدها فيستبدل العبودية بعبودية أخرى، ويتيح الحرمان المتبادل والقهر المتبادل والاستغلال المتبادل للإنسان.

يحضرني أنَّ روزخونًا "قارئ منبر" كان يمارس مهمته ليلًا في إحدى قرى الجنوب، وكان مجلسه كبيرًا، بحيث ضم كل رجال القرية دون استثناء، لكنه لاحظ همهمة بينهم، وأنهم لا ينتبهون لما يقوله... فأصاخ السمع فتبيّن أنّ السركال دفع لهم سعرًا لمحصولهم من الذرة في تلك السنة بواقع 14 دينارًا للحمل أو الطغار، وأنهم يتململون لأنّ التاجر في القرية الأخرى عرض على زملائهم 16 دينارًا للحمل، فانتبه الروزخون المحتال ليستغل موضع اهتمامهم، فأطلق عقيرته وهو يصيح:

 تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

فكانت مثل صافرة الإنذار عند مستمعيه، فتعالت أصواتهم: تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

حسروا ثيابهم عن صدورهم وبدأوا مع الهتاف يلطمون الصدور: تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

 خرجوا من المجلس باتجاه السركال ثائرون يهتفون: تكَول زينب حمل الاذره بسطعش...

 وهكذا كان فلم يتمكن الروزخون من قيادة القوم فحسب؛ بل خرجوا عن سيطرته وباتت تحكمهم إرادتهم؛ لأنه لامس مشكلتهم، وكانت حصيلته أنْ عمّت سمعته الآفاق، وبات يتقاضى عن ليلته ضعف ما كان يتقاضاه سابقًا.

وهكذا استغل صاحب الزنج زنوجه، فقد لامس محنتهم وقادهم مستعينًا بجهلهم.

وهذا ما يعرفه الروزخون وصاحب الزنج أكثر من بعض الأحزاب الثورية والمنظرون الذين تشغلهم المصطلحات الفكرية، ويغرقون بها فيشيح عنهم الناس، ويشبعون نومًا عمّا يقولون ...!

وحتى لو ظهر مصلح أو ثائر يعمل على تقويض الإقطاع والعبودية تحاربه المؤسسة الدنية ذاتها باستخدام أحكام الشريعة مظهريًا وجوهريًا بتوظيف الجهل فتشيع. إنَّ إلغاء الإقطاع مخالف للشريعة، وإنّ الأراضي التي رُفعت عنها يد حفنة الإقطاعيين وأعيد توزيعها على الفلاحين تعدها شريعة المؤسسة الدينية مغتصبة وتحرم الصلاة فيها فيخشى الناس على ما يأملونه في الحياة الآخرة بعد أنْ تمّ سلبهم مقومات الحياة الدنيا، فيخور وعيهم وإرادتهم ويتحولون إلى جيوش ظلام ضد المصلح ومجابهته، وهو ما حصل لعبد الكريم قاسم رئيس دكتورنا العزيز فيصل السامر رغم أنّ: شعار قانون الإصلاح الزراعي ومئالاته هي ذاتها التي قال بها النبي "ص":

فالنبي قال: "مَن أحيا أرضًا مواتًا فهي له".

وقانون الإصلاح الزراعي كان شعاره: "الأرض لمن يزرعها".

مَن هو فيصل السامر وما حكايته مع نوري سعيد ...؟

رغم أني طلبت من صديقتي العزيزة المهندسة المعمارية التي تحمل ثغرًا كثغر البصرة قبل خرابها الذي عرفت به بوصفها ثغر العراق الباسم أنْ تحكي لي عن نشأة والدها، وعن قريته في المدينة إحدى نواحي البصرة ...هل كانت في قريته خيولًا أم حميرًا...؟ لأحدد نمط حياته في مراحلها الأولى، أين تقع قريته ...في عمق الريف أم قريبًا من الحضر...؟ كي أحدد نوع الحجل أو الخلخال الذي تتباهى به جميلات القرية ...؟ وتحديد صلتهن بأهزوجة زميلاتهن في قريتي الأم القائلة:

