قراءة في كتاب

محمد عطوان: من نظرية الأصل الإلهي للسُلطة السياسيّة إلى نظرية الأصل الإنساني

قراءة في كتاب: (المُفكر والأمير) للدكتور علي عباس مُراد

ينطلق كتاب (المُفكر والأمير) للمؤلف الأكاديمي الدكتور علي عباس مُراد من فكرةٍ منهجيّة مفادها أنّ تحوّلاً نظريّاً جوهرياُ عصف ببنيان العقل الكنّسي الذي ساد أوروبا زمناً طويلاً، قاده فلاسفةُ الإصلاح الديني في بدايات القرن السادس عشر؛ عندما قلبوا من خلاله المنظور الفلسفي والسياسي للعالم رأساً على عقب؛ فحوّلوا المنظور السياسي اللاهوتي للسُلطة إلى منظور سياسي دنيوي من صناعة الإنسان ومخرجات ونتائج ذِهنه.

لقد أخذت نظريّة الأصل الدنيوي للسُلطة في الحُقبة المُمتدة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر (1500 – 1800)، وبحسب مُخطط المؤلف، مساراً تطوّريّاً تصاعديّاً، بدأ بوضع لبنات السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة، والدولة الوطنيّة الموحدة القويّة (عند ماكيافيلي).. تلاه البحث في موضوعة السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة ذات السيادة (عند بودان)، ثم تطوير السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة المُطلقة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحمايّة المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة (عند هوبز)، ثم تقيّيد السُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة الليبراليّة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحماية المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة، وصون الحريّات الشخصيّة (عند جون لوك)، ثم التنظير للسُلطة السياسيّة الواقعيّة النفعيّة المُقيدة الليبراليّة الديمقراطيّة ذات الأصل الإنساني المدني المسؤولة عن تحقيق الأمن وحمايّة المِلكيّة الاقتصاديّة الخاصة وضمان الحريّات الشخصيّة (عند باروخ سبينوزا).

كما هو معلوم، سبق ذلك استهداف الرأسمال الرمزي السابق الذي اشتغلت عليه الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة زمناً طويلاً، بتقويضه من داخل الكنيسة نفسها، لمّا خرج الفقهاء الإصلاحيّون أنفسهم يوجهّون سهام النقد لرجالات الكنيسة ويتهمونهم بالفساد وخداع الناس.. يشير الدكتور مُراد في هذا الشأن إلى عبارة أسقف ميندي غليوم أو وليم دوران Guillaume Durand, or William Durand  وهو ينتقد سلوك كنيسة روما أمام مجلس فيينا، مفادها: "لا يتحققُ الإصلاح إلا بتطهير كنيسة روما نفسها من قياداتها الروحيّة السيئة" [ص150].

مثّلَ هذا النقد تقويضاً عمليّاً لشرعيّة البابا، وتجريداً لسُلطاته الروحيّة والزمنيّة، وسط غياب كُل ما يُمكن أن يُساءل ويُحاسب المؤسسات الدينيّة عن أعمالها. لقد أحدث [هذا النقد] انقساماً بين أفكار الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة السائدة والكنّائس البروتستانتيّة الصاعدة كـ اللوثريّة والكالفينيّة والأنغليكانيّة، ما عَبّدَ الطريق لظهور بشائر عصر نهضوي جديد أشاع معه روح التفكير النقدي، وقيم الفرديّة التي أثّرت بشكلٍ كبير على علاقة الناس بالكنيسة؛ الجهة الوسيطة الواصلة بين الله والإنسان.

