قراءة في كتاب

جمال العتّابي: العراق.. قرن من الإفلاس

بعد مرور قرن على وجود (العراق)، تجدر العودة إلى النقطة الأولى "مبدأ المصالحة الوطنية" لغرض المراجعة على الدوام وفحصها، كما حددها من تعاقبَ على حكم العراق أنفسهم، المبدأ الذي جرت التضحية من أجله خلال تاريخ العراق المعاصر.

بيد أن غياب الإرادة المشتركة من جانب النخب لإدراج هذه المصلحة في صياغة المشاريع السياسية المشتركة، حوّلها إلى أسلحة قتال استخدمها البعض ضد الآخر. وهكذا، فان الإدارات المجزّأة إقليمياً، ومجموعة المصالح المختلفة، السياسية والاجتماعية والمجتمعات العرقية والدينية تمنع الاعتراف بإطار مرجعي موحد في ظل غياب تاريخ الدولة السياسية لقرون عديدة. (عادل بكوان) المؤرخ والباحث الاجتماعي العراقي – الفرنسي يرى في كتابه الأخير " العراق قرن من الإفلاس من 1921 إلى اليوم" الصادر عام 1923، ان الأزمة العراقية التي يعاني منها العراق طيلة قرن من الزمن، هي أزمة هوية، نقف أمامها عاجزين، وأن قرناً آخر يبدأ ولا أمل هناك في أن يصبح العراق دولة مستقرة، مستقلة، آمنة، ومزدهرة اقتصادياً، طالما لا توجد قوى سياسية واجتماعية تتبنى "العرقنة" كهوية وكعقد اجتماعي، وإطار للعيش المشترك مع وجود الاختلاف. وما يزال التاريخ يعطي مبررات للقوى الكبرى والإقليمية والدولية بأن تستخدم الوسائل كافة لتحقيق مصالحها. من هنا أهمية كتاب (بكوان) في تناوله المشاكل التي تعترض بناء دولة ذات مؤسسات وبنية تحتية، والخلاف حول المرتكزات والأسس التي يقوم عليها هذا البلد، الكتاب يتناول بجرأة وموضوعية أسباب الخلل في السلوكية السياسية والاجتماعية العراقية، المشكلة ان البلاد جهدت منذ عام 1921 بحثاً عن " اسطورة سياسية" تسمح لها بإنشاء هوية مشتركة بين الجميع، نسجتها نخبة هي في قطيعة كاملة مع البيئات المجتمعية المفتقرة هي الأخرى إلى الروابط الثقافية والسياسية، من أجل ذلك ، ومنذ " الخطيئة الأولى" في قرار بريطانيا تأسيس دولة عراقية عام 1921، بدأت ماكنة الصراع تطحن العراقيين باسم الوحدة الوطنية، بينما تبقى شرعية الدولة موضع تساؤل على الدوام.

 فقد كانت مرحلة نشوء وبناء الدولة عملية معقدة من حيث مكوناتها الداخلية والقوى الخارجية المتحكمة فيها آنذاك، ربما كانت سهلة في الظاهر، لأنها كانت نتاج مساومة تاريخية بين مستوى متدنٍ من تطور العلاقات الاجتماعية وشبه انعدام لمؤسسات الدولة من جهة، واحتلال بريطاني قاهر من جهة أخرى، فاتخذت هذه المساومة لاحقاً صورة الملكية المستوردة، وهو تناقض حاولت الملكية العراقية معالجته إلا أنها تعرضت للفشل، حتى قيام الجمهورية في 14 تموز 1958 التي وضعت حداً له، إلا انه فتح الباب الواسعة أمام صعود ومغامرات العسكر والقوى السياسية المغامرة في سلسلة انقلابات دراماتيكية ودموية تتوجت باستحكام الأنظمة الدكتاتورية القمعية. هذا الماضي الذي لا ينقضي أثقل  كاهل البنى السياسية والاجتماعية والثقافية للبلاد إلى أجل غير مسمّى، وسلّط الضوء على استحالة قيام وعي وطني يجمع العراقيين يتعرفون فيه على أنفسهم وعلى حجم الاستعباد والقهر الذي أصابهم، جرّاء قوى استباحت العراق في الميادين والمستويات والاتجاهات كافة، الأمر الذي أدّى إلى إهدار هويته التاريخية والثقافية والاجتماعية، واستعاضت عنها بهوية مزيفة انفجرت كالفقاعة ، وهي نتيجة ارتبطت بصورة عضوية في الطبيعة الهامشية الاجتماعية والثقافية.

