قراءة في كتاب

صالح الطائي: الموتيف وأشياء أخرى

سياحة في كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للبروفسور رحيم الغرباوي

في زمن انقلبت فيه الكثير من الموازين، وتبدلت الأعراف والقيم وحتى المصطلحات بكل ما يمثله ذلك التبدل من فوضى خلاقة وموجهة، تسببت في ابتعادٍ تام عن المألوف، أصبح من الضرورة بمكان تفعيل خاصية الفحص المركز والانتقاء، أي اختيار الصفوة المميزة في أي من الظواهر التي يراد دراستها، سواء كانت علمية أم أدبية، ذلك لأن الأفراد لا يتساوون عادة في عطائهم وإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية والسبب في ذلك هي الفروق الفردية بين شخص وآخر في الحقل الواحد وحتى في الحقول المختلفة. ولا شيء مثل النقد قادرا على انجاز هذه المهمة على وجهها الأكمل، لكن ما العمل إذا ما صار النقاد أنفسهم أكثر من المبدعين (الشعراء والأدباء)؟ هل يمكن أن نُحسن الاختيار، أم أن ذلك سيُدْخِلنا في متاهات قد لا نخرج منها، ولاسيما إذا ما كان هناك تواطؤ بين الأديب والناقد لأن تعاملهم لم يكن أدبيا وإنما كان تجاريا بحتا يضع الربح والخسارة نصب عينية قبل أن يمارس عمله؟ فالفرق بين الدواء الشافي والدواء القاتل يكون أحيانا في مقدار الجرعة ليس أكثر، ولذا يجب أن نوازن جميع الأمور قبل أن يخذلنا سوء التدبير.

من هنا أرى؛ دفعا لصرف الساعات الطويلة من الزمن الثمين في متابعة جُملٍ وأسطرٍ تُطرح أمامنا من شقي باب النقد الواسع على أنها نقد أدبي، وهي تفتقر إلى أبسط قواعد النقد فضلا عن افتقارها للواقعية والتخصص، أن يتم التركيز على الأعمال الناضجة الواقعية التي لا تفوح منها رائحة الصفقات التجارية أو اتفاقات المحاباة والمجاملة.

وأنا هنا لا اتهم الجميع، ولا أنكر فضل المتفضلين، فبين هذا الجمع الغفير والمتعدد المواهب هناك قامات نقدية باسقة تربعت على قمة عرش النقد، وبينها أسماء مشهورة نفتخر بأننا تتلمذنا على أيديهم، وتعلمنا منهم، وأسماء أخرى لا تقل عنهم موهبة، ولكنها لم تحظ بعد بفرصة الانتشار بسبب المجاملات الفارغة التي أصبحت المعادلة التي يتعامل بها المتعاونون وفق قاعدة (شيلني واشيلك).

إن من بين شخصيات القسم الثاني، أقصد الشخصيات ذات التمكين العالي التي لم تحظ بعد بفرصة الانتشار الواسع الذي تستحقه هو الأستاذ الدكتور رحيم الغرباوي الذي وظف تخصصه الأكاديمي من أجل تثقيف النص النقدي بما يرقى به إلى العلمية الأكاديمية والتخصصية الفاعلة بعيدا عن الترهل والإسفاف، أقصد إسفاف بعض من يطرحون أنفسهم في الساحة على أنهم نقاد مع علمهم قبل غيرهم أنهم لا يملكون أدوات النقد الحقيقية، وانهم يمتهنون النقد الأدبي لأغراض التكسب والمجاملة والشهرة.