ـ حول أسباب الإصلاح الديني والسياسي

يعرض كتاب (المُفكر والأمير) في الفصل الرابع منه (مُقدمات التحوّل في الفكر السياسي الغربي الحديث) لمسألة التحوّل في المسار الإصلاحي الديني/السياسي منذ القرن الثاني عشر (1200-1100) في فرنسا، بفعل ظهور حركات دينيّة – اجتماعيّة كـ الألبيجيّين Albigeois، والكاثاريّين catharsis، والوالدانيّين Waldensians، وهذه الحركات جوبهت، معظمها، لحظة طرح فرضياتها الإصلاحيّة، بأولى حَملات التصفيّة الصليبيّة التي شنّها بابوات الكنيسة الكاثوليكيّة عليها، بغيّة تفنيدها واستئصال شأفتها.. بالطبع لم تتوقف مُحاولات الإصلاح عند هذا الحد، بل استمرت طوال القرنين الثالث عشر والرابع عشر (1200 - 1400) بالتشكّل على يد مُفكرين من قبيل: دانتي إليغري Dante Alighieri (1265 - 1321)، ومارسيلو بادواMarsile de Padoue  (1275 -1342) وجون الجندواني John Of Jandun (1275 -1325)، وجون هَسJohn Hus (1369 - 1415).

وكذلك، لم يتوقف الإصلاح عند هذه الحدود (التي جابه فيها دعاته حُماةَ الكنيسة بأدواتٍ متواضعة)، بل استمر يتشكل في مراحله المُتأخرة أيضاً؛ عندما بدأ الألماني مارتن لوثر Marin Luther (1483 – 1546)، في العقد الثاني من القرن السادس عشر، وهو الذي كتب ما يربو على الـ (95) أطروحة احتجاجيّة، وعلّقها على باب كنيسة فيتمبرغ Wittenberg في ولايّة ساكسونيا علناً، بالاعتراض على ما كان يُطلق عليه بيع صكوك الغفران، وهو التصور الشائع لشراء الخلاص من الخطايا. فكان أن دعا ومن معه من الإصلاحيّين إلى أهميّة العمل بالإنجيل والعودة إلى المسيح كمرجعيتين تأسيسيتين، وإلى إطلاق العبارة الشهيرة في حينها: "المسيح أولاً والإنجيل أولاً" [ص153].

أسّس هذا المُعطى إلى نشأة حركة الإصلاح الاحتجاجيّة/ البروتستانتيّة، التي شارك في تأسيسها ونشرها كُل من مارتن لوثر Marin Luther ومعاصره القس الكاثوليكي واللاهوتي السويسري أولدريخ زوينغلي ) Ulrich Zwingli1484 – 1531)، وخلَفه القس الكاثوليكي واللاهوتي الفرنسي جون كالفن John Calvin (1509 – 1564). وهؤلاء ساعدوا، رغم التباين في أطروحاتهم، في تأسيس نظريّة الأصل الإنساني للسُلطة مُقابل تواري نظريّة الحق الإلهي السابقة، عبر: نفي مزاعم الكنيسة عن حقها في السيطرة على الحُكام والحُكومات والتحكم بإرادتهم، والدعوة إلى استقلال السُلطة السياسيّة عن سُلطة الكنيسة والبابوات، والفصل الوظيفي ما بين الديني والسياسي [ص161].

لقد بدت هذه التحوّلات عنيفة للوهلة الأولى، على الرغم من أنّ الإصلاحيّين الذين مثّلوا تلك الحُقبة لم يكونوا إنسانيّين فعّالين (Christian humanists) لكنّ منظورهم العقائدي عن الإيمان، بوصفه مسألة فرديّة، ووصفهم للعلاقة التعبديّة المباشرة بالخالق، منحهم دوراً مؤثراً في الحركتين الفكريّتين الإنسانيّة والاجتماعيّة/السياسيّة [ص154].

وعقب العمل بثنائيّة (القديس والقيصر) التي عبّرت عن حُقبة تبشيريّة دار الصراعُ والتعاونُ فيها ما بين السُلطتين الدينيّة والزمنيّة، وحيث الدين كان الأساس للشرعيّة السياسيّة فيها، وهو ما عبّر عنه الباحث الدكتور علي عباس مُراد في كتابه السابق (القديس والقيصر - دار قناديل/ 2020، بدأ العمل بثنائيّة (المُفكر والأمير)، وهي الثنائيّة التي حملها عنوان كتابه الجديد - الصادر عن معهد العلمين/ 2025.. ولقد مثّل هذا التحوّل ظهور حقبة زمنيّة صار فيها العقل الإنساني أساساً للشرعيّة.. فلعب المُفكرون فيها أدوارَ رئيسة في صوغ الأفكار الإنسانويّة التي حدّدت نطاق السياسة العمليّة داخل المُجتمع.. وبدأ مُفكرون مثل نيقولا ماكيافيلي، وجان بودان، وتوماس هوبز وجون لوك يقدمون أفكارهم الدنيويّة بشأن السُلطة والحُكم وتحقيق القيم الفرديّة.