البين طكَها وطكَ رجلها ..سكاربيل يطكَ حجلها ...؟

إلا أنّ السيدة ياسمين فيصل السامر -كريمة أستاذي العتيد- راحت تنشغل في بيان نسب والدها السامر من فخد كذا وعشيرة كذا ...وقبيلة كذا وبطن ذاك ...؟

حتى أني همهمت قائلًا: يمعوده ...ما شأني بالعشائر والبطون وأنتم العراقيون وإن انتسبتم لبطون العرب سواء منها البائدة أو التي تلت فإنّ مضغة دم واحدة منكم ترسل لغرض فحص الدي أن أي تظهر أنّ 70% من جيناتكم من القفقاس ...

فإذا كانت الرمادي جمجمة العراق وبوابتها الغربية ومستودع جيناتها اليعربية، وموطن البئر الذي فيه دفن الحبل السري لجدهم الأقدم، والتي إنْ تكلم أهلوها قالوا: ابن العم ولا يستخدمون مفردة ابن الخال أو بنت الخالة، مثلما يجري على ألسنة الجنوبيين من العراق، الرمادي أظهر مشروع العراق الجيني في حزيران 2017 أنّ نسبة الجينات العربية فيها تقتصر على 30% بمعنى أنها عربية بنسبة 30% فقط أما بقية الجينات فـ: شي قوقازي، وشي تتر، وشي بربر، وشي من التبت، وشي من الفايكنغ ...فكيف الحال في البصرة أو موطن حمولتكم في المدينة، هل تطمحين بنسبة أعلى من 4% ...؟ فَعلام تدققين بالنسب إذن...؟

عن نفسي، فقد حصل وأنْ كنت في زيارة تفتيشية رسمية في دوائر الحكومة في عقد الثمانينيات...وكان يرافقني أحد زملائي الذي كان يقوم بمهمة مثيلة، ولكن كل منا مكلف بعدد من الدوائر، وحصل أنْ زرنا دائرة من ضمن الدوائر المكلف بها زميلي ولست أنا. استقبلنا فيها موظف مرموق صافحته واقتصر سلامي على المصافحة، فاستغرب زميلي قائلًا: كيف تكتفي بمصافحته وهو ابن مدينتك...؟ استغربت لأنّ الرجل أشقر بعيون خضراء ...؟ قلت: هل حقًا أنت من السماوة..؟! قال: بل من الرميثة التابعة للسماوة، قلت: قل ذلك ...فنعم الرميثة دخلها الإنكَليز ، لكن الرجل اكتسى وجهه بالارتباك والخجل، فسارعت كي أهدأ من روعه إلى القول بأنّ السماوة دخلها الكَركَة، وهم جنود الإنكَليز من الهنود الذين شكلوا النسبة الأعظم من جيوش بريطانيا يوم احتلت العراق يا صديقي فلم تعرف أجيالنا الشعر الأشقر وزرقة العيون...

ومن غريب الصدف أنه وبعد 25 عامًا على تلك المقابلة، وقد ترقى ابن الرميثة فصار مديرًا عامًا لإحدى الدوائر في وزارته في حين أنا رأست هيئة النزاهة، دخل مكتبي أحد موظفي المكتب وهو يقول: إنّ شخصًا عندي يرجو مقابلتك وناولني قصاصة الورقة فقرأت اسم الرجل وكان صاحبي الرميثي الأشقر سليل أبو ناجي، دخل الرجل وبعد استقباله من قبلي بود راح يحكي مظلوميته بعينين زائغتين من خلف نظارته السميكة، وهو مرتبك ويكاد يخرج من هدومه، فهمت منه أنه صادر بحقه أمر بالقبض بتهمة فساد، وفي حين كنت أنظر إليه مبتسمًا كنت أخفي ضحكة كبرى تكاد تنفجر، وعندما انتهى من كلامه قلت: هل أنت فلان الفلاني كنت بتاريخ كذا موظفًا في دائرة كذا وزارة كذا ...؟ كاد أنْ يغمى على الرجل لأني أعرف تاريخه الوظيفي وسيواجه بكل لفتة فساد، وما أكثرها قد اقترفها خلال عمره الوظيفي. وبعد تردد وتمتمة قال: نعم ...قلت: هل تتذكر السيد فلان الفلاني من دائرة كذا المشرف عليك "زميلي" قال: نعم ...قلت: هل تتذكر أنه في اليوم كذا من العام كذا زارك يرافقه زميله، وزميله وصمك بصلتك بالإنكَليز ...؟ قال: نعم. وإنّ زميله ربما له صلة قربى بالكَركَه ...؟ قال نعم ...قلت أنا هو، الفتى القادم من السماوة ومعظم جيناته ربما جذورها تنتهي بالكَركَه...! تضاحك الرجل بخفوت واصطناع؛ لأنّ فكره مشغول بأمر القبض عليه بتهمة فساد...