أما البروفسور الغرباوي فكان المنهج العلمي ديدنه في جميع مؤلفاته النقدية التي ناف عددها على عشرة مؤلفات، والتي تناول فيها ثيمات مهمة وواقعية، تجنب غيره خوض غمارها، وتردد الآخرون كثيرا في ملامسة حافاتها، لا لأنها خارج سياقات تخصصهم فحسب، بل ولأنها تدخلهم في متاهات معقدة بتناولها موضوعات شائكة تحتاج إلى نباهة وعلم ومقدرة وكفاءة وتخصص فضلا عن الموهبة التي تتحكم بكل تلك المسميات؛ من أجل تمكين الناقد من الإبحار في محيطاتها اللجبة والدخول إلى أجوائها المضطربة دون وجل من كبوة.

ولأن البروفسور الغرباوي سبق وأهداني جميع مؤلفاته، وآخرها الكتاب الذي أتناوله في هذه الدراسة البسيطة، تلك المؤلفات القيمة التي قرأتها باحترافية، فقد لمستُ عن قرب، وشخصت عن دراية وعمق جميع تلك المواهب المجتمعة لديه. وكانت آخر محاولاته النقدية الموفقة الغوص في فضاءات مسارات ما بعد الحداثة في نتاج شاعر كبيرٍ مثيرٍ للجدل، عشقه بعضهم لأنه يترجم معاناتهم في الحياة، وأبغضه بعضهم لأنه لم يلتزم قواعد الشعر المقولبة التي نشأوا عليها، واحتار به بعضهم لأنه يجمع بين الجدية والفوضى من خلال تداخل الأجناس، والالتزام والعبث، والبهجة البيضاء والكوميديا السوداء، دون أن يترك فواصل واضحة بينها.

هذا الشاعر المُخْتَلف فيه هو الكبير موفق محمد الذي خلق لنفسه فضاءً ميتافيزيقيا من خلال تعشيقه بين الواقع والخيال عن طريق تجنيسٍ جديد للمفهوم الشعري بين شعر التفعيلة وشعر النثر والشعر الحر والشعر الشعبي في بنية القصيدة الواحدة، فضلا عن محاولاته الجريئة جدا في كسر التابو والاقتراب بتهكم من (المقدس) دون أن يخل بقواعد الأدب، في مجتمع بات يقدس حتى أعمدة الكهرباء.!

رصد الغرباوي بعينه الفاحصة المتمكنة وموهبته العلمية وجرئته كل تلك التعقيدات المخاتلة في تكوين (القصيدة الموفقية) وطار في سماوات مجاهيلها يستكنه علة ويستكشف ختلة مليئة بالفوضى الحداثوية التي حولت شاعرنا إلى (ظاهرة) أملا في استكناه وجدانية الشاعر، ذلك لأن الغرباوي يرى أن الشعر يمثل هوية الشاعر الوجدانية ويعبر عن خلجاته. من هنا نجده يجزم دون تردد أن النص الشعري الجزل والشعبوي؛ وأنا أقصد بهذا المصطلح (الشعبوي) تمكن الشاعر من مناغمة مشاعر المتلقي الشعبي حتى من هم من الطبقات المجتمعية البسيطة، وبما فيها أكثر الطبقات شعبيةً، وهذا ما هو عليه الشاعر الحلي موفق محمد الذي صار اسفنجة امتصت ما حولها حتى مُلئت قهرا وحسرة بالآثار التخريبية التي أحدثتها التيارات المتنوعة المشارب، المتصارعة على بساط الواقع، ومن هنا جاءت الكاريزما التي رسمت ملامحه الشعرية، تلك الملامح الثورية ذات التأثير الواضح والفاعل على سلوك المجتمع بكل فئاته. هذه التفاعلية هي الغاية السامية التي خلقت الشعر بداية، وهي التي سايرت التاريخ الشعري الإنساني عبر سيرورته التاريخية، فالشاعر هو مرآة الواقع التي تنعكس عليها كل نشاطات الإنسان، ولولا ذلك ما قَدستْ بعض الشعوب شعراءها، وهي نفسها التي حولت الشاعر إلى أيقونة لها تكوينها الخاص الذي يختلف عن تكوين غيره، فأصبح مصدر الفخر والمباهاة.