ـ ماكيافيلي والواقعيّة السياسيّة:

في الفصل الخامس المعنون: (ماكيافيلي والتأسيس للدولة الوطنيّة الحديثة) حاول ماكيافيلي Niccolò Machiavelli تحديد القواعد العمليّة في السياسة التي يتوجب على الأمير إتباعها إذا ما أراد إقامة دولة وطنيّة موحدة، ومستقرة وقويّة، حتى لو خالفت قواعدها الدينَ والأخلاقَ والقوانين، لأنّها قواعدٌ تصنعُ دينَها وأخلاقَها وقوانينَها عن نفسها بنفسها).. كانت أفكار ماكيافيلي في كتابه (الأمير) تمثلُ الضوء المُوجّه نحو العتمة، نحو "أمةٍ مات قديمها، ولم يولد جديدها بعد" [ص288].. فكان الدكتور مُراد يشير - عبر تضمين هذه الأفكار - إلى قراءة ماكيافيلي للمشهد السياسي في إيطاليا؛ قراءته كما هو في الواقع التاريخي المادي، لا كما في سياقه الميتافيزيقي المُتمنى.

لقد حاول الدكتور مُراد اظهار ماكيافيلي ليس بصورته السلبيّة التي صوّرها له مناهضوه ومنتقدوه، الذين وصفوه بـ اللامبدئيّة والخداع والكذب والتدليس، وحُكم المصالح المحضة، ليبخسوه حقه، ويُنكروا عليه دوره الحاسم في تأسيس فلسفة واقعيّة عمليّة. بل قدّمه باحثاً عن فكرة العمل السياسي وفن إدارته كما هي، لا كما نُحب أن تكون [ص288]. هذا القلب للفكرة السياسيّة في أن تكون واقعيّة تاريخيّة، مهّد لمناهضة نظريّة الأصل الإلهي للسُلطة، مقابل ظهور نظريّة الأصل الإنساني لها. بذلك امتازت مؤلفاته – من وجهة نظر شُراحه - بالدقة والأسلوب الجلي، والتأسيس للسياسة الواقعيّة والعمليّة في عموم أوربا.

ـ جان بودان ومفهوم السيادة

ما كان يرومه جان بودان Jean Bodin في كتاباته الفلسفيّة هو التوصل إلى حل توفيقي للجماعات المُختلفة داخل الدولة الواحدة؛ وهذا الحلُ يتحقق في ظل وجود سُلطةٍ مركزيّة مُطلقة سائدة، لا يُنازعها على سُلطانها أي سُلطان آخر داخلها وخارجها، لا سُلطان إقطاعي ولا سياسي ولا حتى ديني. فأظهر بودان مفهوماً جديداً داخل السُلطة أُطلِق عليه مفهوم السيادة، وهو مفهوم لم يكن مقدوراً التعبير عنه بوضوح في العصور الوسطى. لقد ألهم بودان المُفكرين الإنسانيّين الدنيويّين بأهميّة المُحافظة على الوحدة والسلام والاستقرار داخل المُجتمع.. ذلك ما كان يتطلب من الدولة أن تكون مُتعاليّة على الخلافات الدينيّة والمذهبيّة، ومالكة للسُلطة والقوة والإرادة، ما يجعلها قادرة على، وراغبة في منع الجدل الديني الباعث على الشقاق والنزاع. كما تلزم الأطراف المُتعارضة بأن يكون الجدل سلميّاً بينها، والإقناع والاقتناع سبيلاً لبلوغ التوافق الذي يُجنبها الصراعات الدينيّة والمذهبيّة.