يتساءل المؤلف: هل كانت ثمة أحزاب سياسية في العراق يمكن أن تقود مسيرة وطنية من الناحية النظرية؟ الجواب هو نعم، فيصل الأول، ملك حكم العراق، صمم مشروع اندماج وطني يجمع مكونات المجتمع العراقي، لكنه سرعان ما وجد نفسه في مواجهة جدار من زعماء الطوائف. ويعتقد (عادل بكوان) ان البرجوازية العراقية لم تشكل طبقة اجتماعية مستقلة، إذ تجاوزتها الأيديولوجيات العابرة للحدود، مما أعطاها الذريعة لتسويغ تعاونها مع الدول المجاورة (تركيا، ايران، السعودية)، أو الدولية (الولايات المتحدة، أوربا) على حساب تنمية القوة الوطنية. التعارض الأكثر بداهة بين المكونات العراقية، يسهم فيه الاختلاف في طرق الحياة، والرموز، وفي المآلات الثقافية على مستوى النخب، وفي متعلقات الذاكرة الجمعية، فضلاً عن الأنماط الذهنية المتراكمة على امتداد القرون، والتطلعات المتباينة الى المستقبل، في احتقان العلاقة بين هذه المكونات، مما اسفر عن سلسلة من الأزمات، وفي لحظات بعينها عن انسدادات اجتماعية وسياسية.

 ليس في هذا القول تهميش للأطراف بقدر ما هو واقع له مقدماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لقد كانت الحصيلة النهائية لتهميش وتخريب الهوية العراقية، هو تخريب أسس وبنية الوجود الفعلي للدولة والمجتمع، وهي حالة تؤدي بالضرورة إلى صنع رخويات سرعان ما تنهار.