ومن المؤكد أن الغوص في مثل هذا العالم المليء بالمفاجئات والكمائن والمكائد والفوضى؛ التي أعدها موفق محمد يحتاج إذا ما وضع تحت مشرط النقد إلى شخصية جريئة وشجاعة مدعومة بالعلم والدراية والمقدرة على التفكيك والتحليل والاستنتاج، فلطالما كان رد الفعل الحقيقي مساو للفعل بالقوة، ولكنه مخالف له في الاتجاه. وهو الأمر الذي شَمَّر له البروفسور الغرباوي عن سواعد قلمه المثقف ليخوض تجربة قد لا تعد الأولى من نوعها، ولكنها من الفرص النادرة التي أتاحها الغرباوي لنا لنطلع على بعض خفايا موفق، وقد وفق في ذلك كثيرا.

إن كل الذين استمعوا أو قرأوا شعر موفق محمد شخصوا دون تردد مقدرته الفائقة على خلق نصٍ شعري مشاكس جدا، فرض نفسه على الواقع بجدارة، واستحق أن نطلق عليه تسمية (النص الموفقي) لينماز عن غيره. وتأتي مشاكل النص الموفقي من كون الشاعر ـ على خلاف جميع الشعراء عبر التاريخ ـ لم ينهج منهجاً معروفا ومتداولا، فهو لا يقترب أبدا في نسقه الذي اعتاده مع أنساق النظم التقليدية المعروفة والتي يلتزم الشعراء بقواعدها حرفيا، فيحبس شاعر العمود نفسه في قوالب القواعد المدونة من الوزن إلى الروي ووحدة القصيدة ومضمراتها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، لأنه متى ما خرج عنها يفقد نتاجه تسمية (شعر) ولا يحسب من الشعر أصلا، ويلتزم ناظم الشعر الحر بالقواعد التي وضعتها مدرسة الشعر الحر لا يخالفها ولا يخرج على سننها. فالنص الموفقي مثلما هو معروف خرج على جميع هذه القواعد والأنساق والمتعارفات، واختط لنفسه مسارا شائكا شائقا فيه البعد كله عن المسارات المعروفة والمألوفة منذ فجر التاريخ، فنصوصه وهي أغلبها من السهل الممتنع ممكن أن تحمل بين طياتها كل عبث الحداثة وفوضى ما بعد الحداثة وجنونها وغرابتها ومفاجئاتها وخفاياها المدهشة والمحيرة والمبهمة.، وأكرر ثانية أن اجتماع كل هذه الأبعاد في شخص شاعر يحتاج إلى ناقد مجد ومُجيد ويحسن الاشتغال على الجوانب المبهة والمضمرة، وهذا ما فعله البروفسور الغرباوي وأحسن في صنعه.

فضلا عن ذلك أرى أنه لا يمكن اكتشاف طبيعة تلك المسارات المتعرجة لمن لا يملك المؤهلات العلمية والتخصصية المطلوبة وأولها الإلمام بتقنيات التعامل الفكري مع منهج ما بعد الحداثة لأنه يسيطر بشكل تام على مفاصل الشعر الموفقي. والمعروف أن عصر ما بعد الحداثة الذي يتسم بالرومانسية الثورية أسس للعمق الثوري المنفلت المتمرد بعد أن افتتح مشواره الغريب بإعلانه عن انتهاء مرحلة السرديات الكبرى، وبعدها أعلن عن نفسه خارج سياقات المعرفة التقليدية، وهو بذلك الوهج بدا وكأنه ليس متاحا إلا للثوريين الذين تنطوي دواخلهم على روح الثورة والتمرد المستفز.