لقد ركّز بودان على فكرة الاعتراف بالتعدديّة الدينيّة (بصورة عامّة)، والمذهبيّة (بصورة خاصة) والتمسك بالوحدة الوطنيّة، خياراً وحيداً لحل مُشكلة الانقسام والصراع المذهبي في فرنسا. كان بودان – بتعبير الدكتور مُراد - يخشى من نتائج الخلافات والصراعات المذهبيّة، وما تسببه من حروبٍ أهليّة داميّة، فحاول أن يتلمسَ، وسطها، طريقه إلى الأمن والهدوء والاستقرار، فسبق بذلك الإنكليزي توماس هوبز بحوالى نصف قرن إلى التأسيس للسُلطة المُطلقة، فِراراً من فوضى ومخاطر الحروب الأهليّة المذهبيّة - السياسيّة التي عاشتها فرنسا بين الأعوام (1550 – 1580)، وهدّدت بتمزيقها [ص343].

ـ توماس هوبز والسُلطة المُطلقة

في المبحث الخاص بـ (الدين والدولة) جعل توماس هوبزThomas Hobbes  الدين نزعةً خاصة بالإنسان، وليس شيئاً بعيداً عنه، فقال: "لا توجد علامات وثمار للدين إلا في الإنسان وحده، لأن بذرة الدين موجودة في الإنسان أصلاً"، بخاصة عندما يقف ذلك الإنسان عارياً أمام غوائل الطبيعة. فالدين عند هوبز مبعثه خوف الإنسان من الأشياء التي يجهلها، الأشياء غيّر المرئيّة.. والدين (وهذا هو المُهم) هو البذرة الطبيعيّة المودعة في تربة ذلك الإنسان [ص400]. لقد نمت هذه البذرة باختلاف تخيّلات وأحكام وأهواء الناس عن الدين، ليُصبح الدينُ طقوساً ومنظوماتٍ فقهيّة تقف بإزاء طقوسٍ ومنظوماتٍ فقهيّة شتى، تتبناها الجماعاتُ المُختلفة فتتصارع فيما بينها لتدافع عن فكرة الايمان المُتبناة. هذه البذور التي صارت أديان تقاسمها نوعان من البشر: النوع الأول الذين غذّوها ورتبوها تبعاً لما ابتكروه منها بأنفسهم، فعبّروا عن علاقتهم بالعالم الروحي الذي يَصنعونه لأنفسهم. والنوع الآخر من الدين هو المُعبَّر عنه بالأوامر والتوجيهات الإلهيّة. وكلتا الفرضيتين تُعبر عن غرضٍ محوري رئيس: جعل الأتباع أكثر استعداداً للطاعة واحترام القوانين، وأميّل للسلام والرحمة، وأدعى لقبول فكرة المُجتمع المدني.

بهذا المعنى نجد أنّ هوبز نفى الأصل الإلهي عن السُلطة السياسيّة، بل زاد على ذلك أن جعل الحاكمَ باسطاً يده على حياة ودين شعبه معاً.. كان يرى أنّ التطرفَ في فهم الدين وتطبيقه قوة مُدمرة للمُجتمع. بذلك لم يكن اهتمامه بالمسألة الدينيّة ودور المُعتقدات في الحياة الإنسانيّة دينيّاً، بل كان اجتماعيّاً وسياسيّاً، لأجل الأمن والسلام، بعد تفاقم وتفجر الصراع في انكلترا وأوروبا الغربيّة بين المذاهب الدينيّة نفسها، وبينها على اختلافها والمؤسسة السياسيّة (الحُكام الدنيويّون) منذ أوائل القرن السادس عشر.

