قراءة في كتاب
عبد الهادي المظفر: لغةُ الرفاعي الشاعرة
![](/images/1/abdulhadi_almudafar.jpg#joomlaImage://local-images/1/abdulhadi_almudafar.jpg?width=&height=)
غالباً ما كان يغلّبُ العقل في تحليله للخطاب، سواء كان ذلك الخطاب رمزيّا أم فكريّا مفتوحاً على تأويلاتٍ متعددة، عبد الجبار الرفاعي، المؤثّر الذي مر بتمرحلاتٍ قال عنها أنها تجارب أفادته في سبر أغوار النفس البشرية، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. لم يكتب يوما من وحي خواطره جزافاً، بيدَ أنّهُ لا مرجعيّة له دون تفكيك خطابها وإعادة إنتاجه بما يتلاءم ورؤاه في الحياة والناس والدين، مشتغلا على مساحةٍ من التجديد مع ما اشتغل عليه من علم الكلام الجديد، لا يعتقدُ بفكرٍ من ألفه ليائه ما لم يشذّبه من العوالق حتى قال:" لا أتفاعلُ مع المتصوّفة الذين يبتعدون عن الحياة" في الوقت الذي يرى أن عبد الكريم سروش الذي حفظ عشرين ألف بيت من شعر جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي قد ذهب بعيداً في كتابه الأخير ( كلام محمد رؤى محمد) فانتقده في اللامنطقية التي يعيشها في أن يجعل من هو جدير برسالة السماء بمواصفات لو جُعلت لقيادي عادي أو تاجر لما قبل أن تُدار تجارته بالأحلام!
الكاتبُ بوصفه مرآة المجتمع، لا أحسب الرفاعي إلا أن يتمثّلها، بكون المجتمع مرآةً يرى الكاتبُ فيها نفسه، معيدا وصف الضوء المنعكس بينهما بما يتلاءم وطبيعة المجتمع، متربّعا عرش عضوية المثقف الهابط من عرشه الى بساط الوضوح، مع الحفاظ على شاعرية اللغة وواقعية المنهج دون الإبتعاد كثيرا عن مساحةٍ من لغة الخواص التي يحتفظ بها لنفسه، ولمن يرتقي سلّم معرفته جيدا كإنسانٍ ومفكّر وفيلسوف.
وبذلك فلُغة الرفاعي السهلة الممتنعة لا تجدها في كثير ممن سبقوه من إقفال اللغة الملأى بالمصطلحات والرموز، فككَ معجميّتها مع الحفاظ على المصطلح من التهرّؤ، فصار بمُستطاع الجميع الولوج لعوالمه مما يفهمه العربي المعاصر من لغتهِ، منشئا لغته الخاصة التي تعتمد على السبك في القالب المركزي لها، القابلة لإعادة الصياغة، العصيّة على الإنتحال، فهي على سهولتها وامكانية إعادة الصياغة تكتنزُ شعريةً فذّة، تذكّرنا بكتابات المتقدّمين ممن كتبوا في الدين والسياسة، منطلقين من أصول تتدلّى بلاغةً وشاعريّة، تلك الشاعرية التي لا تحتاج لأحفورات معجمية غير متداولة غالبا. يقول الرفاعي في كتابه (مقدمة في علم الكلام الجديد) حينما يصف النبي ص: "مستعدا لتحمّل هذا القول الثقيل، دون أن يصيبه ضعف أو هشاشة أو وهن أو انكسار أو انهزام، تحمُّل هذا النوع من القول يتطلب صلابة وقوة لا يحققها إلا التكامل في وجوده، تكامل وجوده وتسامى إلى مقام مكنّه من تلقّي هذا القول الثقيل بإيمان، ويقظة وثقة وإرادة لا تلين، وصلابة لا تتهشّم، وإصرار لا يتزلزل، وعزيمة لا تتفسخ، وحماس لا يخمد، كان إيمانه يقظا متدفقاً كالشلال، قلبه مضيئا بإشراق الأنوار الإلهية، روحه مترعة بالسكينة والسلام، بصيرته تتجلّى عليها أنوار الحق". بهذه اللغة الشاعرية خاطب الرفاعي الجيل الجديد -جيل التكنولوجيا والإملال- بانسيابية متدفّقة شعرا لا تُصيب القارئ بملل، ولا تُذهب بعقله للشرود بعيدا عن مطالبه، جاعلةً منه متمسّكاّ بأستار حرفه، ناسكاً بأسرارِ حرفتِه، ذاتُها التي خاطب بها الجيل الجديد في كتابه: (ثناءٌ على الجيل الجديد) بادئاً تلك العاطفة الأبويّة الحقيقية، لا "أبويّة الكاتب المُنشئ " قائلاً:" تعلّمتُ من أبنائي أكثر من آبائي، ومن تلامذتي أكثر من أساتذتي".
يُحيلُك الرفاعي لنظريّة سلوكية في علم النفس، وهي (القطع والتواصل)، وأقول القطع كونه العتبة الأولى للتواصل فمن يقطع لا يتواصل، وكيف أوصى علماء النفس في واحدة من أهم قواعد التواصل مع الآخر أن تستمع له حتى يُنصت لك بكل جوارحه، هكذا فعل الرفاعي وكأنه يستنطق الجيل الجديد مستمعا لحديثه مستكملاً مستدركا ما يقول، تتحرّك ملامحه فينفعل مع قولهم وينجح في إثارة القارئ وهو يقرأ حروفه العاطفية مع تصوّر تام في تغيّر ملامحه.
يُترجم الرفاعي حركات وسكنات الشاب صعودا حتى يصل معه لمرحلة البناء الصاعد للقواعد من الأسس، علاقة الحب وتوطيدها كعتبةٍ أولى للوصول للعلاقة مع الله، يقول: " تنبعُ حاجتنا للدين من حاجتنا للإطمئنان النفسي" ويقول: " الدينُ لا يموت، ما يموتُ هو الصور المتوحّشة العنيفة عن الله التي صنعها الإنسان، ما يموتُ هو كل شيء صنعه الإنسان"، هكذا يفعل في إعادة هيكلة العلاقة مع الله مارّاً بمحطّات غاية في الأهميّة منها توصيف عصرنا " بالتفاهة " قائلا: "وكأن العصور السابقة ذهبية ولم تنته بالتوحّش الذي قتل الإنسان وأباد البشرية في حربين عالميتين، سبقتهما استعمار الأمريكيتين وسلخ جلود السكّان الأصليين، ثم تبع كل ذلك الحروب والظلم واحتلال فلسطين الى يومنا هذا!".
يُعيد الرفاعي بناء جسور التواصل مع الشباب الذين يرى فيهم التخصّص والعبور الى ما كنّا نراه من نوافل المعرفة، كالترجمات واللغات والسياحة وحتى طرق تحضير الطعام، مؤكدا على أن هذا العصر هو عصر القرية الكونية والتنوّع، والمزيد الذي إن لم تعطه ما يزيد، طلب المزيد، عصرٌ يرى فيه الشاب كل شيء خارج أسوار اللغة والعادات والتقاليد والأعراف، وأحيانا حتى الدين، مشكّلةً لديه أسئلة تحتاج للإجابة، وهو واجب المؤسسات التي لم تعطِ سوى الأرستقراطية الأبوية المهيمنة في الإجابة على ما تُحب من الأسئلة، رافضةً كلَّ ما من شأنهِ تثوير العقل خارج تلك الهيمنة.
***
عبد الهادي المظفر – كاتب عراقي