هذه المثابات المحيرة كلها مجرد ثيمات تستفز الآخر المتمسك بالموروث، والخائف من مخالفة السنن لكيلا يُتهم. وحدهم الثوار الحقيقيون من ذوي الطباع العبثية المفعمة بروح الصعلكة التاريخية دون أن تتصعلك حقا، هم من امتلكوا الجرأة على التمرد على كل القيم التقليدية التي تُحَجِّم دور الإنسان في الحياة، وهذا ما هو عليه الشاعر موفق محمد، هذا الشاعر المثقف المدكوك في عمق آلام الطبقات الشعبية المسحوقة والمُسْتَغَلة، ليُعلن أنه نبي بلا رسالة، جاء ليبلغهم بالتغيير.  وما عليه الناقد الفذ الذي تمكن من سبر أغوار هذا العالم الفانتازي.

من هنا تجد الشاعر موفق محمد يعايش الأحداث بعمق وينتبه لما تركته الأيديولوجيات المتصارعة على نفسية الإنسان البسيط، وما خلفه الصراع المجنون في شرقنا المُسْتَنْفر المليء بالحروب والمؤامرات، بعد أن داست قدم المحتل الأمريكي القذرة أديم أرضنا الطاهرة، وافرغت نظمنا العربية جعبتها من الشعارات الزائفة عن الاشتراكية والحرية والوحدة والقومية والتحرير والهدف الواحد، لتتفرغ للهوها وعبثها، لغلمانها وجواريها، لكؤوسها وطاولات قمارها، وتحولت قبائلنا إلى مجالس للعراضة والنهش الملياري بلا رحمة، ليترجم ذلك كله إلى صرخات تخرج من أعماق الروح لتدخل أعمق أعماق الوجود ، فهي ثيمات تحكي مرحلة ما بعد الحداثة بنوازعها وأفكارها المتمردة. تلك الصرخات التي استقبلها مؤشر البروفسور الغرباوي فحولها إلى صور وما أبهرها من صور.!

من هنا جاء شعر موفق انعكاسا لما تركته إسقاطات تلك الأحداث والحوادث على نفسه الشفافة، وهذا صبغ شعره بسمات المرحلة الخطيرة التي يمر بها عالمنا المضطرب اليوم، وقد نجحت هذه الصبغة في تحويله إلى ظاهرة شعرية فريدة، بدأت مساحتها تتسع بين الشباب الداعي للتغيير، وكل المتمردين الآخرين الذي عركتهم صعوبات الحياة، وذلك لأنهم وجدوا شعره قريبا من حجم آلامهم متساوقا مع أحزانهم ومناغما لمشاعرهم. فالشاعر الناجح ليس من ينظم الكلمات المبهمة بحجة الثراء الفكري، فتلك قارونية غير محببة، وإنما هو الشاعر الذي يأخذ المعارف وينزلها من عليائها ويطرحها بين الناس بمفاهيم بسيطة مستساغة مقبولة سهلة التداول، وهذا ما يحقق النجاح فعلا.

وهو ما أشار إليه المؤلف الغرباوي الذي شخص بوعي أن الشاعر موفق لم يحصل على هذه المكاسب دون جهد ومعاناة وتفاعل حقيقي مع الآلام والأحداث فقد كان في عين الحدث فاعلا ومتفاعلا، وهذا ما أضفى كل تلك الفوضوية الجامحة على شعره، تلك الفوضى العارمة التي خرجت على التقليد في مسعى جادٍ نحو التجديد، من خلال ممازجةٍ فريدة بين الأجناس الشعرية، تمتد من عوالم الشعر الفصيح إلى العمودي إلى الحر إلى النثر إلى الشعبي، وهذا منتهى الإثارة، لأن من طبيعة الناس أنها تتناغم مع الشعر المثير للدهشة المليء بالإثارة والفوضى؛ الذي يرفض الاستقرار في شكل تقليدي واحد، فالنص يوافقه عادة ما يجري مجراه، وقد فهم موفق هذه اللعبة فتحول في ضمائر محبيه إلى رجل تاريخ، لا مجرد رجل زمن، فرجل التاريخ باقٍ ما بقي التاريخ، أما رجل الزمن فمرحليٌ ينتهي بانتهاء زمانه.

