قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: مدائن "ياسين عدنان" المعلقة!

كاتب رائع بارع، وكتاب أشد روعة وبراعة.. إنه كتاب (مدائن معلقة) للأديب والإعلامي المغربي ياسين عدنان، وهو العدد التاسع والثمانين من سلسلة الإبداع العربي التي يرأس تحريرها الشاعر علي عطا وتصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.

أما ياسين عدنان فهو معروف للكثيرين من خلال عدة نوافذ إعلامية يطل من خلالها على جمهوره العريض. فله في قناة الغد برنامج "بيت ياسين"، كما قدم برنامج السهرة الثقافي على التليفزيون المصري، وعلى التليفزيون المغربي له برنامج "مشارف" الثقافي. وهو عضو من أعضاء مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر". وهو مدير مهرجان مراكش للكتاب الإنجليزي.

كتاباته السابقة كانت كلها أدبية تراوحت بين الشعر والقصة والرواية، فبدأ بالشعر وكتب: (مانيكان- دفتر العابر- لا أكاد أري- الطريق إلى جنة النار). وفى القصة كتب: (تفاح الظل- فرح البنات بالمطر الخفيف- من يصدق الرسائل؟). وله رواية واحدة هي: (هوت ماروك).

أما كتابنا هذا فهو ينتمي إلى أدب الرحلات، لكنه مختلف النكهة والأسلوب عن أي كتاب أدب رحلات معاصر. إنه أسلوب أديب متمكن من أدواته اللغوية والبلاغية. فكأنك تقرأ رواية أو مجموعة من القصص والحكايات. لا تكاد تبدأ في قراءة المقدمة حتى تجد نظرك يجري على السطور يلتهمها في شغف واستمتاع ولهفة لما سيأتي.

الأمر الأكثر وضوحاً في منظوره للرحلة أنها الناس والصحبة، وأن رحلاته لا تكتمل متعتها إلا في وجود آخرين، يقول: (للسفر بهجة لا تكتمل إلا بمشاركته مع الآخرين. في الطفولة، كنت كلما سافرت إلى مكان استعجلت العودة لأحكي سفري لشقيقي طه. كنت موزعاً بين متعة السفر ولذة حكيه. وكلما طال السفر كنت أخشى على مَحكياتي من أن تتبدد، فأشرع في تدوينها ضمن رسائل مطولة. تلك الرسائل كانت تدريباتٍ أولي على تدوين أسفاري).

لقد جمع ياسين أسفاره ورسائله ونقحها وضمها في كتابه الثري الدسم هذا، والذي شمل أسفاره خلال عشرين عاماً بدأها منذ عام 2002 وحتى عامين مضيا. لقد بدأ ياسين كتاباته الأدبية منذ عام 2007، فكان يتحدى بطريقة لم يسبقه لها أحد، يقول: (في السابق، وفيما يشبه التحدي الذاتي والأدبي، كنت مهووساً بتدوين يومياتي شعراً. هوس سكنني طوال الفترة بين 2007 و2011 التي استغرقتها كتابة "دفتر العابر"!).

حكايات ياسين عدنان تبدو على الدوام طازجة حماسية نشطة كأنه يكتب ما رآه فوراً. والسر في هذه الفورة الداخلية والحماسة الملتهبة أنه كان يتابع الكتابة لحظة بلحظة أثناء رحلاته. يقول عن هذا: (كنت حريصاً على عدم إرجاء الكتابة. أحب الالتقاط الطري لروح المكان، والتدوين المباشر للحدث قبل أن يخمد جمر الدهشة بين جوانحي. أحياناً كنت أكتب في المطارات، وفى محطات العبور. فأن تجد نفسك مركوناً لساعات على سبيل الترانزيت في مطار فرانكفورت، أنت العائد من ستوكهولم باتجاه مراكش، لم يعد مصدر قلق عظيم. إذ بالكتابة حوّلت ورطة الترانزيت إلى فرصة، ومحنة الانتظار إلى منحة.)

تحول حبه لمشاطرة تجاربه إلى تواصل فعال مع أصدقائه على السوشيال ميديا، وهو يتحدث عن تلك المرحلة فيقول: (السفر الذي لا تكتبه ليس سفراً. فبهجة السفر لا تكتمل إلا بمشاطرته الأصدقاء والقراء. وجدت بعض العزاء على جداري الفيسبوكي المفتوح على مختلف الأجواء والأرجاء ومحطات الترانزيت. هكذا انتقلت من الشعر العصيّ المعاند إلى كتابة أكثر خفة وطلاقة.)

عندما جاءت أزمة وباء كورونا، وبقي الجميع في عزلتهم القسرية خلف جدران بيوتهم، وجد ياسين الفرصة سانحة للعودة لتلك التدوينات ليعيد قراءتها وكتابتها بأسلوب جديد. وعن هذا يقول: (مثلما يعود التاجر المفلس إلى دفاتره القديمة، وجدتني أيام الحجر الشامل والعزلة الكورونية الخانقة أعود إلى هذه التدوينات أعيد قراءتها فأنتعش.)

أصدقاؤه حاولوا إقناعه بصرف وقته في متابعة مسلسلات نتفليكس المشوقة لكنه قاوم تلك الدعاوى بإصرار، ورفض الاستسلام للارتخاء الكسول أمام الشاشة، على حد تعبيره. وفكر أن ينصرف إلى مكتبته ليقرأ كتاب "دون كيخوتي دلا مانتشا" الذي يتجاوز الألف صفحة، لكنه تردد. هنا لم يجد بداً من تحويل تدويناته إلى عمل يضمها جميعاً بين دفتين. يقول: (.. لذلك عدت إلى تدويناتي القديمة. هي فرصتي لأجتر تلك الأسفار. أستعيد الشخوص والأمكنة برهافة وحنين. عدت إلى كنانيش قديمة سابقة على زمن التدوين الإليكتروني فوجدت بها عدداً من اليوميات التي لم أوفق فى تقطيرها شعراً عبر "دفتر العابر". باشرت تجميع وتنسيق هذه لنصوص، نكاية بحظر السفر والتجوال، لأقترحها على أصدقاء العابر فى "مدائن معلقة". ورغم أن "دفتر العابر" كتاب شعري وهذه التدوينات سرد نثري، فإنني أعدها امتداداً له، حتى لتكاد تشكل جزأه الثاني. فمهما تعددت الأجناس الأدبية وتمايزت، فالسفر واحد.. وكذلك بهجته).

إن كتاب (مدائن معلقة) لمؤلفه صاحب القلم الرشيق (ياسين عدنان) هو بحق كتاب متفرد، يمزج الأدب بالمشاهدة بالتجربة الإنسانية بالتاريخ. أسلوبه بديع، ومحتواه دسم مشوق يستحث قارئه على الاستزادة، فلا يكاد يشرع في قراءته حتى يجد نفسه مشدوهاً مشدوداً كالمسحور حتى يبلغ دفته الأخرى ولم يبلغ شوقه مداه بعد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم