قضايا
نورالدين حنيف: انتصارُ الفسائل.. رؤية مختزلة ضد العدمية

تصطادنا في نسغ الحياة اليومية مقولات عدمية تقول بأن الفساد أكبر من أن يصلحه عطّارو هذا الزمن. وأن الخواء استشرى حتى تقزّم العمارُ وانتفى.
ونحن حينَ ننساب في هذه الشباك العدمية نكون قد استجبنا لشرطين: الأول هو شرط العدمية الرخيصة المتأتية من قناعات شخصية دبّت إلى حيواتنا دبيب النمل الخفي على الصخر الأملس في الليل الأدمس... والثاني هو شرط العدمية المدروسة والممنهجة والمُبيّتة والبانية تسرّبها الخفيّ على مرجعية غيرية تروم اقتلاعَنا من جذورنا المتفائلة ديناً وفطرةً، انطلاقاً من قناعة هذه الغيرية باندحار مشروعها الحضاري في مقابل انبعاث الذات الإسلامية بفلسفتها القويّة والعاملة على عمارة الأرض حتى آخر رمق. (عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها)1.
هي إذن تلكمُ الفلسفة المحمدية القاضية بعمارة الأرض حتّى النزع الأخير في البشرية، تأسيساً لمفهوم حضاري لا يرى في الوجود وجوداً مأزوما على الدوام، ولا يرى فيه وجوداً متروكاً للصدفة الفاسدة والمفسدة، تعيث فيه ما شاءت وكيف شاءت، ولا ترى فيه وجوداً قلقاً ينتحر في كل مرة يفشل فيها في استيعاب المعنى خارج الله.
إنها – وأقصد الفلسفة المحمدية - نظامٌ على منهج يفتحان في وجه الأزمة، وإن شئنا تعبيراً غير مستورد، نقول في وجه الابتلاء كل الإمكان البشري لتجاوز لحظاتها العصيبة في غير جنوح مرَضِيّ وفي غيرِ نزوع انتكاسي يعطّل في الإنسان حاسة البياض الجميل والمتفائل.
إن ما يوجّه الإنسان المسلم داخل هذا المتاه، مقروءٌ في كتاب الله، باعتباره المصدر العلوي الذي يقرأ الإنسان والكون قراءة متعالية فوقية عارفة لا بحاجات هذا الإنسان وهذا الكون، وحسب، بل هي عارفة بأسرارهما وبتحولاتهما الظاهرة والباطنة والراهنة والاستشرافية، بشكلٍ يحسم في بناء القناعات الإيمانية بناء صارما وقوياً ومفتوحاً على الإعجاز الخارق. إلا أن هذه القناعات الصارمة يقرؤها المتعالمون والميالون إلى التفسير المادي، قراءة عرجاء وهوجاء تلهج بأن هذه القناعات الاعتقادية الخارجة من مشكاة الله (تعالى شأنه) هي ثوابت جامدة تحول دون حرية الإنسان، ومن ثمة فهي في نظرهم القاصر، معيقات للنفس البشرية الباحثة عن استوائها الممكن.
والاستواء في المنظور الإسلامي هو الاعتقاد بالامتلاء وبالعمار، وليس الاعتقاد بالخواء والعدم الذي يؤطر الرؤية الفردية والجمعية في حال وقوع الأزمة والابتلاء، وفي حال تمادي هذه الأزمة وذاك الابتلاء. إن الاعتقاد بلاجدوى القيم والأخلاق والمعتقدات هو صميم الهزيمة النفسية المؤدية إلى الهزيمة في شموليتها وارتداد الإنسان إلى القناعة الخاوية أن هذا الوجود لا معنى له وليس له فائدة. وهو صلب الرؤية العدمية المثبّتة للفساد والمشجعة لابتزازه كل الطاقات الممكنة في تفاؤل الإنسان بالقضاء عليه أو على بعضه، أو على أقل تقدير، إخراجه من حالة الشرعية المزوّرة إلى حالة التجريم.
***
نورالدين حنيف أبوشامة
..................
1- مسند الإمام أحمد 3 / 183، 184، 191 مسند الطيالسي 2068، البخاري في الأدب المفرد رقم: 479