لقد ركز الدكتور مُراد على أنّ الفكرة المركزيّة لدى هوبز في دمج الطبيعيتين الدينيّة والسياسيّة أن يضع الناس في مواجهة مُعضلة التعايش الزماني والمكاني، والتفاعل والتكامل الوظيفي بينهما، سعياً لإدارة شؤون الحياة الاجتماعيّة، والسيطرة عليها، والتحكم فيها، مما كان ذلك يتسبب في تنافسهما وجوديّاً، وهو تنافس غالباً ما كان يتسع ويتعمّق ويتفاقم ليصبح صراعاً، ومن ثم صداماً حتميّاً للظفر بالسُلطة والانفراد بها.. فكانت مُحاولاته لحل إشكاليّة العلاقة بين الدين والسياسة أو الكنيسة والدولة، لا تتم بإلغاء إحدى هاتين المؤسستين وإبقاء الأخرى، بل بإبقائهما بحُكم ضرورتيهما الحيويتين الفكريّة والعمليّة للحياة الإنسانيّة [ص404].

ـ جون لوك والسُلطة المُقيّدة

في الجزئيّة المُتعلقة بأفكار جون لوك John Locke حول (القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي) [ص453]، لم يجد لوك تقاطعاً بين القانون الطبيعي والوحي، بخاصة عندما يلعب الإله دوراً في الحُجة التي يستند إليها القانون الطبيعي، طالما إنّ الجوانب ذات الصلة بشخصيّة الإله يُمكن اكتشافها بالعقل وحده. حيث يتسق القانونُ الإلهي والقانونُ الطبيعي، ويُمكن أن يتشابها في المحتوى، رغم عدم تطابقهما بالتمام.. وهُنا يركز الدكتور مراد على ما أشار إليه لوك في عدم وجود مُشكلة في "أن يأمر الكتاب المُقدّس بقانونٍ أخلاقي أكثر صرامة من القانون الأخلاقي الذي يأمر به القانونُ الطبيعي، ولكنّ المُشكلة تكمن في أن يأمر الكتابُ المُقدّس بما يُخالف القانون الطبيعي". لأن الأداة التصالحيّة للتفسير الصحيح للكتاب المُقدّس هي التوافق مع القانون الطبيعي. أما ما يتعلق بمفهوم العقد لدى لوك فقد أعاد صياغة ما جاء به هوبز من قبل، فقال: "الناسُ قليلون في حالة الطبيعة، مع وفرة هائلة في الخيرات، فكانت حياتهم هانئة، لم يعانوا فيها التميّيز ولا التفاوت في التمتع بالخيرات، ولا الصراع عليها، ولا واجهوا المخاطرَ ولا قاسوا المشقات، وكانت هُناك شيوعيّة بدائيّة أو ملكيّة عامّة مشتركة للخيرات [ص456].

وإنّ المُشكلة التي أوجبت العقد هي الزيادة في أعداد الناس، وتناقص الخيرات، حيث بدأ سعي الكُل لحيازة المِلكيّة وتحريمها على الغير، وبظهور المِلكيّة ظهرت النقود التي تسمح بالادخار، فبدأ الخلاف يدب فيما بينهم بفعل تكالبهم على الحيازة وجمع الثروات واحتكار الخيرات، فتسبب ذلك في تحوِّل حالة الطبيعة التي كانوا عليها من حالة الأمن والسلام إلى حالة النزاع والحرب. بسبب هذه التحوِّلات، ولأجل تجنب التصارع الاجتماعي لجأ الناس إلى العقد، والعقد عند لوك كما يورده الدكتور مُراد يمثل الاتفاق على الاحتفاظ ببعض الحقوق، وتفويض بعضها الآخر (عبر التفويض وليس التنازل) إلى سُلطة حاكمة: فرد، أو نخبة، وتخويلها صلاحيّة حُكمهم، لتمنع بعضهم من إيذاء البعض ماديّاً ونفسيّاً، على أن يكون (صاحب السيادة) المفوض نائباً عنهم وطرفاً في العقد الذي يتفقون عليه، وملزماً نحوهم بتحقيق الأمن والسلام، وبخلافه يُجرّد من أهليّة التمتع بالسيادة ومُمارسة السُلطة، ويُسمح للناس بعدم طاعته [ص457].