أنا وبطريقتي الخاصّة تمكّنت من قراءة جينات دكتور فيصل السامر من واقع حادثة رواها الأستاذ الدكتور ...الأعرجي سأعرضها بلهجتي وإخراجي:

حكاية دكتور فيصل السامر وصلاح خالص مع نوري سعيد:

دكتور فيصل السامر ودكتور صلاح خالص كلاهما من البصرة، وكلاهما يعملان بصفة أستاذ في كلية الآداب بجامعة بغداد، وكلاهما يساري التوجه تقدمي الثقافة، لا توجد دلائل بانتماء السامر إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، في حين توجد دلائل على انتماء دكتور صلاح خالص للحزب، وطبعًا صفة اليساري أشمل من الشيوعي، فاليسار يشمل بالإضافة إلى الشيوعيين اليسار الوسط والمعتدل والمتطرف ولكن الشيوعي يكون عندما ينتظم المرء رسميًا إلى الحزب الشيوعي ويدفع اشتراكات ويحضر اجتماعات أما التوجه والثقافة فهي ذاتها...

مارس السامر النشاط السياسي، وفي عام 1954 أصبح مرشح الجبهة الوطنية الانتخابية عن البصرة إلى البرلمان، لكن موقفه المناهض للحكم الملكي ونوري سعيد أدى إلى فصله من الوظيفة الحكومية، بل إنّ نوري سعيد لم يكتفِ بذلك فألحقه وزملاءه بالخدمة العسكرية الإلزامية وأدخل دورة ضباط الاحتياط العاشرة التي خصصت للمفصولين سنة 1955.

لكن فيصل السامر وزميله الدكتور صلاح خالص، وكلاهما كانا من أساتذة جامعة بغداد رجعا من معسكر السعدية وافتتحا مطعم كباب في شارع الرشيد، وعلقا على واجهته لافتة مكتوب عليها:

 مطعم كباب الجامعة... لصاحبيه: الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر.

وطبعاً كانا يحتفظان بهيئتهما الوقورة والمهندمة كأستاذين ولا يلبسان طاقية عمال المطاعم الطويلة، ويعتنيان بشعر الرأس باستخدام زيوت هندية تجعله لامعًا وأملسًا على غرار شعر راجي وشامي كابور... ويحرصان على لبس المريولة أو وزرة العمل بلهجة العراقيين، دكتور صلاح على الدخل ودكتور فيصل يوزع الطلبات على الزبائن، واختارا شيفًا يعمل الكباب بأنظف وأفضل صورة...