رصد الدكتور الغرباوي تلك النتوءات الحادة في منظومة موفق محمد بعين ثاقبة وعقل متفتح وقلم مثقف ووعي وجدية، وحمل مشرط النقاد المسنون بالعلم والمعرفة ليخوض تجربة جديدة من تجارب العبث الجاد التي يجيد لعبها. ولكي يوصل أبعادها المضمرة في المعنى اختار نتوءات شوارد شعر موفق ليبني عليها نتائج التحليل من مسارات ما بعد الحداثة إلى الموتيف إلى التناص إلى تداخل الأجناس والفنون وأنواعها إلى باقي المسارات: المفارقة، الاستبدالات، أفعال الصيرورة، التكثيف، الحذف، الرمز.

بدأ البروفسور الغرباوي رحلته بعد أن تحدث عن مسارات ما بعد الحداثة تمهيدا بتخصيص الفصل الأول من كتابه للتحدث عن الموتيف لفظة وصورة، لأنه يعتقد أن "الموتيف الذي يوظفه الشاعر يحقق فيه التفاتة جمالية داخل النص في ضوء تكرار فكرة أو كلمة أو حرف أو غير ذلك"(الغرباوي، 2024، 15) والمقصود بالموتيف هو التكرار أو اللازمة مثلما يطلق عليها في الأعمال السينمائية والتلفزيونية، ويستخدم الموتيف في أغلب الأحيان في الأعمال الفنية عادة لأنه يحدث تأثيرا انفعاليا لدى المتلقي، وهو بهذا المعنى يبدو خارج سياق نظم الشعر التقليدي، إذ أطلق المتخصصون كلمة (الإيطاء) ليصفوا بها تكرار الشاعر للقافية نفسها في أكثر من موضع من القصيدة، وعدوه عيبا في القصيدة أو القافية غير مستساغ إذا تكرر في نفس المعنى في أكثر من مكان من القصيدة، ولذا تجنبه الشعراء دائما، وعلى خلافهم وظفه موفق محمد ليخلق من خلاله حالة من الإبهار والدهشة المثيرة، وحقق نجاحا كبيرا فيه. وقد رصد الغرباوي هذه الجنبة باعتبار أن الموتيف واحد من تقنيات مرحلة ما بعد الحداثة، فاعتنى بها في بداية بحثه. وقد أشار إليها بقوله: "وحين سحنا في تجربة الشاعر موفق محمد وقفنا عند موتيفات متعددة وهي تحمل دلالات مكتسبة من السياق"(الغرباوي، 2024، 16.)، بعد أن وجد الشاعر يكرر ألفاظا، ويمنحها في كل تكرار إضافة دلالية، فهي لازمة تتكرر في أشعاره لتشكل أيقونة مهمة داخل نصوصه (ينظر: الغرباوي، 2024، 17.)

ومن المحطات المهمة الأخرى التي شملها الغرباوي بعنايته محطة التناص في شعر موفق محمد، فهو يرى أن "الشاعر موفق محمد عن طريق ثقافته انماز شعره بألوان من التناصات التي تتوافق مع مضامين نصوصه، فمنها العلمانية والدينية والأدبية"(الغرباوي، 2024، 65). وقد رصد الغرباوي شيوع التناص في شعر موفق بنوعيه الديني والأدبي بوصفه مظهر من مظاهر أدب مرحلة ما بعد الحداثة التي تدعو إلى الانفتاح وكسر المركزية (الغرباوي، 2024، 67ـ68)، وقد رصد الغرباوي جملة من حالات التناص في شعر موفق خصص لنقدها أكثر من ستين صفحة من كتابه