أما عن التسامح فلم يكن لوك يرغب في تأيّيد هذه المقولة ابتداءً، وكان يؤيد سُلطة الحاكم المدني المُطلقة على أفعال الناس في المُجتمع، مُنكراً بذلك مطالب ودعوات حريّة الضمير والاعتقاد، ومُحذراً من منح هذه الحريّات للشعب، لأنّها ستسوقه وتنتهي به إلى فوضى لا حدود لها، مؤكداً أنّ التسامح من شأنه أن يفتح باباً على العصيان والفوضى وتهديد الوحدة المُجتمعيّة الوطنيّة. وفي الوقت ذاته، نراه أيضاً لا يتعاطف مع التطرف الديني، وكان يرى إلى أنّ الكنيسة المسيحيّة مُلزمة بدعم السلوك القويم والخلق الكريم دعماً شاملاً، وكان أول همّه "وضع المقايّيس والحدود بين العقيدة والعقل" [ص467].

مع ذلك تطوّر فهم لوك عن التسامح في كتابه: (رسالة في التسامح الديني)، بوصفه تسامحاً مشروطاً، عندما أشار إلى الكيفيّة التي يوظف فيها الحاكم تقديره الخاص، وحريّة تصرفه.. لماذا؟ لأنّ إيمان الإنسان لا يخضع لمطالب السُلطة، ولا يوجد سبب وجيه يُجبر ذلك الإنسان على التخلي عن معتقداته الدينيّة بأمر من إنسان آخر، فالناس سواسيّة، والكُل يتحمل المسؤوليّة الكاملة عن معتقداته التي سيتعين عليه الإقرار بها أمام الإله يوم القيامة [ص465].

ـ سبينوزا والسُلطة الديمقراطيّة

إنّ واحدة من الاقتباسات المُهمة التي يُمكن العثور عليها في الفصل المُتعلق بقراءات باروخ سبينوزا Baruch Spinoza التاريخيّة للنص المُقدّس هي ما اقتبسه الدكتور علي عباس مراد من سبينوزا نفسه عندما يقول: "من يبحث عن العنصر الإلهي في الأنبياء، يجب ألاّ يبحث عنه في نبوءاتهم والطقوس والشعائر الشكليّة المُرهِقة، بل يبحث عنه في حياتهم الفاضلة، ودعواتهم لتجسيد الدين في تعاملاتهم اليوميّة القويمة". هكذا، اعتقد سبينوزا أنّ كلمةَ الله تتجسدُ في الكتاب المُقدّس الذي يحتوي على قانونٍ أخلاقي يربطُ الناسَ بالفضيلة، لكنّه يتضمّنُ أشياءَ كثيرة تُحرك فيهم نزعةَ الشر أيضاً، أو تهيئُ لهم سبلَ تَحرِّكها.. ويقتبسُ مُراد فكرة أخرى: "إنّ قصصَ الكتاب المُقدّس ضروريّةٌ لغالبيّة الناس المُنشغلين بهموم حياتهم اليوميّة، ولا يجدون فراغاً أو قدرةً على تنميّة عقولهم، لأنّ هذه القصص، تمثلُ خيرَ عونٍ لهم على تحمل الهموم والتمسك بالأخلاق الفاضلة".

لذلك، كان هدف الدين – من منظوره – تقويم السلوك أكثر من تمثّل العقيدة التي يكفي أن تقتصر على "الإيمان بوجود الله، كعنوان أسمى يُحب العدلَ والإحسان"[ص510]. وأن خيرَ عبادة تؤدى لله، هي حب الآخر ومعاملته بالعدل والإنصاف ولا شيء غير ذلك، فضلاً عن تحرّر الفكر، لأن الله جعل الكتاب المُقدّس أصدق وأشمل تعبيراً عن الوحي الإلهي، ولم يجعله كتاباً مدرسيّاً للفلسفة أو التاريخ أو العلوم الطبيعيّة التي تمثل صوت الله [ص506]. إذن الكتابُ المُقدّس، من وجهة نظر سبينوزا، لا يُلقِّنُ معارفَ عقليّة ولا معانيَ فلسفيّة، بل يكتفي بالدعوة للإيمان بالله وطاعة أوامره فحسب، لأنّ الطاعة وليس المعرفة هي ما يطلبه الدينُ الحق.