كل ذلك يضع أمامنا مهمة إعادة بناء الشخصية العراقية وهويتها الوطنية مفتاح البناء الحقيقي ومعاصرة المستقبل، وهي مهمة ترتكز بقدر واحد على ثلاثية الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية البديلة، فقد كشف سقوط الديكتاتورية عن حقيقة بسيطة تقول بأن الاستبداد يتنافي مع الحكمة بشكل مطلق، وحكمة التاريخ بشكل خاص. بدون هذا المنطق لا يمكن دخول معاصرة المستقبل. هذه الحقائق تنظر لها المكونات نظرة ارتياب للأسف الشديد، والمتخصصون في الشأن العراقي لم يأخذوا بالحسبان تلك المعطيات بالجد، كمحدد فاصل، وهو يمثل بالتأكيد إحدى عواقب الظلم الاجتماعي، ولاسيما من خلال الفساد المطنب في أجهزة الدولة كافة، وعلى كل المستويات، الدينية (الطائفية) والسياسية، وهو يقتل في مهده أي أمل في تشكيل الهوية الوطنية أو الانتماء إلى الوطن، ويقضي على الأمل بالتماسك الهوياتي في داخل كل مجموعة أيضاً. ان التحزب المعقول في الحياة السياسية العراقية ينبغي أن يكون تحزباً للقضايا الوطنية الكبرى الهادفة لبناء دولة الحقوق والعدالة الاجتماعية، بمعنى التحزب لمرجعيات البناء الحضاري، العقلاني، الإنساني، وهي مهمة مستحيلة كما  نعتقد من دون تجاوز التطرف والتعصب الطائفي والقومي، ومعالجة الفساد بشكل جاد وجذري. ان الانقلاب الحاد الذي حدث بسقوط الدكتاتورية في عملية احتلال امريكي عام 2003، وضع المكونات أمام مرحلة تاريخية جديدة، والهوية العراقية أمام إشكاليات جمّة، ففي الوقت الذي ينبغي أن يجري التوجّه نحو حل العقد الكبرى، ظهرت طبقات اجتماعية أشاعت الفساد وسرقت الثروة، أغلب هؤلاء يمثلون رموز السلطة والأحزاب السياسية، وخلال العقدين الماضيين ازدادت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية حدّة، وتفاقمت الازمات، واتسعت الفوارق الطبقية بين الغالبية المحرومة من العمل والخدمات، وبين السلطة التي استأثرت بموارد وثروات البلاد، وتركتها نهباً للصوص. تلك السياسات التي تمارسها الأطراف كافة قادت إلى أزمات حادة أصبح من الصعب الآن معالجتها، أو إيقافها على أقل تقدير. هذه المشاكل تعترض بناء دولة ذات مؤسسات وبنية تحتية متينة، فالعراق مازال (دولة) تتخبط في البحث عن ماهيته الوطنية، كما يرى المؤلف الذي تناول بجرأة وموضوعية أسباب الآزمة وابعادها التاريخية، في الفصول الاثنى عشر من كتابه والموزعة على ثلاثة أجزاء، الأول منها تناول " مملكة العراق: حكم الأقلية المتغطرسة " 1921- 1958 "، أقلية تبحث عن البقاء السياسي، وقوة محتلة تبحث عن حلفاء. والثاني، بعنوان "جمهورية العراق بين القومية العربية والقومية العراقية " 1958-2003"، هذه الفترة شهدت منذ بداياتها: ضعف التقاليد السياسية وخضوعها للحزبية الضيقة، وهو الأمر الذي يفسر سبب التحول السريع لهذه الحزبية إلى أداة وأسلوب لإدارة الصراع السياسي والاجتماعي. اما الجزء الأخير فكان " العراق الجديد- الديمقراطي –الحلم المستحيل ما بعد 2003. فيه تمت عملية إعادة إنشاء الدولة العراقية بشكل مرير وفوضوي في سياق العنف الأقصى حيث ارتبط كل شيء بميزان القوى المتنازعة، بالتالي فإن احتكار الدولة للقوة تحوّل إلى هدف بعيد المنال ونظري للغاية، وانمحت دلالته، في مثل هذه الظروف لم يكن من الممكن تصور انشاء دولة من دون قوى سياسية فاعلة تمتلك النفوذ والمال والسلاح، ولم يكن من خيار أمام هذه (الدولة) إلا توكيل أمرها إلى هذه القوى التي تتمتع بقدر كبير في اقناع العامة بأوهام الماضي، فهي الخزين الذي يمكن تأويله، والقادر على تحريك المشاعر بقوة، ليرتفع الوهم إلى مستوى (المقدس) في اغلب الأحيان، ان خطورة هذا الاتجاه تكمن في جعل الماضي مقياساً للحاضر، ومعياراً للحكم على ما فيه من أحداث وظواهر. المؤلف يتوصل من خلال هذه الأجزاء الثلاثة إلى نتائج مهمة وخطيرة اعتمدت الشهادات والاستبيانات والبيانات التي قام بها فريق عمل متخصص، أوكل له انجاز هذه المهمة التي أخذت وقتاً طويلاً في العمل، إلى أن كل مكونات المجتمع العراقي ترسم سيناريوهات مأساوية، من الصعب العثور على أشخاص متفائلين، الأغلب من العراقيين يعتقدون ان الأسوأ ينتظرهم، وان حركة الاحتجاج لا طائل من ورائها، لأن أسباب الإخفاق عميقة، ما عادوا يفاجأون بشيء، انهم يعرفون جيداً ان الإخفاق بات عاماً وهيكلياً، فشل سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي وعسكري وإقليمي في الوقت ذاته. في هذا السياق الباعث على الإحباط، فالأمل المعقود على النخب العراقية يبدو شاحباً في عملية مراجعة شاملة، وتحليل لهذا  " القرن من الإفلاس" فمن غير المرجح أن تشفى البلاد من أمراضها المزمنة.

***

جمال العتّابي – كاتب وناقد

 

في المثقف اليوم