فضلا عن ذلك انماز شعر موفق محمد مثلما هو معروف بتداخل الأجناس، وهذا ما اشتهر به، وما انماز به عن غيرة من الشعراء، وقد أولى الغرباوي هذه الجنبة المهمة في شعر موفق عناية واهتماما كبيرتين لأنه يرى "أن تداخل الأجناس والفنون وأنواعها هي من نتاج الشاعر نفسه، يعزز بها شعرية نصوصه" (الغرباوي، 2024، 109). وأشهر أنواع التجانس عند موفق هي الممازجة بين شعر العمود والشعر الشعبي وشعر التفعيلة وشعر النثر، فلطالما لمَّع موفق شعره بالشعبي الذي يكاد يطغى اليوم على الثقافة الأدبية، ربما لأنه وجده أكثر تأثيرا في إيصال فكرته إلى المتلقي.

إن الجنس الأدبي مثلما يرى البروفسور الغرباوي يدل على معنى الأصل، من هنا وجد أن ظاهرة الأجناس والأنواع وتداخلها متفشية في شعر موفق محمد، فهي تتسم بكفاءة تفاعلية مع جنس الشعر الذي له قدر غير قليل من الجذب والاستقطاب (الغرباوي، 2024، 111.)

وقد اهتم الغرباوي فضلا عن ذلك بمواضيع مفصلية في شعر موفق مثل المفارقة والتكثيف والنثر والخطابية؛ التي سنتكلم عنها بإيجاز من خلال ما وضحه الغرباوي بكتابه. وهذه الثيمات الثلاث من التقنيات الفنية المتعددة التي انماز بها شعر موفق لأنها تتوافق مع مسارات ما بعد الحداثة، هذا ما استشفه من قراءته لشعر موفق بعد أن اقتبس عن الفيلسوف الوجودي كير كغارد  قوله: إن المفارقة أسلوب متفوق ينظر إلى الأساليب العادية باستعلاء وترفع، إذ أنه يرحل بعيدا ويتم في دوائر عليا(الغرباوي، 2024، 148)

وقد رصد الغرباوي مجيء المفارقة عند شاعرنا بعدة أساليب مثل أسلوب التناص، والاستبدالات  طالما أن الاستبدال دعوة مرحلة ما بعد الحداثة من أجل التغيير والتحول، وأفعال الصيرورة بوصفها لها دور في تحقيق المفارقة الهادفة (الغرباوي، 2024، 153ـ 158.)

أما التكثيف، وهو من الأساليب الأدبية ولاسيما الشعرية فيأتي في أسلوب الإيجاز وهو أصل بلاغة الخطاب حتى قيل: إن البلاغة في الإيجاز ومنه إيجاز الحذف والإضمار والرمز والمجازات(الغرباوي، 2024، 160.)

وأما النثرية والخطابية التي بدت واضحة في فوضى أدب ما بعد الحداثة فقد شخص الغرباوي انضوائها تحت عباءة كثير من قصائد موفق ركب سرجها لأنها من صور الواقعية الثورية التي تكرر ورودها في أشعار الشعراء الثوريين.

وبالمحصلة تجاوز البروفسور الغرباوي في كتابه هذا مرحلة النقد الأدبي التقليدي المتداول اليوم في الساحة العراقية على وجه التحديد، وأسس لمشروع نقدي ناهض يرتكز على أسس علمية مهنية تتنوع فيها الاشتغالات النقدية وفق متطلبات النص المنقود، فأجاد وأبدع وهذا ديدنه في جميع مؤلفاته النقدية الأخرى، فهو صياد يقتنص الفرص ولا ينتظر أحدا ليرشده إليها.

يذكر أن كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" صدر عن دار المتن البغدادية في شهر تشرين الأول/ 2024، وهو بالحجم الوزيري، وبواقع 190 صفحة، تزين غلافه صورة تجمع المؤلف بالشاعر، ويعتبر إضافة جديدة لمدرسة النقد العراقية الأكاديمية.

***

الدكتور صالح الطائي

في المثقف اليوم