أما ما يتعلق بالسياسة فقد قسّم سبينوزا عنوان كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) إلى محورين: ضمّ المحور الأول منه عشرين فصلاً لـ اللاهوت، أما المحور الثاني فضمّ خمسة فصول للسياسة، والتي لم تكن سياسيّة خالصة، بل تضمنت الكثير من التفاصيل اللاهوتيّة. ركّز سبينوزا فيه على النقد التاريخي للكتاب المُقدّس، للكشف عن حقائق الدين، وتفنيد وإبطال كُل مزاعم السُلطات الدينيّة في مُمارسة السُلطة السياسيّة في الدول الحديثة، ومن ثم الدفاع عن الدولة الديمقراطيّة العَلمانيّة [ص514]. لذلك عندما حاول سبينوزا التوسّع والتعمّق في مسألة الفصل بين الدين والسياسة، منح لكُلٍ من الدين والسياسة مجاله الخاص والمُستقل، فهيأ للدولة حق الإشراف في نطاقها السياسي على كُل شيء، بما في ذلك الدين، وأن تكون مصالحُها هي العُليا. فكان للموظفين الحُكوميين فرضَ طاعة القوانين، وللدولة والفرد الحق في حمايّة ذاتيهما.. لكنّه رأى: أنّ الأمر بالنسبة للدين يختلفُ اختلافاً كبيراً عن القانون والسُلطة العامّة لأنه يقف خارج نطاقهما، باعتبار أنّ حُسنَ الخُلُقِ والصِدقَ في الدين، وهذه السجايا لا تنتجها قيود القوانين ولا سُلطة الدولة، ولا يُمكن لأي فرد في العالم أن يتنعم بالسعادة الروحيّة رغماً عنه، ولا أن تُسَن القوانين لإجباره على التنعم بها [ص517].

وعن تفضيله للنظام الديمقراطي فقد كان سبينوزا أولَ مُفكرٍ قدّم في كتابه (رسالة في السياسة)، الأشكال التقليديّة الثلاثة لأنظمة الحُكم في التراث الفكري الإغريقي - الروماني (المَلكي الفردي، الارستقراطي النخبوي، الديمقراطي الشعبي)، والتي قال إنّها لا تختلف عن أشكالها في الدولة الحديثة، ولأجل تحديد شكل النظام السياسي للدولة، لابد من معرفة الهدف الذي وجدت لأجله حالة الاجتماع، والذي هو بلوغ السلام والحياة الآمنة [ص540]. وبالطبع لم يُصرِّح سبينوزا بتفضيله لنظام حُكم مُعيّن، لكنّه جعل قراءه يستنتجون تفضيله لـ (النظام الديمقراطي)، لأنّه حدّد مواصفات هذا النظام بأنّه: النظام الذي يتحقق فيه الأمن والسلام والاستقرار، ويجعل الأفراد مواطنين إذا ما منحهم سُلطة سن القوانين بأنفسهم ولأنفسهم، وفرض طاعتها على أنفسهم ذاتيّاً، وتطبيقهم لها طوعيّاً. وأنّه يجعلهم رعايا إذا ما حرمهم سُلطة سنِّ القوانين ومنحها للحكام المُستبدين، الذين يفرضون على الناس طاعتها قسريّاً، ويرغمونهم على تطبيقها قهريّاً.

وفي سياق مُفاضلة سبينوزا في (رسالة في السياسة) ما بين أنظمة الحُكم (المَلكي، الارستقراطي، الديمقراطي)، شرح عيوب ومزايا النظامين المَلكي والارستقراطي، لكنّه صرحَ بكرهه للنظام المَلكي الاستبدادي المُطلق، وكرس في (الفصل السابع من رسالة في السياسة)، دعوته إلى وجود مجلس استشاري كبير إلى جانب الملك، بما يجعل النظام المَلكي شبه ديمقراطي، بضمان استماع الملك إلى صوت العقل.

***

د. محمد عطوان

في المثقف اليوم