دكتور فيصل يحمل الكباب ويتلاعب بالمواعين مثل توم سوير في القصة المشهورة عندما يكلفه جده بصبغ جدار البيت الخارجي فيغوي أقرانه من الأطفال بحركات بهلاوانية مع الفرشاة والصبغ حتى استدرجهم وجعلهم يقومون بالمهمة عوضًا عنه، وفوق ذلك أنقدوه ما بحوزتهم من سنتات كانت معهم ليسمح لهم بالتمتع بالتعامل مع الفراشي والصبغ ... فقد كان دكتور فيصل السامر يصيح بصوته الجنوبي الرخيم: دكتور صلاح عيني نفر كباب وياه طماطه شوي وداريها لخوك الأستاذ...يجاوبه دكتور صلاح خالص من مكانه: يتدلل الأستاذ خويه دكتور فيصل من بطن عيني...! وهكذا جرت الأمور، وكان من نتيجة ذلك أنْ تجمهر خلق كثير على مطعم كباب الجامعة لصاحبيه الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر، وانتشرت الحكاية انتشار النار بالهشيم، دكاترة، أساتذة بجامعة بغداد يشتغلون كببچيه ... ليش ...؟ لأنّ رئيس الوزراء نوري سعيد فاصلهم من الوظيفة..؟ اشتغلت تقارير الشرطة السرية ووصلت إلى مكتب نوري سعيد رئيس الحكومة "سري وشخصي لاطلاع الباشا شخصيًا" وبعضها يقول: لو حصلت انتخابات وترشحا فيها الدكتوران صلاح خالص وفيصل السامر لركلا نوري سعيد والوصي عبد الإله كلاهما وحلْلّا بدلًا عنهما في حكم العراق.

تضايق نوري، حوصر نوري، شعر نوري بالاختناق...

ولم تمضِ غير أيام حتى وقف الشرطي في باب المطعم ووجه كلامه إلى دكتور صلاح خالص قائلًا: الباشا "يقصد نوري سعيد" يريدك.

 سأله صلاح: شوكت ...؟ رد الشرطي: هسا...

ذهب معه فأدخله على مكتب نوري سعيد ولم يطل انتظاره في غرفة مدير المكتب فأدخلوه على نوري سعيد ودار بينهما حوارًا من بين ما جاء فيه:

نوري سعيد: شنو معنى هذا المطعم...؟

صلاح خالص: باشا نريد نعيش خوب ما نموت من الجوع...!

نوري سعيد: يعني ما لكيتوا له اسم غير مطعم الجامعة...؟

صلاح خالص: اشبيها باشا، إحنا أساتذة بالجامعة ونحب شغلنا.

نوري سعيد: يعني كان لازم تكتبون لصاحبيه الدكتور صلاح خالص والدكتور فيصل السامر...!؟

صلاح خالص: باشا هذا لقب أنا أخذته بجهدي من فرنسا، وفيصل أخذه من القاهرة.

نوري سعيد: أوهوه ...أنت صدكَ دوختني...؟ ليش ما تترك الشيوعية وتخلصنا...؟

صلاح خالص: وأنت ليش ما تترك بريطانيا باشا...؟

نوري سعيد: لأني أشوف مصلحة العراق ويَه بريطانيا.

صلاح خالص: وأنا أشوف مصلحة العراق بالشيوعية.

نوري سعيد: صلاح، هسا انت عرّضتها وطوّلتها...؟ تنطيني كلام متسوي أنت وصاحبك الطلاب شيوعيين...؟

صلاح خالص: باشا. إحنه بالكلية أساتذة مو غير شي.

اتصل نوري السعيد بوزير المعارف يأمره بإرجاع صلاح والسامر إلى وظيفتهما في الجامعة.

رجعا للمطعم وكتبا على اللافتة "مغلق لعدم التفرغ، معروض للإيجار أسبوعيًا".

دكتور فيصل السامر قال لصاحبه: ليش ما نغلقه نهائيًا ...؟

رد عليه دكتور صلاح خالص: لا يابه ...الميت ميتي واعرف شلون مشعول صفحه، اسبوع أسبوعين وهمين يرد يفصلنا...! وردد أغنية:

اليمشي بدربنا شيشوف...يابو علي ...؟ لو موت لو ساده ...يابو علي

واحنا دربنا معروف يابو علي...والوفا عدنا عاده ...يابو علي

هيه يالله...هيه يالله...هيه يالله ...

***

د. موسى فرج

في المثقف اليوم